وادي كيس، واد صغير يفصل بين شعبين .. بضعة أمتار يجري فيها نهر وتحفه أشجار خضراء قصيرة الطول تفصل بين الشعبين المغربي والجزائري .. هنا بالقرب من مصب وادي كيس بالبحر الأبيض المتوسط.
الوادي نفسه هو علامة الحدود.. وعدا هذا الوادي، المشترك بين الطرفين المغربي والجزائري، لا اختلافات بين الضفتين .. الماء والخضرة والوجوه هي نفسها .. وحدها الأعلام وعلامات ترقيم السيارات تختلف لتنبه إلى أن الضفتين على تماهيهما مختلفتان.
على ضفتي وادي كيس، وفي سفح تلتين، تبدوان وكأنهما كانتا تلة واحدة وشقهما الوادي نصفين، قبل أن تفرق بينهما الحدود، تم في الجانب المغربي، إعداد منطقة صغيرة وثبتت الأعلام المغربية، وعلى مدار اليوم، يركن فيها مئات المغاربة سياراتهم لالتقاط صور للذكرى، وكذلك يفعل الجزائريون في الضفة المقابلة.
يعرف هذا المكان يوميا تبادل آلاف المغاربة والجزائريين أطراف الحديث عن المحبة المتبادلة بين الشعبين وأحلامهم المشتركة بفتح الحدود وإجماعهم على عدم تأثير إغلاقها على أواصر الأخوة بين الشعبين.
“حنا خوت (نحن إخوة)”، يهتف محمد لشاب آخر جزائري ركن سيارته في الضفة الأخرى من الوادي الحدود، وأكد محمد، في تصريح لمراسل الأناضول، أنه لا يعرف الشاب الذي يقابله من الجهة الأخرى، لكنه يؤمن بوحدة وأخوة المغاربة والجزائريين، وإن فرقت بينهم الحدود.
مع محمد كان هنالك ثلاثة أصدقاء قدموا جميعهم من فاس وعرجوا على وجدة (شرق المغرب)، قبل أن يسلكوا الطريق الحدودية في اتجاه مدينة السعيدية (شمال شرق المغرب)، المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وقد حرص الأصدقاء الأربعة على التقاط صور للذكرى مع شباب جزائريين آخرين لا تجمعهم بهم أي علاقة ولا سابق معرفة، قبل أن يكملوا طريقهم إلى السعيدية.
وعلى الأثر، توقفت سيارة أخرى. ارتجل منها ثلاثة أفراد. رجل وامرأة شابة بدت في مستهل العشرينيات من العمر. التصقوا جميعهم بجدار لا يتجاوز ارتفاعه مترا واحدا بني على حافة الطريق ومنه انتصبت أعمدة ترفرف فوقها أعلام مغربية. كانت أعينهم تشرئب إلى الضفة الأخرى كما يٌنتظر بشوق عزيزا غاب سنين عديدة وأزف أوانه تجدد لقائه.
“ننظر (ننتظر) أقارب لنا يقطنون حاليا في الجزائر. فرقت بيننا الحدود، فتواعدنا على اللقاء هنا في هذه المنطقة، ولهذا السبب قدمت بمعية (رفقة) زوجتي وابنتي”، يقول أحمد، رب هذه الأسرة، قبل أن يبادر بالاتصال بأقاربه، ومع انهاءه المكالمة، علا السرور محياه، مخاطبا زوجته وابنته: “قربوا! قربوا! (اقترابو! اقتربوا!).
وبعد أقل من ثلاث دقائق بدت للأسرة المتلهفة لأقاربها كأنها ساعات طويلة، ركنت في الجهة الأخرى سيارة زرقاء اللون، ارتجل منها أربعة أشخاص، رجل وامرأة وشاب وشابة، سادت أجواء فرحة عارمة في الضفتين، وانضم إلى الجمع من كانوا متواجدين في عين المكان فرحة باللقاء رغم الحواجز، غير أن زوجة أحمد وابنته لم تتماكلن أنفسهما، فأجهشتا بالبكاء.
في غضون ذلك، اقترب من الجمع، على الجانب المغربي من الحدود، جنديان، بدا أن مشهد لقاء الأسر التي فرقت بينها الحدود مألوف لهما، ولذلك توجها مباشرة نحو الصحفيين، سأل أحدهما عن هوياتهم والمؤسسات الإعلامية التي يشتغلون فيها.
وبعد أقل من ثلاث دقائق، وصل إلى عين المكان جنديان مغربيان آخران أعلى رتبة من سابقيهما، تأكدا أن حاملي آلات التصوير صحفيون، ثم طلبوا عدم تصويرهما بعد أن تيقنا من عدم تصوير زميليهما السابقين.
في تلك الأثناء استمر لقاء أسرة أحمد بأقاربها من “وراء حدود”، غير أن الزوج اضطر أمام التأثير الشديد لزوجته وكذا ابنته إلى قطع هذا اللقاء بعد أقل من نصف ساعة من بدايته، حيث أعاد الابنة أولا إلى السيارة، ثم عاد، في تأثر شديد طال أيضا الحاضرين، ليقنع زوجته بإنهاء اللقاء والعودة إلى السيارة “حتى مرة قادمة إن شاء الله” على حد قوله. والمشهد نفسه كان يدور في الضفة الأخرى، وهكذا، انقلب الحب الذي استهل به اللقاء في الضفتين إلى حزن وألم الفراق في آخره.
وقد أكد أحمد أنه يعرف العشرات من الأسر التي لا تجد بديلا للقاء أقاربها بالجزائر، منذ إغلاق الحدود المغربية الجزائرية عام 1994، عدا ضرب موعد معهم هنا على الحدود، وتحديدا في هذه النقطة الحدودية على ضفة وادي كيس، على بعد بضعة كيلومترات من مدينتي السيعدية المغربية ومرسى بن مهيدي الجزائرية.
“اللقاء هنا تسكين للآلام الفراق في انتظار فتح الحدود”، وفق أحمد، الذي ولد فيالجزائر في عام 1964 وارتبط بزوجته المغربية مطلع تسعينيات القرن الماضي وكان دائم التواصل مع أسرته إلى حين إغلاق الحدود.
غير أن أمنية أسرة أحمد قد لا تتحقق في الأفق القريب، ذلك أن الرباط والجزائر لم تتوصلا حتى الساعة لأي اتفاق لإنهاء هذا الوضع.
وفي يوليو/تموز 2011، وجه العاهل المغربي الملك محمد السادس دعوة مفتوحة للجزائر لفتح الحدود، غير أن هذه الدعوة لم تجد طريقها نحو التطبيق.
وأغلقت الحدود الجزائرية المغربية عام 1994 ردا على فرض الرباط تأشيرة الدخول على رعاياها بعد اتهام الجزائر بالتورط في تفجيرات استهدفت فندقا بمراكش.
وفي انتظار فتح الحدود، ستظل النقط الحدودية، وبشكل خاص، هذا المكان على ضفتي وادي كيس، نقطة التقاء من فرق بينهم إغلاق الحدود، وإن كانت لقاءاتهم عابرة تبدأ بالحبور وتنتهي بالدموع ومشاهد مؤثرة دون أن يستطيع أي طرف احتضان أو حتى مصافحة قريبه الموجود بالضفة الأخرى.