منذ تحرير مدينة حلب وكامل محافظة إدلب على يد فصائل الثورة يوم 29 نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم، سارع مئات السوريين المهجّرين للعودة إلى قراهم ومنازلهم التي أُخرجوا منها تحت قصف طائرات نظام بشار الأسد. لكن الصدمة كانت في انتظارهم؛ فالطرقات والبيوت التي وسعت ذكرياتهم أضحت ركامًا، والمقابر التي احتضنت شهدائهم عبثت بها أيدي الحقد بطرق مروعة.
وتشير الوقائع إلى أن هذا التدمير كان منظمًا، كجزء من سياسة ممنهجة اتبعها النظام لطمس جذور معارضيه، وحرمانهم من ذكرياتهم المرتبطة بالأرض والهوية، من خلال السماح لعصابات النهب والسرقة بالاستفراد في هذه المناطق، وتنفيذ عمليات سرقة مدروسة، فيما يتقاسم ضبّاطه وجماعات النهب أرباح المسروقات.
ساهمت في هذا أيضًا الميليشيات الإيرانية المسلحة، التي لم تكتفِ بالمشاركة في القمع العسكري، بل تمادت لصنع تركة من الكره الطائفي في كل أنحاء البلاد، عبر خط عبارات بالفارسية والعربية تحمل رسائل ترهيبية ملأت جدران المنازل المدمرة، ما يعيد التأكيد بأن وجودهم لم يقتصر فقط على دعم نظام الأسد وإطالة بقائه في السلطة، بل إنه أيضًا جزء من خطة احتلالية توسعية، تنتهج تدمير الهوية الثقافية للسكان كطريقة لتحقق هدفها.
لكن مع سقوط نظام الأسد، وهروب رأسه بشار الأسد فزعًا إلى روسيا، وولادة الأمل من جديد بالعودة والبناء، تبرز عدة تحديات تتعلق بمشاريع البناء والتخطيط في ظل قلة الموارد. بالإضافة إلى إيجاد استراتيجيات إعادة إعمار تحافظ على الهوية المحلية، وتعالج آثار الحرب التي شوّهت ملامح هذه المناطق.
مناطق بأكملها لم تعد صالحة للعيش
على سبيل المثال، نشطت في السنوات القليلة الماضية مجموعات تعتمد على سرقة وبيع مواد البناء الأساسية، التي تُنهب من منازل القرى والبلدات التي سيطر عليها النظام بعد أن كانت محررة، مثل الحديد والخشب والألمنيوم، وكل ما يمكن بيعه والاستفادة منه.
ورغم أن قيمتها في كثير من الأحيان لا تتجاوز 5 دولارات، إلا أنها تمّت ضمن عمليات منظمة يجري الترتيب لها على عدة مراحل، الهدم ثم التفكيك ثم نقلها وبيعها في الأسواق.
وقد ساهم النظام بشكل أساسي في التستُّر على نشاط هذه العصابات، وتوفير الغطاء القانوني لها، كونها تصبّ في صالحه من ناحية دعم استراتيجيته التي تهدف إلى جعل هذه المناطق غير قابلة للعيش بشكل قاطع.
عبد الله الخطيب، ابن كفرنبل بريف إدلب، عاد إلى قريته بعد أن هُجّر مع عائلته قسريًا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، عمل خلالها ضمن فريق إغاثي. لم يتخيّل عبد الله أن لحظة العودة ممكنة، يصف مشاعره حين دخل منزله لأول مرة بأنها مزيج من الصدمة والفرح: “استرجعت مباشرة صورة أمي وهي واقفة على شباك المطبخ وعم تجهز لنا الأكل”، فيما تنقلت أفكاره بسرعة بين ذكريات الماضي، والأمل بعودة قريبة، بعد إعادة إعمار البيت من جديد.
إذ يؤكد لنا في حديثه أن منزله ومنازل القرية بأكملها بحاجة إلى إعادة إكساء كامل، حيث تبيّن بعد جولة أجراها في المدينة رفقة أصدقائه، بعد دخول قوات المعارضة مباشرة، إلى أن 90% من منازل القرية قد تعرضت للسرقة والنهب بطريقة يجعل العودة إليها في المستقبل القريب غير ممكن.
فضلًا عن أكوام الركام الهائلة، وانتشار النباتات الشوكية والشجيرات العشوائية التي غطّت الطرقات الواصلة بين القرى والأحياء، فهي -حسب اعتقاده- ستكون عائقًا كبيرًا في وصول الأهالي إلى مناطق عديدة، إذ لم يكن من السهل أبدًا التنقل داخل المنطقة بالسيارات أو حتى مشيًا على الأقدام.
دمار منهجي ورسائل ترهيب
في مثال مشابه بقسوته، عادت الدكتورة سدرة شحادة إلى منزلها في حي صلاح الدين في حلب، بعد ما يزيد عن 9 سنوات من التهجير، قضتها في جبل الزاوية أولًا وسلقين ثانيًا، في محافظة إدلب، لتجد منزل عائلتها قد سُوّي بالأرض تمامًا، مثل 80% من مساحة الحي.
إذ إن البنية التحتية قد انهارت بشكل كامل، بعد سنوات من القصف والتدمير، فيما لا يبدو حجم الدمار الحاصل نتيجة معارك واشتباكات فقط، بل يحمل بصمات تشويه ممنهج لهوية الحي، استهدفت معالمه التي ضمّت في مرحلة ما من عام 2015 أنبل مقاتلي الثورة السورية.
تحكي الدكتورة سدرة عن لحظة العودة بأنها كانت أشبه بصفعة قاسية، مشهد الدمار كان واسعًا لدرجة فاقت كل توقعاتها. تقول: “حين وصلنا إلى الحي لم نجد سوى أنقاض تذكرنا بما كان يومًا ساحةً سطر فيها شهداؤنا أروع بطولاتهم”.
الدمار لم يكن مقتصرًا على منزلها فقط، فالحي بأكمله بدا وكأنه مهجور منذ سنوات، لا مدارس، لا مستشفيات، ولا ملامح حياة تذكر. وتقول: “ما رأيته جعلني أدرك أن العودة ليست خيارًا في الوقت القريب. حجم الضرر يتطلب إعادة إعمار جذرية وطويلة ربما”.
وتشير إلى انتشار عبارات بعضها بالفارسية وأخرى بالعربية، كتبت على ركام المنازل وبقايا الجدران، تحمل رسائل تهديد وترهيب واضحة. تقول عنها: “العبارات برأيي تنقل رسائل حقد واضحة، ومن السذاجة تفسيرها بغير معناها. ربما أرادوا التأكيد لأنفسهم على انتصاراتهم المؤقتة، والتصديق بأنهم باقون، لا أعلم ولا شيء من هذا يهم اليوم بعد أن هزمناهم وعدنا”.
تحضر هذه العبارات المنتشرة في أنحاء عديدة من البلاد، لتؤكد لنا على سنوات من محاولات كسر السوريين المهجرين نفسيًا، وسلب آمالهم بالعودة، وترهيب من تبقى من السوريين في الداخل، كجزء من الحرب النفسية التي تهدف إلى منعهم من التفكير بالتحرر والخلاص.
مراسل “نون بوست” حمزة عباس، عاد ليتفقد منزله في حي القابون الدمشقي بعد سنوات من التهجير قضاها في الشمال السوري، ليجده مدمرًا عن آخره.
أولويات عمليات إعادة الإعمار
بعد سنوات من التدمير الممنهج والصراعات العنيفة، تواجه سوريا، وبالأخص في تلك المناطق التي شهدت فترات قصف واشتباكات متكررة، تحديات عمرانية كبيرة. حيث إن حجم الدمار يتفاوت من منطقة لأخرى حسب عدة عوامل، منها شدة القصف والمعارك، وعمليات النهب التي استهدفت البنية التحتية والمنازل.
على سبيل المثال، في بعض المناطق لم يتبقَّ سوى ركام، بينما بقيت مناطق أخرى مأهولة جزئيًا. ومع سقوط النظام مؤخرًا، تلوح في الأفق فرصة لإعادة الإعمار، لكن هذه الفرصة تأتي محملة بتحديات تتطلب خططًا مدروسة وتنسيقًا محكمًا بين الجهات المحلية والدولية لإعادة الحياة إلى هذه المناطق.
تحدثنا بهذا الخصوص مع المهندس هشام حاج محمد، الذي أوضح أن الأولويات اليوم تتمثل في “إعادة تأهيل البنية التحتية، خاصة شبكات الكهرباء التي يجب أن تكون الخطوة الأولى في أي خطة إعمار”.
ويشير إلى أن شبكات الطرق الرئيسية في المناطق المحررة بحالة جيدة نسبيًا، بينما تحتاج شبكات المياه والكهرباء إلى تدخلات أكبر، معتبرًا أن حلول اللامركزية المؤقتة، التي تم تطبيقها في الشمال المحرر، قد تكون مناسبة كمرحلة أولى. ويضيف: “المشاريع الحالية، سواء محلية أو دولية، تعتمد نهجًا متشابهًا في دراسة الاحتياجات، لكنها تواجه قيودًا مرتبطة بالتمويل”.
وفيما يتعلق بالتحديات الهندسية، يشير إلى أن “المعدات المستخدمة في قطاع البناء محليًا قديمة وغير قادرة على تنفيذ مشاريع بجودة عالية، مشددًا على ضرورة تحديث العتاد، والاستفادة من الكوادر البشرية المؤهلة في سوريا، وأيضًا من العمال الذين اكتسبوا خبرات واسعة من العمل في دول المنطقة، وهذه ميزة يمكن أن تدعم عمليات الإعمار”.
فيما يقترح الاعتماد على التنمية اللامركزية لتخفيف الضغط عن المدن الكبرى، مع استغلال الموارد المحلية في البناء لتقليل التكاليف وتعزيز الهوية المعمارية.
الطريق نحو إعادة إعمار سوريا طويل وشاق، لكنه ليس مستحيلًا. مع سقوط النظام، تبدو الفرصة مواتية للبدء في معالجة الخراب المادي والمعنوي الذي خلفته الحرب، وشهادات العائدين، مثل الدكتورة سدرة شحادة وعبد الله الخطيب، التي تسلط الضوء على الألم، هي في الوقت نفسه تعكس تطلعًا لاستعادة الحياة رغم الخراب، وهذا لا يمكن تحقيقه سوى بتعاون المجتمع السوري ودعم المجتمع الدولي.