في الوقت الذي تكثر فيه الأزمات السياسية والإنسانية، يحاول بعض الفنانين المشاركة في الأحداث التي تجري حولهم في المجتمعات، وغالبًا ما يستغلون مواهبهم ورؤيتهم الفريدة في التعبير عن أصوات وآراء المهمشين والأقليات، دفاعًا عن حقوق الإنسان ضد الديكتاتورية والاستبداد ومظاهر الظلم المجتمعية، لا سيما في الـ100 عام الماضية التي شهدت أحداثًا وانتهاكات كثيفة وتحديدًا بالنسبة للمعارضين السياسيين والمهاجرين والحركات النسوية وأنصار البيئة ومناهضي الرأسمالية.
وسعيًا لتغيير وإلهام الآخرين ودعوتهم إلى التفاعل مع قضايا العالم، استخدم الفنانون المعاصرون أدوات مرئية وسمعية وحركية عديدة لاستفزاز عقول الناس وتحريضهم على طرح التساؤلات واتخاذ مواقف جدية وحازمة أمام الإجراءات السياسية والحقوقية غير العادلة، من خلال تبني فكرة “الفن الاحتجاجي” كأداة نقد ونضال وكجزء من العصيان المدني.
متى ظهر الفن الاحتجاجي؟
يُقال إن تاريخ الفن الاحتجاجي يعود إلى القرن السادس عشر عندما نشر مارتن لوثر وأنصاره أطروحاته الـ95 على أبواب الكنيسة، ما أدى في النهاية إلى تأسيس المذهب البروتستانتي المسيحي وانشقاقه عن الكنيسة الكاثوليكية، ولكن من العجيب في الوقت نفسه كيف تمكنت هذه الملصقات الورقية من إحداث أزمة، تعد الأكبر في تاريخ الدين المسيحي.
يأتي الفن الاحتجاجي في صورة لافتات وملصقات ورسومات رمزية أو كاريكاتورية ساخرة ولاذعة المعنى، بعيدًا عن المتاحف والمعارض والمسارح والزوايا التقليدية للفن، فهو لا ينصاع إلى معايير معرفية وتخصصية، وإنما يسعى إلى قول الحقيقة بشكل رمزي وجريء
في الوقت نفسه، تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن استخدامه شاع منذ أوائل العقد الأول من القرن العشرين، جنبًا إلى جنب مع الحروب والأوقات المظلمة التي تعد عوامل محفزة لممارسة قوة الفن واستخدام لغته العالمية، من أجل التحدث ضد جميع أشكال الاضطهاد المتعلقة بالجنس أو العرق أو الطبقة أو الدين، مع العلم أن الفن الاحتجاجي لا يقتصر استخدامه على الفنانين فحسب، ففي أحيان كثيرة ينتجه نشطاء الحركات الاجتماعية والحقوقية.
نساء في طهران كشفن رؤوسهن في مكان عام احتجاجًا على قانون يفرض الحجاب منذ الثورة الإسلامية في 1979
وغالبًا ما يأتي على صورة لافتات وملصقات ورسومات رمزية أو كاريكاتورية ساخرة ولاذعة المعنى، بعيدًا عن المتاحف والمعارض والمسارح والزوايا التقليدية للفن، فهو لا ينصاع إلى معايير معرفية وتخصصية، وإنما يسعى إلى قول الحقيقة بشكل رمزي وجريء لأكبر جمهور ممكن، وعادة ما يؤلفه مجموعة من الأشخاص كمحاولة لإثارة غضب أو اهتمام الأوساط العامة تجاه المستبعدين اجتماعيًا.
كيف استخدم العالم الفن الاحتجاجي لإثارة ملفات اجتماعية؟
يرى الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو، أن “كل عمل فني جريمة لم يتم ارتكابها”، ويعني بذلك أن الفن يتحدى الوضع الراهن بطبيعته وأن كل عمل فني بظاهره هو سياسي المضمون والرسالة، ويخاطب أيديولوجية معينة، ولذلك يعتبر أداة صريحة وخطيرة وقوية كالسلاح، فلطالما وقف الفن بالجانب إلى الثورات السياسية والحركات الاجتماعية ضد العنف والفساد وعدم المساواة وتحدي الحدود التقليدية والتسلسلات الهرمية التي تفرضها السلطة.
استخدم العُري في شتى القضايا مثلما فعلت إحدى مناصرات حقوق الحيوان التي كتبت على جسدها “أُفضل أن أكون عارية بدلًا من أن أرتدي الفراء”
على سبيل المثال، استخدام العُري كتكتيك احتجاجي في أنحاء عديدة من العالم لجذب انتباه الجمهور ووسائل الإعلام إلى قضية ما، وفي بعض الحالات، لا يهدف النشطاء العراة إلى الترويج لمسألة معينة، بل لتغيير تصورات المجتمع التقليدية عن الجسم العاري، لا سيما بالنسبة للنساء، ومع ذلك، استخدمت هذه الطريقة في شتى القضايا مثلما فعلت إحدى مناصرات حقوق الحيوان التي كتبت على جسدها “أُفضل أن أكون عارية بدلًا من أن أرتدي الفراء”، أو مثل الأكاديمية البريطانية فيكتوريا باتمان التي دخلت إلى كلية الاقتصاد وهي عارية وقد كتبت “خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يترك بريطانيا عارية”.
ولعل أحدث أشكال الفن الاحتجاجي هي حركة السترات الصفراء في فرنسا التي خرجت إلى الشوارع في البداية لإدانة اضطهاد سائقي السيارات ثم امتدت للتنديد بارتفاع أسعار الوقود وتكاليف المعيشة، وقد اختاروا السترات الصفراء رمزًا للسائقين والحركة، إذ يفرض القانون الفرنسي منذ عام 2008 على جميع سائقي السيارات، حفظ سترات صفراء داخل سياراتهم كإجراء وقائي حتى يظهر للعيان في حالة اضطرار السائق الخروج من السيارة والانتظار على قارعة الطريق.
أما في لبنان، فقد وقفت مجموعة نساء وهن يرتدين أثواب زفاف ملطخة بالدم رفضًا لقانون الاغتصاب الذي يجبر الفتاة على الزواج من مغتصبها. وفي كوسوفو، عبرت النساء عن هذه المأساة بشكل مختلف ومبدع، فلقد علقن أكثر من 5 آلاف تنورة وفستان على حبال الغسيل للفت الانتباه إلى وصمة العار التي يعاني منها ضحايا العنف الجنسي في حرب كوسوفو (1998-1999)، وكمحاولة للتذكير بآلام النساء الضحايا وإخبارهن بأنهن لسن وحدهن.
ومؤخرًا، ارتفعت أصوات ضجيج من المنازل التركية في ساعات متأخرة من الليل عقب إعلان اللجنة العليا للانتخابات إعادة انتخابات بلدية إسطنبول، الأمر الذي أثار سخط وغضب أتباع حزب الشعب الجمهوري الذين قرعوا الأواني المعدنية وأشعلوا أضواء منازلهم وأطفأوها بشكل متتالي ومتكرر، احتجاجًا ورفضًا على قرار إعادة الانتخابات، علمًا أن هذا الأسلوب تكرر عام 2013 على خلفية أحداث منتزه جيزي بارك التي اندلعت رفضًا لقرار حكومي بإزالتها وبناء مركز تجاري بدلًا منها.
من الصعب إحصاء أساليب الفن الاحتجاجي، إذ تخلق كل أزمة وقضية أشكالاً جديدةً من التمرد التي تشمل أيضًا استخدام الدمى ولبس الأقنعة وهي الأداة التي استخدمت بكثرة في مسلسل “مستر روبوت” الذي احتج بقوة على النظام الرأسمالي في الدولة وأراد إزالة أنظمتها الاستهلاكية لإلغاء جميع الديون والقروض التي تنهك المجتمعات وتمنع توزيع الثروات بشكل عادل.
تكررت طريقة الاحتجاج بالقناع في عام 2017، حين نشر الفنان الناشط، سوجاترو غوش، سلسة من الصور التي تظهر نساء يرتدين قناع على شكل رأس بقرة، محاولًا أن يظهر كيف تقدر بلاده البقرة أكثر من المرأة، فوفقًا لبيانات مكتب الجريمة الوطنية، أكدت الإحصاءات ارتفاع كبير في الجرائم ضد المرأة في الهند وهذا يشمل الاغتصاب والقتل حتى للواتي لم تتجاوز أعمارهن ثماني سنوات، هذه البيانات شجعت الفنان غوش على استخدام هذا القناع الذي يحتج من خلاله على الحماية والأمان التي تتمتع بهما الأبقار أكثر من النساء، وذلك بسبب قدسية هذه الحيوانات عند الهندوس.
في النهاية، ليس شرطًا أن يحرض الفن الاحتجاجي على الثورات والعصيان المدني، ولكن في جميع الأحوال تكمن قيمته في قول الحقيقة للسلطة بطريقة شفافة، إذ يرى البعض أنه من غير الممكن قياس وضع حقوق الإنسان في أي مجتمع بشكل موثوق من خلال الأحكام الدستورية والقوانين الدولية، وإنما عبر دراسة الفنون الشعبية بجميع أنواعها.