في ناحيةٍ من شمال سوريا تُسمى إدلب، يحل اليوم فيها “فصل الرعب”، إذ تكاد لا تفارق سماء المنطقة المقاتلات والمروحيات، منها ما هو تابع لقوات النظام السوري وأخرى روسية، تمطر الناس بشتى أنواع القذائف، كثير منها عشوائي ومحرم دوليًا، تختار ضحاياها بالجملة وبمزاجية.
تصعيد تقول موسكو ودمشق إنه جاء ردًا على هجمات تعرضت لها القوات النظامية السورية مؤخرًا، غير أن استمرارها في مناطق يُفترض أنها مشمولة باتفاقيات خفض التصعيد، وضع التفاهمات التركية الروسية الإيرانية على المحك، طارحة السؤال عمَّا قد تؤول إليه الأمور مستقبلاً: إلى مزيد من التصعيد أم إلى تفاهمات جديدة ترمّم ما تيسّر من الوضع الأمني والإنساني المتدهور؟
البراميل المتفجرة تعود للواجهة.. ماذا وراء التصعيد بإدلب؟
بعد غياب طويل ظنّ السوريون أنه نهائي، تعود البراميل المتفجرة إلى واجهة المشهد في بلادهم، في تصعيد عسكري جديد تشنه مقاتلات النظام السوري وحليفه الروسي من خلال الغارات الجوية والقصف المدفعي الذي يستهدف المناطق السكنية في ريفي إدلب وحماة.
تتهم المعارضة المسلحة نظام الأسد وحليفه الروسي بقصف المدنيين في إدلب وريفها بأسلحة تجرَّبها موسكو على رؤوسهم، وتقول إن هذا التصعيد مستمر منذ أكثر من 10 أيام بالتناوب بين طائرات “سوخوي” الروسية التي يمتلكها النظام السوري، وإنها في هذه الأثناء أفشلت محاولة تقدم بري بدأته قوات النظام على مواقعها في ريف حماة الشمالي.
كما العادة، كل ما يمكن تدميره هو هدف مشروع للقصف، من المنشأت الحيوية والمباتي الخدمية والسكنية وحتى الطرقات الرئيسية في محاولة لشل الحركة في المنطقة، والأخطر
في المقابل، تتحدث وسائل إعلام النظام الرسمية عن أن ضربات قواته تستهدف مواقع مَنْ تصفهم بـ”المجموعات الإرهابية” في ريف حماة الشمالي، وأن مناطق سكنية تعرضت أيضًا لقصف بقذائف عشوائية أوقع عشرات الضحايا من المدنيين وتسبب في أضرار في ممتلكاتهم.
تركز القصف في الأيام الماضية على قرى وبلدات ريف حماة الغربي، ثم اتسعت دائرة الاستهداف لاحقًا لتشمل قرى وبلدات كنصفرة وإحسم بجبل الزاوية في ريف إدلب، وهي بلدات كانت شبه آمنة لجأت إليها مئات العائلات النازحة من بلدات ريف حماة التي تتعرض لقصف يومي منذ أشهر، وبعد استهدافها نزح عنها أهلها والنازحون إليها إلى المزارع والبساتين القريبة منها.
ويستمر التصعيد حتى مع دخول شهر رمضان باستهداف عشرات المدن والبلدات في المنطقة المنزوعة السلاح، ويرتفع معه عدد الضحايا من النساء والأطفال في حصيلة غير نهائية، وجميعهم يُشيَّعون بصمت منذ أن فقد الموت هيبته في سوريا، واضعًا هيبة المجتمع الدولي على المحك.
مزيد من القتلى والجرحى، يهرع المسعفون لإنقاذ ما يمكن إنقاذه منهم، فمرّة يفلحفون ومرات يعجزون فيموتون، ولا يُعرف ترتيب هؤلاء في عدَّاد الضحايا السوريين منذ أن سأمت الأمم المتحدة وتوقفت رسميًا عن إحصائهم في عام 2014.
هنا يعيش ألاف المدنيين من الأطفال والنساء….
تلقى عليهم مئات القذائف وعشرات الغارات الجوية
من براميل وصواريخ شديدة الانفجار….
طفلة صغيرة فارقت الحياة في بلدة كفرنبودة، بسبب حمم الموت التي تنهال على منازل المدنيين العزل.
شاهد ما يحصل هناك في الشمال السوري .
#الخوذ_البيضاء pic.twitter.com/mBFAKaZiMQ— الدفاع المدني السوري (@SyriaCivilDefe) May 4, 2019
يوثق الدفاع المدني أعداد الهجمات على الشمال السوري، ويبث صورًا لما قال إنها محاولات كوادره إنقاذ ضحايا هجمات جوية مكثفة شملت قرى وبلدات ريفي إدلب وحماة شمالي البلاد، وتظهر هذه الصور أيضًا ما خلَّفته الهجمة العسكرية على المناطق السكنية التي بدأ سكانها بالفرار بأنفسهم والهرب نحو الحدود مع تركيا.
وكما العادة، كل ما يمكن تدميره هو هدف مشروع للقصف، من المنشأت الحيوية والمباني الخدمية والسكنية وحتى الطرقات الرئيسية في محاولة لشل الحركة في المنطقة، والأخطر من ذلك هو التركيز على استهداف المستشفيات والمراكز الصحية، الأمر الذي يضع حياة المصابين والمرضى في المنطقة في دائرة الموت.
وسط هذه الظروف يوضح اتحاد منظمات الإغاثة والرعاية الطبية المعروف اختصارًا UOSSM”” بأن أعدادًا ضخمة من السكان في شمال سوريا ستبقى دون رعاية طبية بعد أن بدأت الكوادر الطبية بإخلاء منشآتها التي أخرجها القصف من الخدمة؛ إخلاء قد تصح أسبابه ما جاءت به تصريحات مسؤولين من الأمم المتحدة، إذ تحدثوا عن قصف عشوائي للمنشآت، واصفين إياها بأنها أسوأ حملة قصف جوي منذ الإعلان عن إقامة منطقة منزوعة السلاح بموجب اتفاق بين روسيا وتركيا قبل 15 شهرًا.
الآف النازحين إلى إدلب ينزحون مرة أخرى، لكن إلى أين بعد أن كانت هذه المنطقة قبلتهم الأخيرة؟ تقول المصادر التابعة للأمم المتحدة إن أكثر من 130 ألف مدني نزحوا عن بلداتهم منذ بدء النظام السوري وحليفيه الروسي حملتهم العسكرية على ريفي إدلب وحماة بداية فبراير شباط/الماضي.
مصير التفاهمات التركية الروسية.. هل انتهى “شهر العسل” بين الدول الضامنة؟
دخل التصعيد الأخير أسبوعه الـ13 على المنطقة، وارتفعت وتيرته بعد الجولة الـ12 من أستانة التي أعلنت الخارجية الكازاخية عن عقدها في 25 نيسان/أبريل، والتي تقرر خلالها تسيير دوريات عسكرية روسية تركية، فيما تُسمى المنطقة منزوعة السلاح، والتي سبقها إعلان موسكو وأنقرة تجمید كافة أشكال الأعمال القتالیة في الشمال السوري خلال قمة سوتشي منتصف سبتمبر/أیلول الماضي.
وبالتوازي مع تواصل اجتماعات أستانة بين الثلاثي الضامن (موسكو وأنقرة وطهران)، تتعدد القراءات لأهداف تصعيد النظام وموسكو في ظل استمرار اتفاق سوتشي، وهو ما يثير تساؤلات عن نيّة موسكو المخاطرة بهذه المسارات في حال سماحها بعملية عسكرية للنظام وحلفائه في تلك المنطقة.
قراءة المشهد تقول إن التصعيد قد يظل في حدود القصف من بعيد، وإن أقصى ما قد يبلغه هو عملية عسكرية محدودة لبضعة كيلومترات في ريف حماة الشمالي والغربي
لكن مع استمرار التصعيد، ما عاد يكترث أحد للتفاصيل الأصيلة التي يرسمها مشهد المذبحة السورية، وصارت الاسئلة الأكثر إلحاحًا ترتبط باتفاق واختلاف الدول المتدخلة في سوريا، وأصبح القتلى وإفلات القاتل من العقاب وركام المدن مجرد خسائر هامشية.
ولم يعد التصعيد في المنطقة المشمولة باتفاق خفض التصعيد مدعاة استغراب، فقد سبق إدلب مناطق أخرى مثل درعا والغوطة الشرقية في الجنوب وريف حمص في الوسط، لكن إدلب وحدها التي شهدت إقامة الجيش التركي نقاط مراقبة، فهل تكون إدلب نهاية “شهر العسل” التركي الروسي الإيراني الذي تعددت فصوله بين العاصمة الكاراخية أستانا وسوتشي الروسية؟
لا يرجح التعاطي التركي مع التصعيد الأخير حتى الآن هذا السيناريو، فقراءة المشهد تقول إن التصعيد قد يظل في حدود القصف من بعيد، وإن أقصى ما قد يبلغه هو عملية عسكرية محدودة لبضعة كيلومترات في ريف حماة الشمالي والغربي، بهدف إبعاد الفصائل عن مناطق التماس الحالية القريبة من مناطق حساسة في ريف حماة، لا سيما المناطق العلوية والمسيحية، مع إجبار الفصائل على القبول بتسيير الدوريات الروسية – التركية المشتركة في المنطقة.
إدلب وحدها التي شهدت إقامة الجيش التركي نقاط مراقبة
ومع هذا السيناريو، يُستبعد حدوث أي اجتياح واسع من شأنه أن یعرَّض مسار آستانا للنسف الكامل وانھیار الاتفاق بین الدول الثلاث الضامنة، لا سيما في ظل الخلاف الروسي المتنامي مع إیران الساعیة لتوسیع نفوذھا في مؤسسات النظام، في حين يبقى الهدف من التصعيد هو كسر شوكة بعض الفصائل العسكرية هناك وترويضها وإجبارها على الابتعاد عن المنطقة كما حصل في ريف إدلب الشرقي، وخصوصًا تلك التي تدعم حكومة محلية موازية للحكومة المدعومة من تركيا.
ويرى محللون عسكريون أن استمرار التصعيد الحاصل وتوسع رقعته بالشمال السوري يتركز على مناطق محدودة في ريف حماة الشمالي والغربي وما يوازيها من ريف إدلب الجنوبي، وذلك بهدف تهجير كامل للمدنيين من هاتين المنطقتين وإبعادهم عن خطوط التماس مع النظام، إضافة إلى إجبار الفصائل العسكرية هناك على الابتعاد عن المنطقة كما حصل في ريف إدلب الشرقي.
كما أن بعض التصريحات الروسية، ولا سيما كلام الرئيس فلاديمير بوتين بأن الوقت “غير ملائم” لعملية عسكرية واسعة في إدلب، تدل على أن موسكو لا تريد التخلي عن تفاهمات أستانة وسوتشي مع الجانب التركي، لكنها تسعى لتصعيد الضغط إلى أعلى حد من أجل الحصول على مكاسب في ملفات أخرى.
صفقة الحلفاء أم صراع المشاريع الخفية؟
يتصاعد القصف والموت في المنطقة المنزوعة السلاح، التي باتت منزوعة من أههلها، وسط صمت الضامنين علاوة على الصمت الدولي، فهل يتجه ما يجري في إدلب نحو مزيد من التصعيد أم تفاهمات جديدة؟
يريد الروس لهم أقدامًا في إدلب بعد بسط سيطرتهم العسكرية على مناطق واسعة من سوريا منذ التدخل المباشر في سبتمبر/أيلول 2015، منتهجين سياسة التهجير، والتي بدأت بريف اللاذقية وحلب فدمشق ومحيطها إلى حمص ودرعا، حتى تم تجميع السوريين الرافضين للأسد ووضعهم بين نار الحرب أو الاستسلام.
ليست إدلب كالمناطق التي تدخلت فيها أنقرة بجيشها بشكل مباشر، والممتدة ما بين عفرين وحتى جرابلس بريف حلب، ما يشير إلى أنها قد تكون ساحة للمساومات والتنازلات
وتثير مثل هذه التحركات المخاوف من تطور الأمور نحو حرب كبيرة في المنطقة، خصوصًا أن النظام كان قد أكد في الفترة الأخيرة عزمه على استعادة كل المناطق السورية بـ”السلم أو الحرب”، وهو الحديث نفسه الذي أعاد نائب وزير خارجية النظام فيصل المقداد تكراره قائلاً إن النظام سيستخدم “كل السبل من أجل إعادة أرضه المحتلة من تركيا وأمريكا وكل أعداء سورية”.
وقد يكون ذلك التصعيد الأخير تكرارًا لسيناريو اتّبعته روسيا والنظام مرات عدة في المنطقة، لا سيما خلال حملتهما العسكرية على منطقة شرقي سكة الحديد شرقي إدلب، قبل قرابة عامين، من خلال تكثيف القصف على المناطق المأهولة بالسكان لإجبارهم على الخروج من المنطقة، إضافة إلى تدمير كل ما يعين على الحياة من مراكز طبية ومراكز دفاع ومؤسسات خدمية في المنطقة.
سيناريو التصعيد هذا يثير مخاوف من تحضير النظام السوري وموسكو لعملية عسكرية واسعة بالتزامن مع إعلان أنقرة عن اتفاق أمريكي تركي حول المنطقة الآمنة على الحدود التركية في شمال شرق سوريا، إذ بدت الأمور بين أنقرة وواشنطن تسلك منعطفًا جديدًا بعد تصريحات وزير الخارجية التركي مولو تشاويش أوغلو التي قال فيها إن البلدين يقتربان من الاتفاق على تفاصيل المنطقة الآمنة، وهي تصريحات أكدها وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، الذي أشار إلى أن الولايات المتحدة تبدي بعض المرونة بخصوص إقامة المنطقة الأمنة.
قصف إدلب يدفع بالمدنيين إلى النزوح
ليست إدلب كالمناطق التي تدخلت فيها أنقرة بجيشها بشكل مباشر، والممتدة ما بين عفرين وحتى جرابلس بريف حلب، ما يشير إلى أنها قد تكون ساحة للمساومات والتنازلات، وهو ما يُنظر إليه على أنه جزء من التفاهمات التي جرى الحديث عنها مؤخرًا، حيث قال نائب الرئيس التركي فؤاد أوقطاي بالأمس إن مسؤولين من تركيا وروسيا يراجعون انتشار قوات البلدين في منطقة تل رفعت الحدودية السورية، وذلك بعد يوم من تبادل للنيران عبر الحدود من المنطقة أسفر عن مقتل جندي تركي.
لكن صمت تركيا حتى عن إصابة جنودها في نقطة المراقبة غرب حماة يُضاف لمعطيات تؤكد أن شيئًا ما يُحاك لتلك المناطق، كما يرى البعض في عدم تعليق الأطراف الضامنة على ما يجري في تلك المنطقة المشمولة بتفاهم سوتشي، تأكيدًا على الأخبار التي راجت مؤخرًا عن مقايضة أماكن بإدلب من بينها جسر الشغور بتل رفعت ومناطق شمال حلب، الأمر الذي يترك مصير إدلب غامضًا وفي مهب الريح.
ويرى كثيرون اليوم أمام هذا الصمت الدولي عن هول المأساة السورية أن الاتفاقات بين الدول تبرز مؤشراتها على الساحة السورية ويدفع السوريون ثمنها من دمائهم، في حين كان الاتفاق بین موسكو وأنقرة حول إدلب یخفي في طیاته بنودًا بدأت تتكشف مع التصعید الحالي.
اجتياج من هذا النوع بوصفه الفصل الأخير من فصول الحسم العسكري سيستدعي أطرافًا أخرى للتدخل، وإن لم يكن في إدلب، فسيكون في ملفات أخرى في مقدمتها مناطق شرق الفرات
لكن ماذا لو توسّع التصعيد ليشمل محافظة إدلب بالكامل؟ يقول النازحون عن المدن والبلدات التي تتعرض للقصف اليومي في المنطقة منزوعة السلاح إنهم ضحايا اتفاقيات دولية لم يلتزم بها النظام السوري وحليفه الروسي، وجُل ما يخشونه استمرار القصف دون أي تحرك تركي أو من قوات المعارضة يحول دون سقوط مزيد من الضحايا.
استقبلت المحافظة السورية مليوني نازح ومهجَّر، وفي حال توسّع التصعيد سيصبح هؤلاء مشكلة لتركيا بالدرجة الأولى، في ظل اكتظاظ مخيمات النازحين على الحدود السورية التركية وضعف استجابة وكالات الغوث، عدا عن أن إدلب وصل إليها عشرات المقاتلين الذين رفضوا ما تُسمى بالمصالحات مع النظام السوري، وجاءوا إليها من جهات سوريا الأربع، وستكون المعركة الشاملة بالنسبة لهم معركة وجود.
اجتياح من هذا النوع، بوصفه الفصل الأخير من فصول الحسم العسكري، سيستدعي أطرافًا أخرى للتدخل، وإن لم يكن في إدلب، فسيكون في ملفات أخرى في مقدمتها مناطق شرق الفرات، ويبدو هذا السيناريو بالغ الخطورة والتعقيد، لكن لا شيء مستبعد، فالحالة السورية تجمع في طياتها كل ما هو مدهش أو مفاجئ أو مستغرب.