وسط ضحايا القصف وركام الحرب تتوارى قصص تشكل وجهًا آخر لمأساة اليمن، فالحرب وما يرافقها من دمار ونزوح ومجاعة لم تعد مصدر معاناة اليمنيين الوحيد، بل ثمة مأساة كبرى تصب ملحًا فوق الجرح، عندما يقع اليمنيون في قلب تجارة لا يفوقها عالميًا إلا تجارة المخدرات وتجارة السلاح، يكون فيها عتادها جزء من جسدهم، وأطرافها “مافيا” تقتات على وضعهم الاقتصادي المتردي.
تُضاف آثار الحرب والقمع إلى آثار إرث طويل من غياب القوانين والرقابة ومن صراع طبقي متوحش البقاء فيه للأقوى والغني على حساب الضعيف والفقير، الذي يُضطر بعد ذلك إلى أن يبيع قطعة من جسده كي يستمر في الحياه أو أن ينتشل أهله من الوطن.
متاهة اليمنيين في أقبية تجارة الأعضاء البشرية
يتصيّد سماسرة تجارة الأعضاء ضحاياهم اليمنيين تحت دوافع عدة للسفر وصولاً إلى المستشفيات في مصر، البلد الذي بات مركز استقطاب لبائعي الأعضاء، ما جعلها الأولى على مستوى الشرق الأوسط، وضمن أعلى 5 دول على مستوى العالم في تجارة الأعضاء البشرية، إلى جانب كل من الصين والفلبين وباكستان، بحسب تقارير عن منظمة الصحة العالمية والبرلمان الأوروبي.
ينسق السماسرة جهودهم لإيجاد ضحايا تحت مسميات عدة أبرزها التبرع وإغراء الضحايا بالمال، مستغلين الجهل ووطأة الوضع المعيشي على كثير من اليمنيين
يذهب الضحايا اليمنيين، لا سيما ممّن يجهلون القراءة والكتابة، أملاً في تحسين وضعهم الاقتصادي بعد إطماعهم بالحصول على فرص عمل، أو الحصول على مبالغ مالية طائلة يتحصل بائع الكلية عادة على مبالغ مالية تتراوح بين 4 و5 آلاف دولار.
يحدث ذلك في الوقت الذي تصل فيه قيمة الكلية الواحدة أحيانًا إلى 50 ألف دولار يتقاسمها المستشفى وشبكة تجارة الأعضاء من سماسرة وجهات تسهل لهم مزاولة هذا النشاط، حيث تصل مكافأة الوسيط اليمني إلى ألفي دولار عن كل حالة، والوسيط المصري ترتفع مكافأته لـ20 ألف دولار، ويدفع المريض نحو 60 ألف دولار.
ينسق السماسرة جهودهم لإيجاد ضحايا تحت مسميات عدة أبرزها التبرع وإغراء الضحايا بالمال، مستغلين الجهل ووطأة الوضع المعيشي على كثير من اليمنيين، فأكثر من 80% من اليمنيين يعيشون تحت خط الفقر، وتفوق نسبة البطالة 60% بحسب تقرير صادر عن البنك الدولي العام الماضي.
وفي استعراض لرحلة سفر الضحايا من اليمن إلى مصر، وكيف زين لهم السماسرة ذلك، تحدث البعض في تحقيق استقصائي بثته قناة “الجزيرة” موخرًا، وفيه قال علي (40 عامًا): “كنت في صنعاء، صاحبي قال لي تسافر القاهرة عشان ظروفك تعبانة قلت على طول، بعدها قطع لي تذكرة وسافرت القاهرة قال يعطوك 5 آلاف دولار”.
ارتفاع أعداد اليمنيين الذين تصطادهم عصابات تجارة الأعضاء في مصر مقارنة بغيرهم من الجنسيات جعل اليمن يُصنَّف ضمن أسوأ 7 دول تشهد إتجارًا بأعضاء البشر، وفقًا لتقرير الخارجية الأمريكية السنوي عن واقع هذه التجارة في العالم
علي ليس اليمني الوحيد الذي اضطرته الظروف المعيشية الصعبة والحرب في اليمن لبيع أعضاء جسده، إذ رصدت المؤسسة اليمنية لمكافحة الإتجار بالبشر أكثر من ألف حالة بيع وإتجار بالأعضاء البشرية ليمنيين، في الفترة بين عامي 2009 و2014، معظمهم تم إجراء عمليات لهم في مستشفيات بمصر، ودول عربية أخرى بينها السعودية، لكن المؤسسة تتوقع أن يكون العدد الحقيقي للحالات أكبر من هذا الرقم بأضعاف.
ارتفاع أعداد اليمنيين الذين تصطادهم عصابات تجارة الأعضاء في مصر مقارنة بغيرهم من الجنسيات جعل اليمن يُصنَّف ضمن أسوأ 7 دول تشهد إتجارًا بأعضاء البشر، وفقًا لتقرير الخارجية الأمريكية السنوي عن واقع هذه التجارة في العالم.
يرجع ذلك إلى أن القانون اليمني لا يمنع تجارة الأعضاء، ونتيجة لذلك، أصبح هذا البلد الفقير هدفًا للعمليات الدولية بسبب الفقر المستشري، فقد أصبح الوضع متفاقمًا للغاية بسبب الحرب الأهلية، مما ترك 24 مليون يمني بحاجة للدعم الإنساني والحماية، وهناك نحو 5 ملايين طفل يمني معرضون لخطر المجاعة.
كما صنف برنامج الغذاء العالمي 7 محافظات يمنية من بين 22 محافظة بأنهم في مستوى “الطوارئ”، هذا المستوى على بُعد خطوة من مستوى المجاعة في مقياس التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي، بينما وصلت 10 محافظات إلى مستوى “الأزمة”.
من ضحية إلى سمسار.. مصر وجهة تجارة الأعضاء
تجارة الأعضاء البشرية عابرة الحدود واحدة من أكثر الجرائم في العالم ومن أكثرها ربحًا، إذ قدَّر تقرير لمنظمة الصحة العالمية عام 2015 أن أكثر من 10 آلاف عملية بيع للأعضاء البشرية تتم عبر سوق تجارة الأعضاء، وما يقرب من 5 إلى 10% من جميع عمليات زرع الكلى في جميع أنحاء العالم تجري من خلال الإتجار بالبشر، وتحقق أرباحًا سنوية تتراوح بين 600 مليون دولار و1.2 مليار دولار عالميًا.
رواج تجارة الأعضاء في مصر جعلها قبلة لزراعة الأعضاء من جنسيات عدة
لم تبدأ عمليات بيع أعضاء اليمنيين مع الأزمة الحاليّة، فالتقارير المنشورة من قبل تؤكد أن هذه العمليات كانت رائجة، إلا أن هذه الظاهرة تراجعت بعد الحرب مباشرة بسبب إغلاق المطارات، فامتدت أيادي السماسرة إلى اليمنيين المقيمين في مصر، ومن هؤلاء الطلبة الذين انقطعت عنهم المرتبات والمسافرين بغرض العلاج بعد الحرب لكن تعذر عودتهم، فاضطروا لبيع أعضائهم البشرية.
رواج تجارة الأعضاء في مصر جعلها قبلة لزراعة الأعضاء من جنسيات عدة، ورغم أن معظم مشتريي الأعضاء يأتون من دول الخليج، فإن اليمنيين غير مسموح لهم بدخول تلك الدول لأسباب صحية، فبدلاً من ذلك يتجهون إلى مصر حيث توجد معايير دخول أكثر تساهلاً، ولا يحتاج اليمنيون تأشيرة للدخول.
وبالنسبة للوافدين من اليمن، فقد تحولت مصر لمركز استقطاب الفقراء منهم، حيث يوقع السماسرة ضحاياهم عبر إيهامهم بسهولة العملية، ويتكفلون بتجهيز الإجراءات كافة، ويوفرن لهم سبل السفر من جوازات وتذاكر سفر بلا عودة حتى لا يعود أي منهم قبل إكمال المهمة، فضلاً عن تهديده بتسليمه لأجهزة الأمن حال قرر التراجع عن التنازل عن كليته.
أحد اليمنيين الذين جرى استئصال كليته مقابل مبلغ من المال
عندما يصل الضحايا إلى الأراضي المصرية تتغير المعاملة إلى ما يشبه الاختطاف، وتبدأ المعاناة الحقيقية للضحية، ويجدون أنفسهم مجبرين على تصوير فيديوهات باعتباره متبرعًا، فضلاً عن مصادرة جوازات سفرهم وهواتفهم وتسكينهم في شقق بعيدة عن الأنظار أو تحت غطاء أنهم طلاب.
يؤكد ذلك علي الذي باع كليته في مصر عبر سماسرة استدرجوه إلى القاهرة ويشرح كيف جرت معاملتهم فور الوصول إلى مصر: “أول ما وصلنا يأخذوا الجوازات ويخرجونا كالغنم على واحد على اثنين حتى يلاقوا من يطابق للتبرع، الجوازات عندهم أخذوها، فلا تستطيع الخروج، وليس لدينا فلوس، يأتوا لك بأكلك وشربك إلى الشقة”.
تبدأ بعدها خطوات نقل الأعضاء ودخول الضحايا إلى المستشفيات بصفتهم متبرعين يوجههم السماسرة بالتعليمات اللازمة لإنجاز كل الإجراءات داخل المستشفى، فضلاً عن إجراء بعضها في شقق خاصة.
وتبين بعض الصور المتداولة التي سبق أن نشرها موقع “ميدل إيست آي” لواحد ممن جرى استئصال كُلاهم عدم وجود أثر كبير لعمل جراحي، ما يشير إلى استخدام تقنية متطورة في نقل الكلية، وهو ما شجع آخرين على بيع كُلاهم لاعتقادهم سهولة العملية.
يتحول بعض البائعين إلى سماسرة يجلبون غيرهم إلى شبكات الإتجار بالبشر من أجل الحصول على مبالغ مالية تتراوح بين الألف والألفي دولار عن كل حالة يجلبونها
لكن ذلك لم يقِ الضحايا من مضاعفات لاحقة، حيث يخرج الضحية خلال 24 ساعة من إجراء العملية، ويُنقل إلى إحدى الشقق المستأجرة له ليمكث فيها لمدة يوم واحد، ثم سرعان ما يسافر إلى بلده.
وكما هو الحال مع بقية أشكال التهريب، فالعديد من الأشخاص الذين يبيعون أعضاءهم يصبحون في النهاية جزءًا من المشكلة نفسها، إذ يتحول بعض البائعين إلى سماسرة يجلبون غيرهم إلى يد شبكات الإتجار بالبشر من أجل الحصول على مبالغ مالية تتراوح بين الألف والألفي دولار عن كل حالة يجلبونها.
هكذا تتطور أساليب إيقاع الضحايا والحصول على بائعي كُلَى، وتكشف الوثائق والشهادات التي عرضتها “الجزيرة” في تحقيقها أن شبكة مافيا استطاعت ربط المتاجرين بأعضاء يمنيين بشبكة المافيا العالمية لتجارة الأعضاء.
جهات رسمية تقتات على حساب الفقراء
مستشفيات عدة تستقبل الضحايا وتجري فيها الفحصوات وزراعة الأعضاء، وتتوزع المستشفيات بين الحكومية والخاصة، منها مستشفيات تُجرى فيها العمليات في الخفاء، بالإضافة إلى مستشفى المخابرات الذي لا يدخله إلا اليمنيين باعتبارهم متبرعين والمرضى من السعوديين والأجانب، وفق شهادات الضحايا والسماسرة.
أيدت هذه الادعاءات ما حصلت عليه “الجزيرة” من وثائق، ففي واحدة من الرسائل الموجهة من منظمة مكافحة الإتجار بالبشر اليمنية إلى نظيرتها المصرية تشكو الأولى مستشفى وادي النيل بحدائق القبة وعددًا من الأطباء فيه، وهو واحد من قائمة المشافي المصرح لها من الجهات الرسمية المصرية بنقل الأعضاء، ويستقبل أغلب تلك الحالات.
أحد أسباب توسع الظاهرة أيضًا تورط مسؤولين بتسهيل إجراءات سفر المُتبرع اليمني للخارج، عبر تزوير أسباب السفر وكذلك الشهادة الصحية لليمني الذي يسافر لإجراء العملية خارج البلاد
اتهامات عدة وجهها ضحايا وسماسرة للسفارة اليمنية في القاهرة بتجاهل معاناة يمنيين، وصمتها عن تقارير بشأن استغلال مواطنين يمنيين وقعوا في شرك مافيا الإتجار بالبشر، بل ويذهب بعض المنخرطين في هذا النشاط إلى اتهام السفارة بالتواطؤ حيال إعطاء موافقة صلة القرابة مقابل مبالغ على حد قولهم.
ليس هذا الاتهام الوحيد للسفارة، فقد ثبت تورط السفارة اليمنية في القاهرة في الحصول على مبالغ مالية ضخمة من وراء هذه العمليات، لكن مسؤولي السفارة ينفون هذه الاتهامات مستعرضين خطوات تعاطيهم مع نقل الأعضاء فيما سموه “إطارها القانوني”.
أحد أسباب توسع الظاهرة أيضًا تورط مسؤولين بتسهيل إجراءات سفر المُتبرع اليمني للخارج، عبر تزوير أسباب السفر وكذلك الشهادة الصحية لليمني الذي يسافر لإجراء العملية خارج البلاد، أو تسهيل عملية التبرع داخل أحد المستشفيات اليمنية، مقابل الحصول على مكافأة مالية ضئيلة.
ورغم القبض على شبكات تجارة أعضاء في اليمن، فإن غياب الدولة أضعف مواجهتها، فجميع من قُبض عليهم أُفرج عنهم كما يقول نبيل فاضل مسؤول المنظمة اليمنية لمكافحة الإتجار بالبشر، وأرجع ذلك إلى عدم وجود مواد قانونية تجرم هذه الظاهرة فضلاً عن الفقر الذي يعد البيئة المناسبة لتفشي الظواهر السلبية في أي مجتمع مهما بلغت ثقافته.
رسالة من منظمة مكافحة الاتجار بالبشر اليمنية إلى نظيرتها المصرية تشكو مستشفى وادي النيل عام 2014- المصدر: الجزيرة
وسعت جهود رسمية يمنية عام 2014 نحو سن قوانين لمحاربة ظاهرة بيع الأعضاء البشرية، وتشديد العقوبات على السماسرة المنتشرين داخل المدن اليمنية، إلا أن ذلك لم يحدث بفعل ما شهدته وتشهده البلاد من انقسام وصراع، حسب ما ذكرت منسقة اللجنة الوطنية الفنية لمحاربة الإتجار بالبشر سماح عيال.
في مصر أيضًا ترددت أخبار عن عصابات تتاجر بالأعضاء بين عناصرها يمنيون، لكنها لم تكشف مصير تلك القضايا ونتائج التحقيقات فيها، ولم تؤثر على سوق بيع الأعضاء أو تحد منه.
ويرجع ذلك إلى تورط جهات وشخصيات ذات نفوذ في الدولة تقف خلفهم وتتكسب من خلال ذلك، كما يؤكد ذلك سمسار مصري بقوله: “الموضوع شبه مستحيل دون أن يكون هناك جهات حكومية تسهل لنا الأمور في نقلهم من اليمن إلى مصر وأسماء كبيرة يتعاونون معنا، شخصيات رسمية تتعاون بشكل غير رسمي”.
ومع رواج هذه التجارة التي تفرضها ظروف الحرب في اليمن تجابه الجهود الطوعية لمكافحة بيع أعضاء اليمنيين تحديات عدة، من بينها تهديدات وممارسات غير قانونية، فقد أغلقت قوات الحوثي المنظمة اليمينة لمكافحة الإتجار بالبشر في العاصمة صنعاء بعد فضح تورطها في جرائم التجارة بالأعضاء البشرية.