ترجمة وتحرير: نون بوست
إذا تحقق النجاح، قد تقدم سوريا درسًا قويًا في كيفية اكتساب حركة تمرد للشرعية الوطنية.
سيتم تخصيص الكثير من الوقت والجهد لدراسة أسباب انهيار سلالة الأسد الأب والابن بعد 54 عامًا من الحكم الاستبدادي. هل كانت هشاشة داعميه هي النقطة الحاسمة؟
لقد دمرت حملة القصف الإسرائيلية قيادة حزب الله السياسية والعسكرية في بيروت، بينما تستعد إيران لاحتمال هجوم إسرائيلي آخر.
هل أصبحت القوة الجوية الروسية، التي ألحقت دمارًا هائلًا خلال القصف الذي استمر شهرًا على حلب في عام 2016، قد أُرهِقَت بشكل قاتل في أوكرانيا؟
هل كان رفض قوات الحشد الشعبي العراقي التدخل لإنقاذ الموقف هو القشة التي قصمت ظهر البعير؟
هل أصبح جميع هؤلاء الفاعلين قد ملوا من رفض الأسد حتى لمجرد التفكير في المفاوضات، ناهيك عن التوصل إلى تسوية سياسية مع المتمردين؟
هل تحول محور المقاومة، الذي بنته إيران بشكل استراتيجي، إلى سراب، أو “قرية بوتيمكين”؟ لماذا سقطت حلب، ثاني أكبر مدينة في سوريا، دون أن يُطلق فيها رصاصة واحدة؟
لقد قُتل حوالي 910 أشخاص فقط حتى الآن مع انهيار النظام، وهذه أرقام صغيرة نسبيًا في بلد فقد فيه نصف مليون شخص حياتهم في الحرب الأهلية، وتهجّر الملايين.
هل كان التوقيت الجيد هو السبب الوحيد؟
تتعدد العوامل الداخلية التي قد تفسر الانهيار المفاجئ لجيش الأسد.
بعد أن سيطرت قوات المتمردين على حلب وحماة، قرر النظام المتداعي رفع رواتب الجنود بنسبة 50 بالمئة، وهو ما يعد دليلاً على تدني الأجور وانخفاض المعنويات. وقد بدأ الجنود السوريون في الاستجابة لدعوات المتمردين للانشقاق.
اقتصاد منهار، ومعنويات متدنية، وقائد يرفض التنازل، كانت هذه العوامل التي أشعلت الثورة التي اجتاحت العالم العربي قبل 13 عامًا.
فهل نحن أمام عودة للربيع العربي، الذي بدأ يتوهج مجددًا من بين الرماد الذي لم يُطفأ بالكامل؟
الربيع العربي يُولد من جديد
على مدار السنوات الماضية، كُتبت الكتب، وتمت تغطية المسيرات المهنية، كلها تصوّر أن تلك الرغبة الطائشة في الديمقراطية قد وئِدت.
تطرق النقاش إلى الانقسامات التي مزقت ميدان التحرير، التي لا تزال ترفض التئامها، وإلى الثوار التونسيين الذين اعتقدوا أنهم أكثر تطورًا من إخوانهم المصريين، لكنهم انتهوا باتباع نفس مصير جيرانهم بعد ثماني سنوات، كما أشار البعض إلى كيف أن أمراء الخليج ضخوا ثرواتهم الفاحشة لضمان أن يتبع الربيع شتاءً قاسيًا.
خلال هذه الجنازة الطويلة؛ كانت سوريا تُعتبر درسًا يُنصح العالم العربي بتجنبه. الرسالة التي نقلتها حكومات من البحرين إلى المغرب لشعوبها كانت واضحة: “لا نريد أن نصل إلى ما وصلت إليه سوريا”.
ومع ذلك، وبعد أكثر من 13 عامًا، يبدو أن الثورة قد تبدأ من جديد في سوريا.
المشاهد التي تتكشف في دمشق تذكرنا بعصرٍ منسي: إسقاط التماثيل، فرحة الناس وهم يتسلقون الدبابات، أو ببساطة إدراكهم أنه لم يعد هناك من يراقبهم بعد الآن.
تثير الصور التي تخرج من سجن صيدنايا رعبًا عميقًا، حيث إن الناجين، الذين احتُجزوا لفترات طويلة، أصبحوا يعتقدون أن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد (الذي توفي عام 2000) ما يزال في السلطة، وأنهم يُحرَّرون على يد صدام حسين.
وبينما كانت هذه المقاطع تُعرض بشكل مؤثر على هواتف الجميع، كان يمكن الشعور بأن الصفائح التكتونية في المنطقة تتحرك في الدوحة، حيث كان يُعقد المنتدى السنوي.
الوزراء الذين دخلوا قاعة المؤتمر يوم السبت خرجوا منها يوم الأحد وهم رجال مختلفون.
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف كان في موقف محرج وهو يجيب على الأسئلة المتعلقة بسوريا، فسرعان ما طلب أن يُسأل عن أوكرانيا بدلاً من ذلك.
وكان واضحًا أن الدماء قد سحبت من وجهه، حيث أنه في غضون 10 ساعات من إعلانه أن روسيا لن تتحدث مع “الإرهابيين”، كانت بلاده تستخدم الأتراك للحصول على ضمانات أمنية من هيئة تحرير الشام بشأن قواعدها البحرية والجوية.
كان هذا تحولًا غير متوقع لحركة المتمردين التي كانت قد تأثرت بشدة من القصف الروسي.
وأصبح لافروف في وضع محرج للغاية أثناء الإجابة على الأسئلة المتعلقة بسوريا، وطالب بأن يتم تحويل الأسئلة إلى أوكرانيا.
وفي الوقت نفسه، كان الوفد الإيراني يركض في ممرات الفندق، وجوههم شاحبة وهم ينتقلون من اجتماع إلى آخر.
من جهة أخرى؛ عاد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى الواجهة بعد أن تم إبعاده خلال الأشهر الـ 14 الماضية من الحرب في غزة، بسبب مجموعة الاتصال العربية التي كان قد سعى لإنشائها.
وبينما كانت الثورة السورية تشتعل، تحولت تركيا من مراقب محبط إلى لاعب رئيسي في الشرق الأوسط بين عشية وضحاها.
دون أدنى خطأ
حتى الآن، كان أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، الذي صنفته الولايات المتحدة والأمم المتحدة كإرهابي، مثالًا في التنسيق والتنفيذ، بغض النظر عن نواياه الحقيقية.
لقد حرصت هيئة تحرير الشام على طمأنة المسيحيين في حلب؛ حيث سلمت إدارة المدينة إلى الشرطة فور سيطرة المتمردين عليها. كما تركوا ضريح السيدة زينب في جنوب دمشق دون مساس، وتجنبوا التصادم مع الجماعات المسلحة العراقية.
وضع المتمردون أولويتهم في إبقاء الطريق إلى اللاذقية مفتوحًا أمام الضباط السوريين الهاربين. تعلموا من أخطاء العراق، فتوقفوا عن أعمال النهب وأصدروا أوامر للحشود المؤيدة باحترام المباني الحكومية.
في خطابه بعد انتصاره في المسجد الأموي التاريخي في دمشق، الذي يقع بجوار مرقد صلاح الدين، قال الجولاني وهو يرتدي زيه العسكري إن هذا النصر ليس فقط لسوريا بل للمنطقة بأسرها، ويُمثّل فصلًا جديدًا في التاريخ. لم يكن بإمكان أي شخص في العالم الإسلامي تجاهل دلالة هذه الرموز.
الخاسرون في هذه الثورة أصبحوا واضحين للجميع، لكن من الأصعب تحديد الفائزين.
من الواضح أن إسرائيل استغلت هذه اللحظة لتنفيذ عملية عسكرية كبيرة تهدف إلى نزع السلاح من سوريا.
هدية إسرائيل
وبينما كانت الأنظار مشغولة مساء الثلاثاء، شنت القوات الإسرائيلية هجومًا واسعًا، مستهدفة 300 موقع عسكري سوري، من مطارات وموانئ عبر الأراضي السورية. كما سيطرت على القمة العليا لجبل الشيخ، الذي يهيمن على الجزء السوري من الحدود مع لبنان، ولم تقتصر الضربات على ذلك، حيث استهدفت البحرية السورية في اللاذقية.
ودخلت الدبابات الإسرائيلية الأراضي السورية، حيث ادعى الجيش الإسرائيلي في البداية أنه سيقتصر على المنطقة الحدودية المنزوعة السلاح. ومع ذلك، ترددت تقارير عديدة عن وجود دبابات إسرائيلية في مدينة قطنا، التي تبعد 10 كيلومترات عن الحدود و25 كيلومترًا عن العاصمة دمشق.
قد يكون الهجوم العسكري الإسرائيلي في سوريا جزءًا من خطة مؤيدة للغرب تهدف إلى تهدئة المتمردين منذ بداية النزاع.
من الواضح أن حكومة لا تملك سوى القدرة على فتح جبهات عسكرية جديدة تسعى إلى تكرار ما فعلته في غزة والضفة الغربية المحتلة.
إسرائيل تقدم “هدية” للشعب السوري الذي حرر نفسه من الدكتاتورية، محاولةً سلبه أي قدرة على الدفاع عن نفسه بشكل مهني.
وتواجه حركة المتمردين أولى تحدياتها الآن، قبل أن تتمكن من تشكيل حكومة فعالة، فقد يكون الهجوم الإسرائيلي جزءًا من إستراتيجية تهدف إلى احتواء المتمردين منذ البداية، لكن ما تفعله دبابات “ميركافا” سيحدد مسار السياسة الخارجية للجولاني قبل أن يبدأ حكمه.
أيًّا كانت ملامح سوريا المستقبل، وخاصة إذا كانت سوريا إسلامية، فإن ما تفعله إسرائيل لن يُسمح له بالاستمرار دون مقاومة، حيث لن تتحمل أي سوريا قدرة إسرائيل على تهديد الدفاعات الوطنية.
حماس، على سبيل المثال، كانت واثقة من الاتجاه الذي سيتخذه سوريا المتمردة فيما يتعلق بتحرير فلسطين المحتلة، حتى قبل أن يكون للنظام الجديد أراضٍ جديدة لتحريرها.
وكما يوحي الاسم، فإن عائلة الجولاني من هضبة الجولان المحتلة التي سمح دونالد ترامب لإسرائيل بضمها في فترته الرئاسية الأولى.
وجاء في بيان صادر عن حماس يوم الإثنين: “سوف تواصل سوريا دورها التاريخي والمحوري في دعم الشعب الفلسطيني ومقاومته لتحقيق أهداف قضيته العادلة، مع تعزيز دور سوريا القيادي في الأمة العربية والإسلامية، وكذلك على الصعيدين الإقليمي والدولي”.
لا شك أن انهيار الأسد يمثل خسارة إستراتيجية كبيرة لإيران، إلا أنه بعيد عن تفكيك محور المقاومة.
وقال مصدر فلسطيني رفيع المستوى، مطلع على تفكير الحركة، إن “على كل إنسان حر في العالم أن يفرح بما حدث في سوريا، بغض النظر عن ديانته، سواء كان مسيحيًا أو يهوديًا أو مسلمًا، لأن الوضع في سوريا كان واضحًا بشكل جلي”.
ووصف المصدر الفلسطيني ما حدث في سوريا بأنه “أسوأ مثال على الهجمات الإبادة الجماعية ضد شعب كانت جريمته الوحيدة المطالبة بالإصلاح والحرية والعدالة الاجتماعية”.
وأضاف أن حماس لم تقتصر على دعم المتمردين السوريين، بل كانت “مبتهجة” لأن الشعب أظهر كيف يمكن إسقاط الأنظمة، مشيرًا إلى أن الربيع العربي والقضية الفلسطينية هما معركة واحدة ضد الدكتاتورية والاحتلال.
وأقر المصدر بأن الوجود الإيراني في المنطقة سيكون له تأثير محدود بعد الأحداث الأخيرة، وأن اتصالات إيران مع حزب الله قد تتأثر، إن لم تُقطع، لكنه شدد على أن العلاقة بين إيران وحزب الله وحماس ستظل دون تغيير “حتى وإن ادعى الآخرون خلاف ذلك”.
وأكد البيان الصادر عن حماس على الفرق بين مقاومة يقودها شعب بأسره وبين المصالح الوطنية لقوة أجنبية مثل إيران.
وأوضح المصدر قائلاً: “التغيير يقوده الشعب، وليست القوى الأجنبية. الشعب السوري كان دائمًا مع الفلسطينيين، حتى اللاجئون في المخيمات كانوا يهتفون لفلسطين، لذا فإن هذا لن يؤثر على مفهوم المقاومة. قد يؤثر على اللاعبين الرئيسيين في المنطقة مثل إيران، لكن ما يفيدهم لا يعني بالضرورة أنه يفيد شعوب البلدان الأخرى”.
وتذكر المصدر كيف أن الأسد لم يكن له دور في مواجهة إسرائيل؛ حيث كانت الطائرات الإسرائيلية تضرب أهدافًا لحزب الله والحرس الثوري الإيراني في سوريا دون أي رد فعل من النظام.
وتأتي هذه الأحداث في وقت تسعى فيه إيران لتنفيذ ثلاث عمليات مضادة للاستخبارات لوقف تسريب المعلومات إلى إسرائيل: عملية في إيران لكشف ملابسات اغتيال قائد حماس إسماعيل هنية في منزل ضيافة للحرس الثوري الإيراني، واغتيال حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، بالإضافة إلى تنظيم العديد من الضربات في سوريا والعراق.
وتعكس هذه الأحداث فعالية إسرائيل في تقليص قدرات إيران العسكرية في سوريا لدرجة أن هناك قلقًا داخل الحرس الثوري الإيراني من تسريب تحركاتهم من قبل جواسيس إسرائيليين في القوات الأمنية والاستخباراتية السورية.
ورغم أن انهيار الأسد يمثل خسارة استراتيجية كبيرة لإيران، فإن هذا لا يعني تفكيك محور المقاومة؛ حيث تظل جماعات مثل حزب الله والمجموعات المسلحة العراقية (مثل كتائب حزب الله) وأنصار الله (الحوثيين) في اليمن فاعلة.
ويثق ممثلو المقاومة الفلسطينية أن سوريا لم تُفقد لصالح القضية الفلسطينية، بل تم منحها مصلحة وطنية جديدة تتمثل في طرد الإسرائيليين من أراضيها. ومع ذلك؛ فإن التهديد الأكبر لخطط إسرائيل في فرض هيمنتها على جيرانها سيكون في ظهور جار إسلامي قوي عسكريًا، يبرز للعالم العربي كيف يمكن لشعب ضعيف أن يطيح بنظام قوي.
وفي خضم هذه التوترات؛ يبدو أن القائد أبو محمد الجولاني، بتاريخه في تنظيم القاعدة، لن يكون سهلًا على إسرائيل، التي قد تستهدفه في أي لحظة بعد أن أصبح أحد أبرز القادة الميدانيين في المنطقة.
الدروس المستفادة من الربيع العربي
إذا تبين أن ما يحدث اليوم هو فعلاً بداية فصل جديد في الربيع العربي، فسيكون قد تم استخلاص درس واحد على الأقل من التجارب السابقة.
في مصر وتونس؛ لم يكن الثوار قادرين على تحقيق ثورة كاملة. فقد تميزت الثورة في تلك الدول بالتردد في تبني الفعل المسلح، وهو ما لم يتناسب مع أهداف جماعة الإخوان المسلمين، التي واصلت إيمانها بالضمانات التي قدمتها المخابرات العسكرية المصرية، ولا سيما وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي، حول السماح لحكومة منتخبة بحرية بالحكم.
إلا أن الأمر أصبح متأخرًا بالنسبة للرئيس الراحل محمد مرسي، الذي اكتشف أنه كان مجرد أسير في يد السيسي قبل فترة طويلة من اعتقاله. دفعت الثورات في مصر وتونس ثمنًا باهظًا نتيجة استمرار النظام القائم في السلطة، إذ ظل أعداؤهم الرئيسيون على رأس الحكم.
عمد الثوار في هذه الدول إلى استخدام الأدوات السياسية فقط: محاولة بناء “الديمقراطية” من خلال الإجراءات الرسمية مثل تكوين الجمعية التأسيسية، وإعداد دستور جديد، وتنظيم انتخابات حرة. بينما في المقابل، كان الجنرالات يواصلون تحطيم هذه الهيكلية الهشة بأقدامهم الملطخة بالسلطة.
في المقابل؛ شكلت الثورة السورية تحولًا جذريًا، حيث تمكنت من إسقاط الجيش والدولة العميقة والشرطة السرية بالقوة المسلحة.
إذا استمرت الثورة السورية في هذا الاتجاه ونجحت، فقد تكون قد قدمت درسًا قويًا حول كيفية اكتساب حركة تمرد شرعية وطنية في منطقة هشة، حيث يعاني الحكام من نقص شرعية.
إن نجاح الثورة في سوريا قد يكون قابلاً للعدوى، خاصة في مناطق أخرى من المنطقة حيث الحكام يعانون من نفس نقص الشرعية. وهذا ما يجعل العديد من الدكتاتوريين في المنطقة يشعرون بالقلق، ويخططون لعرقلة هذه التجربة، كما فعلوا بنجاح قبل عقد من الزمن. ولكن هل أصبحت أدواتهم المضادة للثورة قديمة وغير فعالة؟
إلى حد كبير؛ فإن الإجابة عن هذا السؤال تعتمد على الشعب السوري نفسه. ومع مرور الوقت؛ حان الوقت لكي يعيد المصريون والأردنيون والعراقيون التفكير في فهمهم للثورات. فالثورات لا تموت، بل تأتي وتذهب، وقد تتجدد قوتها في لحظات غير متوقعة.
المصدر: ميدل إيست آي