ترجمة وتحرير: نون بوست
بعد دورة كاملة للأحداث، عاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى نقطة البداية في علاقته بسوريا. في بداية حكمه، كان رئيس الوزراء التركي آنذاك حليفا راعيا لبشار الأسد، حتى أنه اقترح في إحدى المرات أن تقضي عائلتا أردوغان والأسد عطلة معًا. لكن العلاقة بين الزعيمين تدهورت بعد أن استخدم الأسد جيشه لقمع الانتفاضة التي اندلعت في 2011، مما أدى إلى تدفق ملايين اللاجئين إلى تركيا.
لم يتمكن أردوغان من إقناع الرئيس باراك أوباما بشن هجوم على سوريا وإسقاط النظام، لذا أبقى على خياراته مفتوحة، وشكّل قوة متمردة عُرفت بالجيش الوطني السوري، ودعم بشكل غير معلن الجهاديين الذين تحوّلوا فيما بعد إلى هيئة تحرير الشام. كان الجيش الوطني السوري في الأساس أداة استخدمتها تركيا لمحاربة الأكراد السوريين الذين كانوا يسعون لإقامة دولة على حدود تركيا. أما هيئة تحرير الشام فكانت مفيدة ضد الروس والنظام، لكن الدعم الروسي للنظام حصر وجودها في محافظة إدلب.
بعد عقد من إعلان أردوغان ضرورة رحيل الأسد، تغيّر موقف الرئيس التركي مرة أخرى، فأرسل مبعوثين إلى دمشق للتفاوض على تطبيع العلاقات. لكن الأسد رفض عرض داعمه السابق، مطالباً الأتراك بسحب قواتهم من الأراضي السورية قبل أن يفكر في المصالحة.
كان هذا هو الوضع عندما أعطى أردوغان موافقته على ما كان يُفترض أن يكون عملية محدودة في حلب تشنها هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني، بهدف الضغط على دمشق لتكون أكثر انفتاحًا على التطبيع. كان أردوغان ومستشاروه يعتقدون أن هذه العملية ستفتح الطريق لعودة ملايين السوريين الذين يعيشون في تركيا، ومنهم الكثير من الأكراد، إلى بلادهم، لكن العملية المحدودة حققت نجاحا مذهلا وأدت إلى نهاية حكم عائلة الأسد.
لا يعدّ تغيير الأنظمة أمرًا تقليديًا في قواعد السياسة الخارجية التركية، والتي التزمت على مدى 101 سنة من عمر الجمهورية التركية بمقولة أتاتورك: “السلام في الداخل، السلام في العالم”. والآن، يجد أردوغان نفسه في موقع جديد وقيادي لتحديد مستقبل سوريا دون وجود الأسد في السلطة. ولا شك في أن الرجل الذي يرى نفسه وبلاده زعيمين طبيعيين للعالم العربي والإسلامي، ينتشي بهذه الفرصة لتشكيل النظام السوري الجديد.
لكن رغم كل المزايا التي تتمتع بها تركيا في سوريا ما بعد الأسد، من المرجح أن يواجه أردوغان تحديات كبيرة. أولى هذه التحديات هي شركاء تركيا: هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري، حيث أن تاريخ الفصيلين المتمردتين يثير المخاوف، وتحديدا هيئة تحرير الشام التي تعود جذورها إلى تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة.
وفي حين أن علاقات هيئة تحرير الشام بتنظيم القاعدة معروفة جيدًا، إلا أن صلاتها بتنظيم الدولة لا تزال مبهمة. وفقًا للاستخبارات الأمريكية، كان لتنظيم الدولة دور حاسم في تأسيس جبهة النصرة، وهو التنظيم الذي قاده زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني. وقد انشق الجولاني عن جبهة النصرة وتنظيم الدولة ليس بسبب خلافات أيديولوجية بل لأن أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم الدولة أراد ضم النصرة إلى تنظيمه، وبالتالي تقويض استقلالية الجولاني.
هذا هو السبب في أن الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتركيا نفسها، قد صنفت هيئة تحرير الشام على أنها منظمة إرهابية، رغم الجهود الإعلامية الحثيثة التي تبذلها الهيئة تحرير الشام لإقناع السذج بأنها فصيل “معتدل”.
من جانبها، لفتت العديد من منظمات حقوق الإنسان النظر إلى العديد من الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها الجيش الوطني السوري ضد الأكراد واليزيديين والنساء. فمنذ تحرير حلب، تركزت التغطيات الإعلامية على هيئة تحرير الشام وزحفها نحو دمشق، لكن خلال تلك الأحداث الدراماتيكية، هاجم الجيش الوطني السوري المناطق الكردية في البلاد.
أما التحدي الثاني الذي يواجه أردوغان فهو تحدٍ أيديولوجي. فهو ومؤيدوه يصرون على أن تركيا دولة ديمقراطية ترتكز على القيم الإسلامية، وهذه هي الطريقة التي ستبرر بها أنقرة أحقيتها -على حساب القوى الإقليمية الأخرى ذات الثقل في المنطقة- في أن تكون اللاعب الأهم في بناء النظام السياسي الجديد في سوريا. لكن حتى لو لم يكن الأتراك صادقين، فإن أردوغان سيواجه مشكلة، وتحديدا فيما يتعلق بهيئة تحرير الشام.
فقد نشر الجولاني رسالة مثيرة للإعجاب ومطمئنة ظاهريًا تشجع اللاجئين على العودة إلى ديارهم بعد رحيل نظام الأسد وتضمن سلامة الأقليات، ويبدو أنه وفى بوعده في حلب وأماكن أخرى، لكن سجل هيئة تحرير الشام في إدلب قمعي، وإن كان أقل بشاعة وعنفًا من سجل تنظيم الدولة.
كما أن هناك تشابها غريبا بين التزام الجولاني المعلن بأن سوريا الجديدة تتسع للجميع، وبين التزام أردوغان في بداية حكمه. في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أعلن أردوغان أنه تغير وتطورت قناعاته مع الوقت وأصبح يقدر المعايير الديمقراطية والعلمانية للحكم. وقد تخلى ظاهريا عن مبادئ نظرته الإسلامية للعالم من خلال الموافقة على استمرار تركيا في حلف شمال الأطلسي والمطالبة بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهما أمران كان يعارضهما لعقود من منطلق نظرته الإسلامية.
مع مرور السنوات، تراجع احترام أردوغان للمعايير الديمقراطية للحكم في تركيا. بعد ما يقرب من 23 سنة من حكمه، أصبحت تركيا أقرب للحكم الاستبدادي الطموح منها إلى الدولة الديمقراطية المستقرة. أما الجولاني، على عكس أردوغان، فقد يكون تغير بالفعل، إذ أكد أنه تراجع عن فكر العنف الجهادي الذي كان يعتنقه في شبابه، لكن لا يوجد دليل على أنه تخلى عن رؤيته المعادية للديمقراطية.
وأخيرًا، قد يكتشف أردوغان قريبًا، أنه مع رحيل الأسد، لم يعد شركاؤه يرغبون بالاستمرار في التحالف معه. طوال فترة حكم أردوغان، ادعت الحكومة التركية أن لديها معرفة خاصة بالمجتمعات العربية، ويستند هذا الادعاء إلى تقارب ثقافي لا يشعر به على ما يبدو إلا الزعيم التركي وكبار مسؤولي الحزب الحاكم. صحيح أن أردوغان يتمتع بشعبية في الدول العربية، لكن ذلك يرتبط في المقام الأول بخطابه المعادي لإسرائيل، أكثر من كونه نتاجا لمعرفة عميقة بديناميكيات حراك المجتمعات العربية، مثلما حدث في سوريا.
لقد بالغ الأتراك مرارًا وتكرارًا في تقييم قدرتهم على إدارة الأزمات في المنطقة وتشكيل مستقبلها، وليس هناك دليل على ذلك أفضل من سوريا نفسها. والآن بعد أن قامت هيئة تحرير الشام والشعب السوري بطرد الأسد من البلاد، فإن حاجتهم لأردوغان أقل بكثير مما كانت عليه قبل شهر، وليس من الواضح ما إذا كان الأتراك يدركون هذا الواقع.
على مدى أكثر من عقد من الزمن، انتقلت المقاربة التركية تجاه سوريا من الاعتقاد الساذج بأن أنقرة يمكن أن تشجع على الإصلاح السياسي في دمشق، إلى اعتماد السخرية والعنف. والآن بعد رحيل الأسد، لن يتمكن أردوغان من كبح جماح رغبته بترك بصمته في سوريا، لكن المشكلة هي أن السوريين، وهو ما ظهر بوضوح في الأيام الأخيرة، لا يريدون المساعدة من أحد.
المصدر: فورين بوليسي المقالة لـ ستيفن أ. كوك وسنان سيدي