رمضان جديد يهل على العالم، يستنهض الأمل بالدعاء لتضميد جروح المسلمين في فلسطين وسوريا واليمن وغيرها من البلدان العربية والإسلامية، وكما هو الحال في الداخل من صراعات واستقطابات حادة وأزمات مفصلية، ربما هي الأخطر في التاريخ الإسلامي، يواجه المسلمون في الخارج ما يشبه حرب بقاء في ظروف قاسية، بعدما أصبحوا أهدافًا واضحة للهجمات العنصرية بجميع أنحاء العالم، ورغم ذلك يحاولون الاستمتاع بالشهر الكريم واستدعاء الذاكرة العربية والإسلامية في الاحتفالات والطقوس والإيمانيات بالغرب، فلا رمضان دون حب وأمل وإيمانيات وتجمعات أسرية وإسلامية.
استطلاع هلال رمضان في الغرب
يتبع المسلمون في البلدان الغربية آليات أخرى في استطلاع هلال شهر رمضان، قد تختلف بدرجة كبيرة عن المتبعة في البلدان العربية والإسلامية، إذ تتبنى اللجان الإسلامية للأهلة ضوابط الصوم على ميزان الحديث الشريف “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته” جنبًا إلى جنب مع الشروط الفلكية الثلاث للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث للرؤية الشرعية بداية من غروب الهلال بعد غروب الشمس في موقع إمكانية الرؤية، وألا تقل زاوية ارتفاع القمر عن الأفق عند غروب الشمس عن خمس درجات، وألا يقل البعد الزاوي بين الشمس والقمر عن ثماني درجات.
قرارات المجالس الإسلامية الأوروبية هي الحاكم الأول لضوابط الصوم ويثق بها قطاعات كبيرة من المسلمين السنة، ولكنها ليست ملزمة لهم، حيث يختلف المسلمون في الغرب غالبًا على عملية تحديد بداية شهر رمضان ونهايته، بسبب عدم وجود مجلس إفتائي موحد يستطلع الهلال، بينما تدخل المرجعية الفكرية ودرجة التدين بشكل فردي في تحديد الرغبة باتباع توجيهات الجهات الإسلامية الغربية أو اللجوء للاجتهاد الشخصي، فالمصريون على سبيل المثال يميل بعضهم إلى اتباع تعليمات المركز الإسلامى لكل دولة غربية بمفردها، والبعض الآخر يخاف على صحة صيامه من اتباع أي جهة أخرى غير دار الإفتاء المصرية، وبالتالي يتبع استطلاعها ويسير على نفس منهجها.
ما يفعله المصريون لا يختلف عنه الكثير من أبناء الجاليات العربية، في المقابل، يتبع غالبية المسلمين من الأصول الآسيوية تحديدًا دولهم في تحديد هلال شهر رمضان وبداية الصوم وانتهائه، بينما يصوم الأكثرية من الشيعة بالغرب وفق إعلام المرجعية الشيعية في إيران.
رغم هذه التقاليد التي تبدو موحدة بسبب غياب التوافق بين المرجعيات الفقهية والمراكز الإسلامية عن وضع آلية واضحة لتحديد بداية الأشهر العربية، فإن هناك محاولات مستمرة لمعالجة هذه المشكلة، لا سيما أن ساعات الصيام تقترب من الـ19 ساعة في بعض البلدان الأوروبية وعلى رأسهم بريطانيا، بينما تزيد على 20 ساعة في بعض الدول الإسكندنافية مثل السويد والنرويج، والأخيرة قد ينعدم وجود الليل بشكل كامل في مثل هذا التوقيت من العام.
عام 2015 ومع تصاعد الجدل بشأن كيفية إيجاد آلية مناسبة لاعتماد الحسابات الفلكية في تحديد بداية شهر رمضان المبارك، عقد المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بالعاصمة الإيرلندية دبلن، دورة استثنائية في السويد، لإطلاع المسلمين والمتخصصين في القضايا الإسلامية ومنها الصوم على ساعات الليل والنهار مباشرة، وتبني رأيًا فقهيًا واضحًا عن ساعات الصيام الطويلة في مناطق شمالي أوروبا.
اعتمد المجلس منذ هذا العام آلية للحسابات الفلكية يحدد بها الأشهر العربية، بناءً على نتائج المؤتمر العالمي لإثبات الشهور القمرية بين علماء الشريعة والحساب الفلكي الذي عقده المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة خلال فبراير 2012، وشارك فيه عدد كبير من الفقهاء والعلماء الفلكيين، وخلص آنذاك إلى الأخذ بالرؤية العالمية لا المحلية في الصيام، استنادًا إلى الحديث الشريف “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته”.
في أوروبا، أكثر ما يشتاق له المهاجرون المسلمون، الروح الرمضانية في الشوارع وعلى وجوه الناس، وبالتالي يبحثون عن تجربتهم الخاصة، فالصوم هناك أمر شخصي بعيدًا ربما عن المجتمع
الحياة الرمضانية في أوروبا
منذ قديم الأزل وشهر رمضان يخضع لحسابات نفسية خاصة في الدول العربية، رائحة الشوارع، الأجواء، البسمة على الوجوه، التآلف والترابط الإنساني على موائد الرحمن المنتشرة في غالبية الشوارع، والإيمانيات التي تغلف هذه المظاهر، وجميع ما سبق يعطي لرمضان نكهة لا تعوض، تربط الماضي بالحاضر، تستعيد أمجاد الحضارة الإسلامية، باستحضار الروح الإيمانية الخالصة في القول والعمل، ورباطة الجأش في الالتزام الصارم بالطقوس والعبادات والأخلاقيات المصاحبة لها، والمقررة خارج الصوم أصلاً التي كان يتلزم بها المجتمع الإسلامي طوال العام.
في أوروبا، أكثر ما يشتاق له المهاجرون المسلمون، الروح الرمضانية في الشوارع وعلى وجوه الناس، وبالتالي يبحثون عن تجربتهم الخاصة، فالصوم هناك أمر شخصي، بعيدًا ربما عن المجتمع، ربما يخفف من الوحدة قليلاً، الاحتفالات الصغيرة للأسر والتجمعات الإسلامية التي تحاول خلق نموذج يحاكي الأوطان في الاستمتاع بالشهر الكريم، فتنشط حفلات الإفطار الجماعي بين الأسر والأصدقاء، وتمتد لأكثر من مرة أسبوعيًا، ولا يتعلق الأمر فقط بالهويات الوطنية، فتجد الأسر السورية تشارك نظيرتها المصرية والمغربية واللبنانية حفلات إفطار واحدة، وكلما كانت مساحة الصداقة أوسع، امتدت الموائد الرمضانية لتتسع لجميع المسلمين من كل الجنسيات على مائدة واحدة.
في الجانب المرح من الأجواء الرمضانية، تتنافس المطابخ العربية في حفلي الإفطار والسحور، من الأطباق المصرية إلى الشامية والمغربية والخليجية، ما يسهم بالطبع في إضفاء مودة وحالة من التزاوج الثقافي بين المسلمين في الغرب، من خلال التعرف على عادات وتقاليد كل دولة إسلامية وليست العربية منهم فقط.
كانت المؤسسات الإسلامية في الغرب تنشط كثيرًا أيضًا في مثل هذه الأوقات، لتنظيم إفطار جماعي يدعو إليه المسلمين وغيرهم كنوع من الانفتاح الثقافي على المجتمعات الغربية، وكانت تشمل إلى جانب الإفطار، برامج ترفيهية تقرب بين المتناقضات وتستغل هذه الفعاليات الرمضانية لتعريف الأصدقاء غير المسلمين بالعادات والتقاليد الإسلامية وأهدافها والغرض منها بعيدًا عمما يُصدر أحيانًا من جماعات مناهضة للدين بشكل مجتزئ من السياق، ويضع الصوم وغيره من العبادات الإسلامية وكأنها عادات بربرية وقبلية أكثر منها دينية، بسبب قسوتها في نظرهم.
يعطي رمضان أعظم الفرص لجمع التبرعات التي تسعى بعض المؤسسات الإسلامية من خلالها إلى المساعدة في حل أزمات الكوارث بالبلدان الإسلامية، بجانب التأكيد على أن رمضان ليس كما هو مشاع عنه، فالامتناع عن الطعام من الصباح للمساء، ليس الغاية الإيمانية من فقه الصوم، بقدر المساهمة بشكل فعلي في مساعدة فقراء البلدان والمجتمعات الإسلامية وإصلاح الصورة الذهنية عن المجتمع المسلم الذي تسممت صورته من جراء تطرف وعنف تيارات تكفيرية ومتطرفة، أساءت بشكل بالغ للإسلام والمسلمين على مدار العقدين الماضيين.
ما الجديد في رمضان الحاليّ؟
لن تكون مبالغًا، إذا سلمت أن رمضان الحاليّ هو الأصعب على الجاليات الإسلامية وخاصة في القارة العجوز، فحرية الاختلاف التي طالما ميزت المجتمعات الغربية، تأثرت بشدة سواء بتغير المزاج الأوروبي وارتمائه في أحضان الشعبوية خلال السنوات الماضية وارتفاع نبرات العداء للمهاجرين وخاصة من أصحاب الديانة الإسلامية، أو للتأثير الحاد لعمليات الاستقطاب المتبادل للمراكز البحثية وشركات العلاقات العامة، المؤيدة والمعارضة لتيار الإسلام السياسي، التي تسعى لتجريم الفكرة في أوروبا، ما انعكس بدوره على شكل المجتمع الإسلامي في الغرب، واعتباره لدى الكثيرين مسؤولاً عن الهجمات الإرهابية التي تهز قلب أوروبا، خلال المناسبات الدينية للديانات الأخرى.
تزداد نبرة العداء ضد المسلمين حاليًّا في المواسم والمناسبات الدينية، إذ تميز شهر رمضان بعودة الجدل بشأن الحجاب والمساجد، وحتى طريقة الصوم
تناهض الأحزاب اليمينية في أوروبا الوجود الإسلامي، وتسعى على أقل تقدير لدمج المسلمين قسرًا مع متطلبات المجتمعات الغربية ومنتجاتها الثقافية، التي لا يتقبلها البعض على هذا النحو، وخاصة الملتزمين دينيًا، الذين يقصرون وجودهم بالغرب على العمل، أو لظروف أمنية وسياسية ببلدانهم، ولكن المؤمنين بالإسلاموفوبيا في أوروبا، يكثفون من تصوير الإسلام وأتباعه بالذهنية الغربية، في مشاهد الدم والتفجيرات، وهؤلاء منهم مسؤولون وأبواق في ماكينات إعلامية لا تتوانى عن وصف المسلمين بالمتطرفين.
وتزداد نبرة العداء ضد المسلمين حاليًّا في المواسم والمناسبات الدينية، إذ تميز شهر رمضان بعودة الجدل بشأن الحجاب والمساجد، وحتى طريقة الصوم، وهو ما يظهر من اقتراح إنغر ستويبرغ وزيرة الهجرة والاندماج الدنماركية، بضرورة إعطاء المسلمين إجازة طيلة شهر رمضان، لكي لا يعرضوا حياة الناس للخطر، فالوزيرة المعروفة بمواقفها المعادية للهجرة، تعتبر أن صيام يوم كامل بلا طعام أو شراب أمر غير قابل للاحتمال البشري، وتعتبر أن صوم شهر رمضان خطر على المجتمع.
إنغر كتبت مقالاً أثار الجدل بشدة، في العام الماضي، وعبرت من الصيام إلى نقد صلب العقيدة الإسلامية نفسها، واعتبرت أنه من غير مقبول الانصياع لـ”فرض ديني” عمره 1400 عام، ولا يتوافق مع المجتمع وسوق العمل في الدنمارك في عام 2018، والمثير أن 68% من الدنماركيين، وافقوا في استطلاع رأي على حساب وزير الهجرة الخاص بتوتير، على آرائها في الصيام والرغبة في إعطاء المسلمين إجازة خلال شهر رمضان.
أما فرنسا، فالحديث المتصاعد عن الحجاب ما زال يشغل الرأي العام الفرنسي الذي أصبح مزاجيًا وعصبيًا تجاه المهاجرين وبخاصة المسلمين، الذين يريدون من وجهة نظرهم خلق مجتمع مواز في بلادهم، ينعزل عن المكونات الثقافية للغرب، ما يجعلهم يحاربون بقوة، أي وجود لثقافة بديلة لهم في الشوارع والمجال العام للدولة.
وفي ألمانيا لا يختلف الحال كثيرًا، إذ أصبح آلاف المهاجرين محل انتقاد داخلي من أرفع المسؤولين السياسيين الذين يناهضون سياسة المستشارة أنغيلا ميركل في احتواء المهاجرين وعلى رأسهم آليس فيديل رئيسة كتلة حزب “البديل من أجل ألمانيا”، وهو يميني شعبوي، وأثارت قبل أيام جدلاً جديدًا بشأن حجاب المسلمات داخل البرلمان الألماني، ما عزز من زيادة حدة الاستقطاب، اضطر لإنهائها مفوض الحكومة الألمانية لشؤون العقيدة ماركوس غروبل، وحمل الحزب المتطرف المسؤولية عن حدوث أي اعتداءات على المسلمين في أعيادهم سواء رمضان أم غيره، بما قد يلطخ سمعة ألمانيا على شاكلة فنزويلا، إذا انساق المتطرفون لادعاءات تهديد المسلميين للهوية الألمانية.