سيحتاج ربيع إلى سنوات كثيرة ومقالات عدة عن الحب كي يصل إلى استنتاجات مختلفة، كي يدرك أن الأشياء ذاتها التي عدها رومانسيات يومًا – الأحاسيس المكتومة، والاشتياق الفوري، والإيمان بتوأم الروح – هي ما يعيقه عن مشاركة الحياة مع شخص آخر. سيدرك ربيع أن الحب لا يستمر إلا بخيانة آمال البدايات الخداعة، وأن نجاحه في علاقاته سيتطلب منه التخلي عن المشاعر التي دفعته إلى خوضها من البداية. سيحتاج ربيع إلى معرفة أن الحب مهارة لا حماسة وحرارة.
على مدار رواية “درب الحب The Course of Love“ للفيلسوف والكاتب البريطاني الشهير ألن دي بوتون، نشارك ربيع رحلته، رحلة عادية إلى درجة لا تليق بعمل أدبي تقليدي، لكنها وعاء مناسب لأفكار وتأملات دي بوتون الذي حقق نجاحًا عالميًا منذ عام 1993، حين صدر عمله الأول والرواية الأكثر مبيعًا “مقالات في الحب”.
بعد نجاح رواية دي بوتون الأولى بتأملاتها الرومانسية العميقة، انتقل إلى مواضيع رائقة في سلسلة من الكتابات الواقعية التي حازت انتشارًا عالميًا، مثل تناوله أدب مارسيل بروست وحياته في كتاب “كيف غير بروست حياتي” عام1997، وتعزية المغمورين والفقراء وكسيري القلوب وغيرهم في كتاب “عزاءات الفلسفة” عام 2000، ليعود أخيرًا إلى الكتابة الخيالية في “درب الحب” عام 2016.
التقى ربيع وكريستين فجمع بينهما الحب ثم تزوجا، تلك نهاية القصة في نظر المجتمع، لكنها في الواقع مجرد البداية
يبدأ دي بوتون من حيث تنتهي القصص الرومانسية الحالمة، فمشاعر ربيع اللبناني الذي شهد جانبًا من الحرب الأهلية وفقد والدته في الصغر ولقائه بكريستين البريطانية التي هجر أباها البيت مبكرًا، والإعجاب المتبادل والنظرات المختلسة والبوح، والقبلة الأولى المرتبكة، وحتى طلب الزواج، لا تشغل جميع تلك الأشياء إلا فصلًا قصيرًا من الرواية، تليها تفاصيل حياة زوجية معتادة تشغل الجزء الأعظم من المتن، فتكشف الرواية التي افتتحت بأحد خيالات البطل الحالم، البون الشاسع بين الحياة الزوجية في الواقع و”التبات والنبات” الذي يسمع ويحلم به المحبون طوال حياتهم.
ربما لو قرأ ربيع وكريستين روايات هم أبطالها، لشعرا بشيء من التعاطف مع حالهما، ولعلهما استطاعا بذلك إزالة بعض التوتر الذي يتنامى في تلك الأمسيات
تعرض الرواية تنامي الحساسيات بين الزوجين وأثر الوضع المالي القلق والغيرة المهنية وسوء الفهم والتوافه القادرة على إثارة المشاحنات والخلافات، وكيف استنزف الإنجاب مرة واثنتين طاقات الزوجين ومشاعرهما رغم البشارة التي حملها في مراحله المبكرة والمشاعر التي بعثها والعهود المتلوة في نشوته، كما نشهد سقوط أحد الطرفين في خيانة زوجية وتقلب النفس ما بين الذنب والتجبر.
يخبرنا دي بوتون بكل ذلك في الصفحات الأولى، كأنه ينبهنا إلى أننا لسنا بصدد رواية مشوقة ذات حبكة ملتوية، فليست الأحداث عنصر الجذب، إنها فصول علاقة عاطفية تحوي الخطوط العريضة اللازمة لتأملاته، ففصل معنون بالجنس وآخر بالبدايات الحالمة وثالث بطلب الزواج والإنجاب والخيانة وهكذا.
لعل ذلك ما جعل الكاتب يكتفي بشخصيتين رئيسيتين وشبه وحيدتين، نسمع عن شخصيات أخرى ولا نقابل منها إلا اثنتين أو ثلاثة، فلا تكاد تنطق كل منهما بعبارتين، إلا أن تسطيح الحبكة طال الشخصيات نفسها بصورة مزعجة.
لكن هل يلزم أن يكون الزواج بالسوء الذي بدا عليه في تلك الفصول؟ يجيبنا دي بوتون بالنفي، فقط إن تحلينا بشجاعة الاعتراف وصدق الإرادة، وقبل كل شيء إن تخلينا عن الأوهام الرومانسية التي تمنعنا من الاعتراف ببشرية العلاقات وحاجتنا إلى المشورة والسعي لإشعال لهيب الحب المنطفئ.
في نهاية الرواية، عقب تطور جسيم في ملابسات الشجار، يزور الزوجان مستشارة علاقات زوجية، هناك يكتشفان ما كان باديًا لنا بفضل الكاتب العليم منذ البداية وكان خافيًا عليهما، تكتشف كريستين ما وراء هياج ربيع من خوف وقلة حيلة وحاجة إلى الاحتواء، وأن طبيعتها الانطوائية تشعره بالوحدة والضآلة، يكتشف ربيع أن ميل كريستين إلى التقوقع والصمت في الأزمات هو محاولة لإخفاء الضعف والحاجة إلى الآخرين الذين اعتادت منهم الخذلان.
كانا زوجان من الضعفاء المنكسرين أكثر منهما زوجين ضعيفين منكسرين، عاش كل منهما تجارب قاسية واكتسب وسائل دفاعية مختلفة، للأسف لم تكن متوافقة، وقد شرعا في مقاومتها حين أدركا ذلك، ذلك لأن الحب بقي رغم مضي مرحلة الرومانسية منذ سنوات طويلة، منذ الزواج تحديدًا، حين قال الراوي:
لقد اجتازا التحدي الرومانسي، من الآن فصاعدًا ستكتسب الحياة إيقاعًا ثابتًا ومتكررًا، إلى الحد سيجدون معه صعوبة في تحديد موضع حدث معين في الزمان، لذا ستبدو السنوات متشابهة في ظاهرها
قدم دي بوتون في عمله الأدبي تأملات عميقة، شديدة الشاعرية ومعادية للرومانسية في الوقت نفسه، فحينما أصبح ربيع مستعدًا للزواج أخيرًا، بعد 13 عامًا من الزواج، كان ذلك لأنه أدرك كارثية المعتقدات الرومانسية، تخلى ربيع عن فكرة الكمال ويئس في أن يفهم على نحو تام واعترف بما فيه من جنون وتقبل صعوبة تعايش الرغبة الجنسية المتقدة مع الحياة الزوجية، ولم تعد مآخذ الحبيب عليه تجرحه، وضاق ذرعًا بمعظم قصص الحب المعروضة في الروايات والأفلام التي نادرًا ما تتطابق مع تجربته.
ترى الرواية في رومانسية اليوم مصدر تنغيص للأطوار المتقدمة من العلاقات العاطفية، إذ أفسدت بطوفان الفنون والأدبيات الحالمة الخرافية حياة الكثيرين، يطارد البشر اليوم حياة خيالية لا يمكن بلوغها، مدفوعين بمُثُل مصطنعة من قصص حب سينمائية يفشل أبطال الأفلام أنفسهم في نيلها، لعل الوجد والعشق المسكر والمشاعر الأفلاطونية – إن صح التعبير – حقيقة يجدها كثيرون، لكنها في صورتها المنتشرة نادرًا ما تكون صدى لتوافق روحي حقيقي، بل خيالات شخصية رومانسية، سواء كانت رومانسية أصيلة أو تهويمات ثقافية.
لم يصرح دي بوتون بذكر الواقعية الفائقة (Hyperreality)، المفهوم المركزي لدى جان بودريار عالم الاجتماع الفرنسي الملهم، لكن شبحه كان مهيمنًا على العمل، ففي الواقعية الفائقة تغدو التشبيهات/الصور الزائفة (Simulacra) أشد مصداقية من الواقع ذاته، فالشخصيات والقصص الخيالية، بما فيها الشركاء المثاليين وقصص الرومانسية الملتهبة، أشد واقعية من معارفنا وحياتنا، ما يجعل سياقات الارتباط التقليدية بل والحب البشري المتاح غير مشبع ومصدر اكتئاب في أكثر الأحيان.
يمضي دي بوتون في انتقاداته لما يراها أفكارًا رومانسية إلى مدى بعيد، ويرى المسيحية مصدرها في بعض المواضع:
في الغرب، ندين للمسيحية بالفضل في وجهة نظر مفادها أن الجنس لا يصح إلا في كنف الحب. يوجب الدين بإصرار على المحبين حفظ أجسادهم وغض أبصارهم عن الآخرين […] ولم تتبخر تلك المفاهيم […] حتى بعد تراجع الإيمان الذي كان يدعمها
صدر للمؤلف عام 2012 كتاب “الدين للملحدين: دليل غير المؤمن لاستخدامات الدين“، عارض فيه الرفض الإلحادي الشامل للدين، منبهًا إلى دلالة تاريخه المديد مع البشرية من تلبيته كثير من الاحتياجات الفطرية، لذا ينبغي للفكر الإلحادي تقديم بدائل لإشباع تلك الحاجات، ولو بالاقتباس من الأديان وممارساتها، لكن الرومانسية والأخلاق المسيحية في أغلبها، مثل ذلك النوع من “العفة“، ليست من لوازم الفطرة عند دي بوتون، فيعرض البديل باتساق قائلًا:
يمكن للجنس أن يمارس بشكل طبيعي بل وصحي أحيانًا مع الغرباء الذين قد يشعر أحد الطرفين بانجذاب جنسي شديد إليهم دون قدر كبير من العاطفة. فلا يلزم للجنس أن يرتبط دائمًا بالحب
تذكرنا رواية “درب الحب” بنوعية دراما وأدب “وعظية” عاودت الظهور مؤخرًا في الساحة المصرية، لا تعدو فيها الأعمال كونها أداة هزيلة لعرض آراء الكاتب، ولا شك أن تأملات دي بوتون أكثر عمقًا وتأثيرًا، لكن الإفراط في تفريغ الحبكة وتسطيحها بلغ حد السذاجة والكليشيهية، كما حشرت التأملات أكاديمية الطابع بفجاجة ومساحة قد يراهما البعض غير لائقين بعمل حمل غلافه كلمة “رواية”.
لقد نجح الكاتب في “تفصيل” قصة يحشوها بما شاء، لكنه نجاح لم يتطلب جهدًا يحمد عليه، في النهاية، تلك رواية تناسب الباحثين عن خواطر وإرشادات عاطفية أكثر مما تناسب الباحثين عن رواية بالمعنى المتعارف عليه.