لم تدخر الطبقة الحاكمة في العراق جهدًا لتعزيز سلطتها وحصرها بطائفة واحدة، والعمل بجد على تهميش باقي مكونات الشعب العراقي، وصولًا إلى عراقٍ فاقدٍ لتنوعه القومي والديني والثقافي، مشوَّهًا في قيمه ومبادئه لا يحمل من العراق إلا اسمه، فاقدًا لأساس قوته المنبثقة من تنوعه.
وبسبب أن النظام “الديمقراطي” الجديد الذي جاء به الاحتلال الأمريكي، يقضي بفرض تمثيل لجميع المكونات العراقية في العملية السياسية، فإنهم مضطرون للسكون عن سياسيين من غير مكونهم الطائفي، ولو كان الأمر بيدهم، لما جعلوا لأحد من تمثيل في العملية السياسية، ولأجل هذا عَمِلوا جاهدين على إيجاد تمثيل شكلي لأهم مكون عراقي وهو المكون السنَّي، ينفذ لهم ما يطلبون منه.
ومما لا شك فيه أن هذا النهج الذي تنتهجه الأحزاب الموالية لإيران، سيعمل على تحويل العراق إلى حالة من السوء لم تمر عليه من قبل، وهذا بالضبط ما تريده إيران، تلك الدولة التي ترعى هذا المشروع الطائفي المستمر بالعراق، لأنها لا تريد السماح له بامتلاك مفاتيح قوته وأسرار تفوقه وتقدمه، فالوضع الحاليّ للعراق المليء بالمشاكل والفاقد لإرادته السياسية والمعتمد على إيران في كل شيء ولا يستطيع الانفكاك عنها، هو الوضع المثالي كما تراه إيران.
بواسطة سياسة العصا والجزرة، أصبح السياسي السنَّي لا يصل إلى منصبه السياسي إلا بموافقة من الأحزاب الموالية لإيران ودعمها
ولأجل ذلك، طرحت الأحزاب الشيعية نفسها للمحتل الأمريكي بأنها خير من يرعى مصالحه بالعراق، فمكنها المحتل من حكم العراق، فعملت تلك الأحزاب على جعل المكون الكردي منهمكًا بأحلامه في التحضير لدولة قومية كردية، وتفرغت للمكون السني لإقصاء جميع الفاعلين فيه وعلى كل المستويات والعمل على تطويع هذا المكون ليدور بفلكهم، واستهدفت قائمة طويلة من الرموز السياسية السنية بأيادي الإجرام المليشياتية، إضافة إلى تصفية العديد من المشايخ الذين لم تنجح بتطويعهم.
وبواسطة سياسة العصا والجزرة، أصبح السياسي السني لا يصل إلى منصبه السياسي إلا بموافقة من الأحزاب الموالية لإيران ودعمها، رأينا ذلك في منصب رئيس البرلمان لمحمد الحلبوسي ومن قبله سليم الجبوري وغيرهم من المسؤولين.
ولم تعد لسياسيي السنة كتلة سياسية واحدة تجمعهم، بل انقسموا لعدة أقسام لينضموا لكتل شيعية مختلفة، وباتوا يسمون بسنة “الفتح” أو سنة “الإصلاح”، كناية على الكتل الشيعية التي انضموا إليها، وأصبح تأثير الشخصيات السياسية السنية غير موجود ولا يحسب له حساب لأنه محسوم سلفًا لصالح أجندة الأحزاب الإيرانية، عكس ما كان عليه الحال في بداية العملية السياسية بعد 2003، حينما كان لبعض سياسيي السنة دور في معارضة مشاريع إيران.
لم تكتف الأجندة الإيرانية بالبلاد عند هذا الحد، بل إنها وبسبب الفشل في الحصول على الولاء الشعبي لأبناء المكون السني، عمِدوا إلى صنع رموز دينية سنية، للتأثير على عامة أبناء هذا المكون، فظهرت شخصية مثل مهدي الصميدعي الذي عمل رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي على استحداث منصب جديد له باسم مفتي الجمهورية، ليتم استغلاله بعد ذلك في تنفيذ أجندات سياسية ترتبط معظمها بإيران، هذا الرجل الذي بدأ عمله بالدوران في فلك الصوفية، حينما كان يرعاها عزت الدوري نائب صدام حسين، لم يلبث أن انقلب ليصبح ممثلًا للسلفية بنسختها “الجامية” الموالية لأي نظام، حيث يقول الصميدعي: “السلفية هم أهل السنة، ويؤمنون بحرمة الخروج على ولي الأمر، خاصة إذا لم يظهر الكفر البواح”، وماذا تريد السلطة بالعراق أكثر من هذا الخطاب؟ الداعم لسلطتهم والمحرم لعملية الخروج عليهم؟
كثيرة هي الشخصيات السياسية التي استطاعت إيران تمريرها في العملية السياسية العراقية، فكان لها دور مهم في تمرير العديد من القرارات والمواقف السياسية باسم إجماع الطيف العراقي مثل قانون الحشد الشعبي سيء الصيت
شخص آخر عُرف عنه محاولاته للتقرب من السلطة بالمديح وإصدار الفتاوى التي تتوافق مع السلطة هو خالد الملا الذي أنشأ لنفسه مؤسسة وترأسها سُميت “جماعة علماء العراق”، ليستطيع إصدار التصريحات باسم السنة والتعبير عن موالاته للنظام الحاكم بالعراق والتأييد المطلق للنظام الإيراني، ووصل لمرحلة تعتبر انسلاخًا عن مذهبه، حينما أطلق الألقاب وصفات القداسة بما هو بعيد عن عقيدة التوحيد التي يؤمن بها سنَّة العراق، على المرشد الإيراني علي خامنئي وعلى زعيم المرجعية الشيعية علي السيستاني، بل إنه أفتى بأن نوري المالكي خليفة للمسلمين واجب الطاعة، والخميني هو الإمام القائد، ومع ذلك كله بقي هذا الرجل منعزلاً ولا تأثير له على أبناء المكون السنَّي عكس ما كان يرجوه من قام بتلميع شخصيته.
وعلى خطى سابقيه، كان رئيس ديوان الوقف السني الحاليّ عبد اللطيف الهميم، فمن أجل هذا المنصب قدم فروض الطاعة لحيدر العبادي، ووجدت الكتل السياسية الشيعية بهذه الشخصية ضالتها وأعطت له الضوء الأخضر ليتورط بخروقات مالية وإدارية أوصلته لمرحلة الاستجواب بتهم الفساد، وليتم بعد ذلك مساومته على تلك التهم في حال لم ينفذ ما يريدونه منه، وما المساجد والأراضي التابعة للوقف السنَّي في الموصل وغيرها من المدن التي يتم مصادرتها لصالح الوقف الشيعي إلا أمثلة بارزة على الثمن الذي تدفعه أوقاف السنة بسبب شخصية وصولية فاسدة كشخصية الهميم.
وكثيرة هي الشخصيات السياسية التي استطاعت إيران تمريرها في العملية السياسية العراقية، كان لها دور مهم في تمرير العديد من القرارات والمواقف السياسية باسم إجماع الطيف العراقي مثل قانون الحشد الشعبي سيء الصيت وتمرير الموازنات السنوية الفاسدة والعديد من القرارات التي لولا أولئك السياسيين المحسوبين على السنَّة لما تم إقرارها.
الواجب الذي يتحتم على أشراف وأعيان هذا المكون السني العراقي الأصيل أن يبيَّنوا للناس حقيقة هؤلاء الذين يتحدثون باسمهم زورًا وبهتانًا
إن المطلوب الآن إيرانيًا من السياسيين السنة، هو تقديم الولاء للكتل الشيعية، ليستمروا بمناصبهم وإلا فإن إقالتهم مطروحة بكل وقت وفق تُهم جاهزة كذريعة الانتماء لداعش أو الانتماء لحزب البعث المحظور، وبذلك يسهل ترويض أي سياسي سني يظهر استقلاليته والاكتفاء بوزراء يتم تشكيلهم على حسب توجهاتهم.
وقد أُستخدم القضاء في ترويض الكثير من السياسيين السنة، بإلقاء التهم عليهم، ومن ثم مساومتهم على مواقفهم وشرائها، بالمقابل تم استخدام القضاء لرفع التهم عن بعض السياسيين السنة أمثال الخنجر وسليم الجبوري، والعديد من السياسيين من هذه الشاكلة، مقابل مواقف سياسية.
لكن الواجب الذي يتحتم على أشراف وأعيان المكون السنَّي العراقي الأصيل، أن يبينوا للناس حقيقة هؤلاء الذين يتحدثون باسمهم زورًا وبهتانًا، وأن يأخذوا على عاتقهم عبء الظهور الإعلامي وتمثيل أهل السنة بشكل صحيح بالمنابر المختلفة، ليعبر عن تطلعاتهم وإبراز همومهم ومشاكلهم ومظلوميتهم التي يعانون منها، وإلا فإن إيثار السلامة والخشية من عاقبة الظهور والتصدي لهؤلاء المزيَّفين الفسدة سوف يعمل على ذوبان هذا المكون الكبير والأصيل، حينها لن تنفع الندامة ولا يمكن إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء.