جميعنا، سواء كنا آباءً أم أمهات أم لا، رأينا في إحدى المرات طفلًا يصرخ بلا توقف، وآخر يلقي بنفسه أرضًا في مكان عام محاولًا الحصول على ما يريد، وفي المقابل يقف الوالدان أمام الطفل الغاضب بحيرة وعجز كبيرين، وقد يستجيبون لتصرفات أبنائهم المستفزة بالصراخ والعقاب أو التجاهل وربما الاستسلام لرغباتهم التي من المحتمل أن تكون غير منطقية أو مناسبة في لحظتها.
وإذا أدركنا أن هذا الموقف المحرج والمرهق ما هو إلا حلقة من سلسلة التحديات التي يواجهها الوالدان مع أطفالهم بصورة مستمرة، فمن الصعب تحديد إلى أي مدى قد تتعقد صراعاتهما اليومية.
ففي أحيانٍ كثيرة، يفقد الأهالي أعصابهم وثباتهم إذا وجدوا أن هذا الكائن الصغير لا يستجيب لأوامرهم ولا يصغي لتعليماتهم، ليبقى العقاب وممارسات السلطة الأبوية التقليدية خيارهم الوحيد لتعريف الطفل الخطأ من الصواب، مع أن الكثير منهم يدري أن هذا الأسلوب لا يساعد في التربية، بل على النقيض تمامًا.
إذ قال أحد علماء النفس من جامعة روكستر بأن العقاب يؤدي إلى السيطرة على تصرفات الطفل، لكنه يمنعه من التمتع بالاستقلالية والسيطرة على الذات والاتصال الصحي بالآخرين، مشيرًا بذلك إلى نتائجها المؤقتة وآثارها السلبية طويلة المدى على شخصية الطفل في المستقبل.
بالإضافة إلى هذا الإثبات، وجدت باحثة متخصصة في التربية بجامعة ستانفورد كارول دويك، أن العقاب ينقل رسالة للطفل بأن تصرفاته سيئة، والطفل غير قادر بعد على التفرقة بين كون تصرفاته سيئة وكونه هو نفسه شخصًا سيئًا، ما يعني أنها قد تزعزع صورته الذاتية عن نفسه.
ولحل هذه المسألة، أشاد العلماء بـ”التربية الإيجابية” التي أسسها عالم النفس ألفريد أدلر، في أوائل القرن العشرين حين أدرك أن الأطفال يستحقون التعامل بكرامة واحترام، فما الجديد في نظريته؟ وما مبادئ التربية الإيجابية؟
الانتماء والشعور بالأهمية.. أساس العلاقة بين الوالدين والطفل
لم يكن ممارسة هذا النوع من التربية أمرًا مقبولًا في ذاك الوقت، فلقد كان مختلفًا عن الثقافة الشائعة خلال فترة أدلر (1870-1937)، ولكن حين أصبح علم تربية الأطفال أكثر انتشارًا واتساعًا، خلق الخبراء نظريات وفلسفات جديدة لتربية الأطفال ومساعدة الآباء في ضبط سلوكهم واتجاهاتهم الاجتماعية مقابل المزيد من الحرية والاستقلالية للأطفال، ومن أهمها نظرية التربية الإيجابية التي أسسها أدلر قبل 100 عام تقريبًا واعتمدت على حاجتين أساسيتين: الانتماء والشعور بالأهمية.
فوفقًا للنظرية، يولد جميع الأطفال مع شعور بالنقص والدونية ويقضون حياتهم بأكملها وهم يحاولون تعويض هذه العقدة، ومن أجل التخلص من هذا الشعور، ينبغي على الأهل تلبية الحاجتين اللتين ذكرناهما آنفًا، فإذا لم يتغلبوا على هذا النقص، يبدأون بالتصرف بـ4 طرق غير صحية، هي: أولًا: جذب الانتباه من خلال المطالب والسلوكيات السيئة، ثانيًا: الصراع مع الوالدين من خلال المقاومة والمحاججة، ثالثًا: الانتقام عبر إيذاء الوالدين جسديًا أو لفظيًا، ورابعًا: اللامبالاة والاكتئاب الذي قد يتطور إلى إيذاء النفس والانتحار.
وإذا كنا نسعى لتجنب هذه السلوكيات ونريد بالفعل مساعدة أطفالنا على التعلم والتصرف بطريقة مهذبة ومعقولة، فعلينا أن نتبع بعض المبادئ الأساسية التي تشعرهم بالأهمية والترابط والتقدير وتُبعدهم عن مشاعر الإحباط والاستسلام.
أبرز مبادئ وأساليب التربية الإيجابية؟
1. بحسب أدلر، فإن الطفل الذي يسيء التصرف هو طفل محبط وبدلًا من الضغط عليه لتغيير سلوكياته غير المرغوبة، يجب أن يمنحه الأهل شعورًا بالخصوصية والتقدير والاحترام المتبادل، مع التركيز على الحلول والتعليم بدلًا من العقاب واللوم، إذ تشير الدراسات أن تلك الطرق تؤدي إلى تحسين سلوك الطفل ونموه العاطفي وأدائه الأكاديمي.
2. يدعو أدلر إلى التركيز على الأسباب وراء سوء تصرف الأطفال، فعلى الرغم من كون الكثير منها سخيفًا بالنسبة للوالدين، فإنها تبدو معقولة للطفل ولهذا يتصرف بهذه الطريقة، وإذا تمكن الآباء من التعامل مع هذه القضية ومعالجتها، فسيشعر الطفل بأن احتياجاته معترف بها ولن يحتاج بعد ذلك إلى الإساءة أو الغضب.
على سبيل المثال، قد يضرب الطفل شقيقه ويكون السبب في ذلك أن أخاه الصغير أخذ لعبته ومنعه من المشاركة ما دفعه إلى الشعور بالإحباط والانفعال، وبالتالي يصبح فهمنا لتصرفاته أكثر وضوحًا ويمنحنا فرصة لتعريف الطفل بأهمية طلب الإذن قبل أخذ الأشياء من شخص آخر تجنبًا للمشاكل.
3. ركز أدلر أيضًا على انضباط الوالدين في تصرفاتهم، فلقد يتعلم الأطفال من خلال تقليد سلوكيات الآخرين، وتحديدًا الآباء والأمهات الذين يعتبرونهم قدوتهم الأعلى، ولذلك حين يصرخ أحد الوالدين أو يهين الآخرين، يقوم الطفل بالشيء نفسه عندما ينزعج، والعكس صحيح، عندما يكون الوالد لطيفًا ومحترمًا رغم انزعاجه وغضبه، يتعلم الطفل التعامل مع الصعوبات بكل رضا وهدوء.
جدير بالذكر أن الكثير من الآباء يعتقدون أن اللطف يساوي الاستسلام وليس التسامح، ولذلك يفضلون التعبير بهذه الطريقة أمام أطفالهم، ولكن من الأفضل إخبارهم بحزم وثبات أنهم لا يستطيعون الحصول على ما يريدون، دون الصراخ بوجههم والتحدث بلهجة شديدة القسوة.
4. بقوة، حارب أدلر العقوبات على اعتبار أنها لا تساعد الطفل على التعلم وإنما تعزز لديه مشاعر الاستياء والتمرد والانتقام والانسحاب، وبدلًا من ذلك استخدام وسيلة “المهلة الإيجابية” التي لا تزيل الطفل من البيئة التي تعزز من سلوكياته غير المرغوبة فقط، وإنما تمنحه مكانًا أكثر هدوءًا وأمانًا للتفكير بنتائج وعواقب أفعاله، مع العلم أن هذه الطريقة لا تتبع الطريقة التقليدية التي يطبقها الأهل كشكل من أشكال العقوبة التي تعزل الطفل وتقيد حركته.
على النقيض تمامًا، فحين يذكر الأهل للطفل عواقب تصرفاتهم ويفسرون أسباب اعتراضهم، يشعر الطفل باهتمام الأهل به ويقتنع بإرشاداتهم وتعلمه كيف يتخذ قراراته في المستقبل، فضلًا عن أهميتها في تطوير النمو المعرفي لديهم عن طريق التفكير بالخيارات التي يمتلكونها، إذ تشير الأبحاث إلى أن شرح العواقب والقوانين قبل فرضها يريح الآباء والأمهات من تحديات واختبارات في معرفة ما الذي يمكن أن يحدث لو تجاوز حدوده.
5. وأخيرًا، يؤكد أدلر ضرورة الثبات وعدم اليأس، لن يتغير الأطفال بين عشية وضحاها، فالأمر ليس مرتبطًا بالنتائج السريعة وإنما يتعلق بتدريس السلوك الذي يريد الأهل أن يحاكيه الأطفال مع مرور الوقت، لا سيما أن رؤية التغييرات الحقيقة تحتاج إلى الكثير من الصبر والممارسة والتكرار حتى تتحول اللحظات التأديبية إلى دروس قيمة لمدى الحياة.
يرى البعض أنه من الممكن تجربة هذه المبادئ على جميع الأطفال، بغض النظر عن ظروفهم الاجتماعية، نظرًا للحقيقة القائلة بأن جميع البشر لديهم نفس الاحتياجات العاطفية الأساسية التي يجب الوفاء بها، فالتربية الإيجابية لا تعتمد على أي عوامل أو أدوات خارجية لتكون ناجحة إنما تتطلب ببساطة وجود أحد الوالدين لتلبية هذه الاحتياجات، كما أنها تجيب عن الكثير من التساؤلات التي يطرحها الآباء خلال العديد من المواقف المحيرة.