تمثل العلاقات العراقية السورية واحدة من أعقد العلاقات الإقليمية في المنطقة، وذلك بسبب تحركها وفق مسارات متعددة ما بين الصراع تارة والتحالف تارة أخرى، إلّا إن الثابت هو أنها علاقات لم تكن على وتيرة واحدة، وتحديدًا بعد وصول الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، والرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد، إلى السلطة في العراق وسوريا.
إذ دخلت العلاقات بين البلدَين في واحدة من أشد العلاقات توترًا في الشرق الأوسط، وتحديدًا خلال الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، ووقوف النظام السوري إلى جانب إيران في هذه الحرب.
وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وسقوط نظام صدام حسين، استثمرت سوريا في عراق ما بعد الاحتلال عبر الدفع بعشرات المسلحين للداخل العراقي في تحالف قوي مع إيران، من أجل عرقلة الاستراتيجية الأمريكية في العراق، ودفعها إلى عدم التوجُّه إلى دمشق وطهران بعد احتلال بغداد، خصوصًا أن إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش، كانت قد صنّفت سوريا وإيران إلى جانب العراق، على إنهم يمثلون محور الشر في الشرق الأوسط.
ونتيجة للأدوار السورية في العراق، فإن هذه الفترة شهدت صدامًا كبيرًا بين سوريا والعراق، وتحديدًا عندما حمّل رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي، نظام بشار الأسد مسؤولية التفجيرات الدامية التي شهدتها العاصمة بغداد خلال فترة 2007-2010، إلّا إن الصورة تغيرت بعد عام 2011.
مثلت لحظة انطلاق الربيع العربي في سوريا، تحولًا نوعيًا في سياق العلاقات العراقية السورية، إذ مثّل المعطى الطائفي أساسًا لإعادة تشكيل العلاقات بين البلدين، وساهمت إيران إلى حدّ ما في تقريب هذه العلاقات، وذلك عبر الربط بين استقرار النظام السياسي الشيعي في العراق، ببقاء النظام السياسي العلوي في سوريا، واعتبار أن التهديد السنّي الذي تمثله قوى المعارضة السورية حيال نظام الأسد، هو تهديد للتجربة السياسية الشيعية في العراق، وهو ما دفع المالكي لفتح الحدود العراقية مع سوريا، وإرسال آلاف المقاتلين والأسلحة والمعدّات إلى سوريا، من أجل منع سقوط نظام الأسد بيد قوات المعارضة.
عبر هذه الأدوار التي مارسها المالكي في سوريا، فإنها أدّت إلى اندفاع العديد من الميليشيات الشيعية العراقية إلى سوريا، بحجّة الدفاع عن المقدسات الشيعية هناك، وكذلك من أجل تأمين تواصل برّي مع “حزب الله” اللبناني، يبدأ من طهران وينتهي ببيروت، ومثّل العراق جسرًا إقليميًا لمرور هذا الممر البري، الذي أصبح فيما بعد الشريان الرئيسي الذي يتغذى عليه نظام الأسد، وتحديدًا عبر عمليات التهريب وتجارة المخدرات.
لحظة التوجُّه نحو دمشق
مع نجاح قوات المعارضة السورية بالسيطرة على حلب، بدأت المواقف السياسية العراقية تتصاعد شيئًا فشيئًا، حتى أصبح بعض القادة السياسيين العراقيين ناطقين باسم النظام السوري، عبر التلويح بالحرب الطائفية التي لن تسمح بأي شكل من الأشكال بإسقاط نظام الأسد، وهذا ما برز واضحًا في تصريحات قيادات الفصائل المسلحة العراقية الموالية لإيران، أو تصريحات مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي.
وفي مقابل هذه الصورة كانت هناك صورة أخرى داخل العراق، مثّلها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، الذي أعلن صراحة عن دعمه السياسي لنظام الأسد، لكنه في الوقت نفسه أكد عدم السماح بإرسال أي قوات عراقية للقتال في سوريا، رغم طلب بشار الأسد ذلك بصورة رسمية، عبر مكالمة هاتفية جمعته بالسوداني قبل أيام من سقوطه، وهي مطالبات أكد عليها وزير خارجية نظام الأسد ياسين الصباغ، الذي زار بغداد صباح يوم الجمعة الموافق 6 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وفشل هو الآخر بإقناع السوداني بهذا الطلب.
عدم إجماع قيادات الإطار التنسيقي الحاكم في العراق على موقف واحد من دعم الأسد، جعل السوداني يتراجع عن فكرة الانخراط في ظل هذا الانقسام السياسي.
ممّا لا شك فيه إن هناك العديد من الأسباب التي دفعت السوداني إلى عدم الانخراط في الصراع السوري، خصوصًا أن التقديرات الاستخباراتية العراقية أكدت عدم تمكُّن قوات الأسد من الصمود أمام تقدم قوات المعارضة، كما أن ما زاد من قناعة السوداني بعدم الانخراط، هو التردد الإيراني بالانخراط بالصراع، وهي المعنية أكثر من غيرها، نتيجة استثمارها الطويل في الساحة السورية، اقتصاديًا وعسكريًا ومذهبيًا.
يضاف إلى ذلك إن عدم إجماع قيادات الإطار التنسيقي الحاكم في العراق على موقف واحد من دعم الأسد، جعل السوداني يتراجع عن فكرة الانخراط في ظل هذا الانقسام السياسي.
إن السبب الآخر الذي دفع السوداني للوقوف على الحياد في هذه الحرب، هو أن الوضع السياسي الجديد في سوريا أصبح خاضعًا لإرداة الشعب السوري، وليس أي إرادة أخرى، وهو ما أكدته عملية فشل حوار الدوحة في ضبط مسار هذه الحرب.
ففي الوقت الذي توافق فيه المجتمعون في الدوحة، وتحديدًا تركيا وإيران وروسيا، على عملية انتقالية بين المعارضة ونظام الأسد، كانت قوات المعارضة تسيطر على وسط دمشق، في الوقت الذي هرب فيه الأسد إلى موسكو، وبالتالي هذا الاستقراء المسبق لمجريات الساحة السورية، دفع السوداني إلى سوق أسباب عديدة لعدم الانخراط في صراع المنتصر الوحيد فيه المعارضة السورية.
نظرة لمرحلة ما بعد الأسد
يمكن القول إن المواقف المتصاعدة القادمة من العراق، وتحديدًا مع الساعات الأولى لسقوط نظام الأسد، تشير بشكل أو آخر إلى تبدُّل واضح بالقناعات السياسية العراقية، عبر الاعتراف بالوضع السياسي الجديد، والدعوة إلى عملية سياسية يسودها الأمن والاستقرار في سوريا، والأهم من ذلك إن وقوف العراق على الحياد، يمكن أن يشكّل أساسًا لبناء موقف سياسي جديد حيال الوضع السياسي المستجد في سوريا.
ممّا لا شك فيه أن هناك العديد من المشتركات الجغرافية والاقتصادية والأمنية التي تربط العراق بسوريا، بدءًا من الحدود الجغرافية التي تشهد توترًا متصاعدًا بسبب الجيوب التي ما زال يحتفظ بها تنظيم “داعش”، وقوات سوريا الديمقراطية، وتجارة المخدرات العابرة للحدود، وعمليات التهريب واسعة النطاق، والتي قد تدفع باتجاه خلق مزيد من التجانس بين البلدَين في احتواء هذه التهديدات.
النظر إلى المصلحة العراقية من باب الحتمية الجغرافية التي يرسّخها الجوار العراقي السوري، يفرض على العراق التفاعل مع الوضع السياسي في سوريا، وعدم الصدام معه
فضلًا عن ذلك، تمثل المشتركات المذهبية بين العراق وشيعة سوريا، فرصة لتفعيل دور العراق العربي في رعاية الشيعة ومقدساتهم في سوريا، دون ترك فرصة لإيران للعودة مرة أخرى إلى سوريا عبر هذا الباب، وهذا لا يستدعي فقط فتح مكاتب بهذا الخصوص، بل إن الضرورة تستدعي إعادة فتح السفارة العراقية في دمشق، والعمل على ممارسة دور فاعل في المشهد السوري، والمساهمة في إعادة بناء الدولة الجديدة.
خصوصًا أن عملية التزاحم الإقليمي ستكون حاضرة في دمشق في الأيام المقبلة، من أجل حجز مقعد على طاولة الاستثمارات الاقتصادية، ويجب على العراق، إذا ما أراد أن يكون دولة فاعلة بالمنطقة، أن يكون أول الحاضرين في دمشق.
إن النقطة الأخرى المهمة هي أنه بعد سقوط نظام الأسد، وانسحاب إيران من سوريا، أصبحت فرصة “مشروع طريق التنمية” كبيرة التحقق، خصوصًا عبر ربط هذا الطريق بالبحر الأبيض المتوسط، وبالتالي هذا يدفع إلى القول إن هناك فرصة كبيرة لدفع العلاقات العراقية السورية خطوات مهمة إلى الأمام، وعدم التخندق ضمن المشهد الصدامي الذي وضعت أُسُسه إيران في المنطقة.
إن النظر إلى المصلحة العراقية من باب الحتمية الجغرافية التي يرسّخها الجوار العراقي السوري، يفرض على العراق التفاعل مع الوضع السياسي في سوريا، وعدم الصدام معه، لأن المجتمع الدولي سيعترف به عاجلًا أم آجلًا، وهو مسار يجب أن يكون الأساس الذي تُبنى عليه العلاقات العراقية السورية مستقبلًا.