ترجمة وتحرير: نون بوست
لنكن صادقين، يبدو أننا نعيش في وقت ذروة الأكاذيب وانعدام الثقة. ويجب علينا تصفح الأخبار الزائفة باستمرار، وتجنب أصحاب نظرية المؤامرة والنشطاء المناهضين للإجهاض المضللين على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي الأسبوع الماضي، أحصت صحيفة “واشنطن بوست” أكاذيب دونالد ترامب التي تفوّه بها منذ تولّيه منصبه فوجدت أن عددها وصل إلى 10 آلاف كذبة. ومن ناحية أخرى، لم تصدق تيريزا ماي اعتراضات وزير الدفاع السابق غافين ويليامسون على أنه لم يكن مسؤولًا عن تسريب مناقشات مجلس الأمن القومي، الأمر الذي دفعه إلى القسم بحياة أبنائه بأنه غير مذنب.
لكن ماذا عنا جميعًا؟ هل نحن نعيش في عصر أصبحت فيه الأكاذيب مسألة مقبولة؟ يعتقد روبرت فلدمان، الأستاذ في قسم العلوم النفسية وعلوم الدماغ بجامعة ماساتشوستس ومؤلف كتاب “الكاذب في حياتك”، أن هذا الأمر صحيح. وفي هذا الصدد، يقول فلدمان: “أشعر أنه أصبح من المقبول أن أكذب. ويُعد الرؤساء، حتى أولئك الذين لا تحبهم، بمثابة قدوة. وإذا رأيت شخصًا يتمتع بمكانة عالية ويكذب ويفلت من ذلك دائمًا، فإنه يقدم نموذجًا لما هو مقبول. لقد اعتدت كذلك الحديث عن بيل كلينتون على أنه رئيس جعل من الكذب أمرًا مقبولًا، لكن ما حدث هو أنه أفلت من هذه الأكاذيب”.
حفل تنصيب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة خلال شهر كانون الثاني/ يناير 2017. ادعى فريق ترامب أن الحشد الذي حضر هذه المناسبة كان الأكبر على الإطلاق.
في سياق متصل، أضاف فلدمان أنه “على الرغم من نفي كلينتون لعلاقته بمونيكا لوينسكي، إلا أنه لا يزال يحظى بالاحترام والمحبة. إن هذا الأمر يعد بمثابة رسالة قوية، حيث يمكنك أن تكذب وتظل مقبولًا من قبل المجتمع. أما الآن، فأعتقد أننا نمتلك مثالًا أكبر في البيت الأبيض لقائد يكذب باستمرار، فربما يعد الكذب أمرًا يقوم به طوال حياته. وأعتقد كذلك أنه يقدم رسالة سيئة إلى الأطفال وحتى البالغين فيما يتعلق بنجاعة الكذب. إنه يخلق مناخًا يكون فيه الكذب أمرًا مقبولًا بشكل أكبر”.
يعني ذلك أنه قد يتعين علينا أن نصبح أكثر قدرة على كشف الكاذبين. وفي الحقيقة، يوجد اعتقاد سائد بأن كشف الكاذبين يعتبر مسألة بسيطة نسبيًا، إذ يتمتع الكاذبون بنوع من المكر ويمكنك تتبع حركات أعينهم وقد يستعملون عبارات مثل “الحق يقال”. ومن جهته، يقول الدكتور جوردون رايت، الأستاذ المحاضر في علم النفس والمدير المشارك لوحدة علم النفس الشرعي بجامعة لندن في غولدسميث، “في الواقع، نحن فاشلون في هذه المسألة. فعندما ننخرط في عملية كشف كذب سلبية، ومراقبة الأشخاص لمحاولة كشف ما إن كانوا يكذبون أم لا، تكشف لنا نتائج البحث العامة أننا نتخذ قرارات غير صائبة. وتصل نسبة دقة محاولتنا إلى حوالي 54 بالمائة فقط”.
لا توجد مجموعة من الإشارات المتفق عليها عالميًا، نظرًا لأن الشخص نفسه سيظهر أنواعًا مختلفة من السلوكيات اعتمادًا على الموقف الذي يوضع فيه
من جهة أُخرى، يقول رايت إن اختبارات كشف الكذب أو كاشف الكذب تعطي معدل دقة يتراوح بين 65 بالمئة و70 بالمئة، في حين تقدم اختبارات التقاط الحركة لكامل الجسم نتائج أفضل قليلًا تصل إلى حوالي 85 بالمئة. لكن كلاهما يقدم نتائج مختلفة في بيئات واقعية على غرار غرفة الاستجواب لدى الشرطة. ولعل الأسوأ يتمثل في أن الكثير من الكاذبين على دراية بهذه الإشارات الجسدية التي قد تكشف أمرهم ويحاولون استخدامها لصالحهم.
مع ذلك، لا تزال أجهزة الشرطة والموظفين المكلفين بإنفاذ القانون الآخرين يصدقون الكثير من هذه الإشارات. وقد قدم أستاذ علم النفس بجامعة غوتنبرغ بير أندرس غرانهاغ تدريبا لعدة مؤسسات بما في ذلك مكتب التحقيقات الفيدرالي وشرطة لوس أنجلوس. وحيال هذا الشأن، قال أندرس غرانهاغ “ما يحاول علم النفس الشرعي فعله هو دحض خرافة السلوكيات غير اللفظية. فمن الصعب إيصال هذه الرسالة إليهم نظرًا لأنهم يريدون الاعتقاد أنهم يمتلكون هذه المهارة المتمثلة في مراقبة التصرفات الخارجية وتحديد ما يوجد في الداخل”.
في الحقيقة، لا توجد مجموعة من الإشارات المتفق عليها عالميًا، نظرًا لأن الشخص نفسه سيظهر أنواعًا مختلفة من السلوكيات اعتمادًا على الموقف الذي يوضع فيه. بدلًا من ذلك، تركّز الكثير من الأبحاث القائمة حول الخداع على كلام الأشخاص بدلًا من الطريقة التي يتبعونها للحديث.
في الدراما البوليسية وروايات الجريمة، غالبًا ما يساعد حدس المحقق في كشف سر القضية
علاوة على ذلك، نوّه غرانهاغ بإحدى الطرق التي يمكنها تحسين النتائج وهي “تقنية الأسئلة غير المتوقعة، المتمثلة في طرح أسئلة يكون الكاذبون غير مجهزين لها. في الواقع، يجهّز الكاذبون خطابهم أكثر من الأشخاص الذين يقولون الحقيقة. وإذا طرحت الأسئلة المتوقعة عليهم فقط، ستكون ضحية لهم. في المقابل، يمكن للأشخاص الذين يقولون الحقيقة الإجابة على هذه الأسئلة غير المتوقعة لأنهم يعتمدون على ذاكرتهم، في حين يواجه الكاذبون صعوبة أكثر في الإجابة، لأنهم لم يكونوا مستعدين لها.
عندما كان مايكل فولر، مدير شرطة مدينة كنت السابق، تدرّب على دراسة علامات الكذب المفترضة، بما في ذلك التغيرات في السلوك، وحك الرأس وتجنّب التواصل البصري. لكن الأمر يختلف في العمل الشرطي لأنك لا تعتمد فقط على ما يتم إخبارك به بل يجب عليك إجراء تحقيقات حول القضية. ويجب على المحقق ذو الخبرة إجراء تحقيقات حول الوقائع. وبعد الحصول على أدلة أجهزة المراقبة والشهود والوثائق، سيكون من الواضح في تسع من أصل عشر مرات أن المتهمين يكذبون حتى قبل استجوابهم نظرا لأن كلامهم سوف يتناقض مع المعلومات التي حصلت عليها”.
لكنه اعترف بأنه أخطأ من قبل. فقد ألقي القبض على رجل لأن وجهه طابق صورة شخص كان ينفذ اعتداءات جنسية خطيرة في لندن، وكان يتجول حاملًا سكينًا. وقدم الرجل حججًا تؤكد أنه ليس الشخص المطلوب، وفي نهاية المطاف أثبتت نتائج الحمض النووي براءته. ويقول فولر: “لقد كان الجميع يظنون أن هذا الرجل يكذب، لكن أدلة الحمض النووي أثبتت بشكل قاطع أنه بريء”.
في الدراما البوليسية وروايات الجريمة، غالبًا ما يساعد حدس المحقق في كشف سر القضية. لكن قد نتساءل إلى أي مدى يمكن للمحقق الاعتماد على حدسه. وفي هذا السياق، أفاد فولر: “يجب عليك الاعتماد على حدسك كثيرًا لأن ذلك سيساعد في فتح التحقيق”.
كل حركة تقوم بها كلاعب بوكر هي دليل على عدم الارتياح والتوتر.
لنأخذ كمثال قصة الرجل المحتضر الذي أخبر الشرطة أنه قتل أخاه قبل سنوات. لقد كان على الضابط فولر وزملاؤه أن يقرروا ما إذا كان الأمر يستحق حفر فناء المنزل (الذي يعود الآن لشخص آخر). في هذا الإطار، يتذكر فولر: “لقد شعرت أن هذا الرجل كان يقول الحقيقة، لاسيما عندما أخبرني مفتش المباحث أنه لا ينبغي أن نفعل ذلك لأننا سنزعج العائلة الذين لا علاقة لهم بالقضية، وقد اتضح في النهاية أنني كنت على حق”.
يملك لاعبو البوكر قدرة على كشف الكاذبين، وقد صرّحت لاعبة البوكر ومقدمة البرامج التلفزيونية، ليف بويري بأنه: “إذا حاولت الغش في لعبة البوكر، فإن يديك سترتعش وهذا يعني أنك تخاطر بشيء ما”. وأضافت بويري أنه “إذا أردت كشف المخادع فانتبه إلى علامات الانزعاج والتوتر التي تظهر عليه”.
لكن السؤال المطروح هو هل يوجد شيء مشترك بين الأشخاص الكاذبين؟ أوضح غرانهاغ: “نحن نعلم أن الشخص الكاذب يُعِد الرواية التي سيخبرها، كما أنه غالبا ما يحاول إقناعك. من جهة أخرى، أورد رايت أن “الأشخاص الكاذبين يحرصون على التأكد مما إذا كان الطرف المقابل قد صدق كلامهم أم لا، وإذا تفطنوا إلى أنه لم يصدق القصة فعندها يضيفون المزيد من التفاصيل”. وتشير بعض الأبحاث إلى أن الأشخاص يستخدمون عددًا أقل من الضمائر عندما يكذبون، وقد فسر رايت هذا الأمر حيث قال إن الأشخاص الكاذبين يحاولون أن ينأوا بأنفسهم عن الكذب.
قال البروفيسور فلدمان أن “الناس يكذبون طوال الوقت، فنحن نخبر شخصا ما أننا أحببنا ما يرتديه في حين أننا لا نحبه حقا، ونحن نفعل ذلك فقط كي نبدو أفضل أمام الناس
بعد إقالته الأسبوع الماضي بسبب تسريبه معلومات من مجلس الأمن القومي، وهو الأمر الذي ينفيه بشدة، صرّح وزير الدفاع البريطاني غافين وليامسون قائلًا: “أقسم أنني لم أقم بتسريب أي معلومات، أقسم على حياة أطفالي أنني بريء”. قد يكون ويليامسون كاذبًا وربما يكون صادقًا. وأفاد رايت بأن الأشخاص الصادقين قد يبدون مخادعين في بعض الأحيان لا سيما تحت وطأة الضغط.
لكن هل من المحتمل أن يكون الشخص الذي يستخدم عبارات من قبيل “لأكون صريحًا” كاذبًا؟ أجاب رايت عن هذا السؤال مشيرًا إلى أنه لا يمكن الجزم بأن هذا الشخص كاذب، فقد يكون معتادًا على قول هذه العبارة دون أن يكون كاذبًا. علاوة على ذلك، وجد رايت أن الناس أكثر عرضة لتصديق الكذبة إذا كانت تتناسب مع آرائهم الخاصة، فإذا أخبرك شخص ما أنه معجب بشخصية جيرمي كوربين، ويصادف أنك أيضًا من محبيه فمن المحتمل أن تصدقه.
وتجدر الإشارة إلى أن الخبراء في الكذب لا يمكنهم كشف الأكاذيب بسهولة. وقد أفاد رايت بأنه وقع إجراء الكثير من الأبحاث على أشخاص مثله يدرسون هذه الظاهرة، وقد تبيّن أنهم ليسوا أفضل من أي شخص آخر في اكتشاف الكاذبين. وفي حديثه عن السبب الذي يجعلنا غير قادرين على كشف الأكاذيب في بعض الأحيان، أجاب البروفيسور فلدمان أن “الناس يكذبون طوال الوقت، فنحن نخبر شخصًا ما أننا أحببنا ما يرتديه في حين أننا لا نحبه حقًا، ونحن نفعل ذلك فقط كي نبدو أفضل أمام الناس، وفي معظم الأحيان يكون لهذه الأكاذيب الصغيرة عواقب بسيطة للغاية، ولكنها في الواقع تعمل على دفع عجلة التواصل الاجتماعي”. كما أوضح رايت أن “الأكاذيب تدور حولنا فالناس يكذبون أكثر مما يدركون، وهي في الحقيقة، الطريقة التي يعمل بها المجتمع”.
المصدر: الغارديان