بدموع الحرقة والحسرة، وقف رضا بسيوني ابن بلدة صان الحجر بمحافظة الشرقية (156 كيلومترًا من العاصمة) يودع آثار بلده المحملة على شاحنات (مجهولة الهوية) في طريقها إلى القاهرة، تلك الشاحنات التي سلبت معها صديق طفولته، التاريخ، كما يسميه، في مشهد لا يقل في وقعه عن مواكب الجنائز.
في الـ10 من سبتمبر الماضي فوجئ أهالي عاصمة مصر القديمة خلال حكم الأسرة الحادية والعشرين (1070-664 ق.م) بسيارات نقل كبيرة (16 سيارة) تحمل عشرات القطع الأثرية وبعض المسلات من المدينة لنقلها إلى العاصمة الإدارية الجديدة التي بناها الرئيس عبد الفتاح السيسي، الأمر الذي أصاب أبناء المنطقة بالجنون.
الأهالي وصفوا المشهد بأنه “سرقة جديدة لتاريخ بلدتهم” الأمر الذي أعاد للأذهان سجل السرقة الحافل لهذه البلدة، التي كانت في وقت من الأوقات مخزنًا لآثار مصر وعاصمتها الأثرية الأولى، التي وقعت مع مرور الوقت في قبضة الكبار وذوي النفوذ بمساعدة بعض المرتزقة وتواطؤ العديد من الأجهزة الرسمية.
السلطات وعدت الأهالي ببناء متحف لهم يضم ما تبقى من آثار البلدة بعد سرقة معظمه، لعله يكون نافذة جديدة تضع المنطقة تحت مجهر الاهتمام العالمي، فتنتشلها من واقعها الاقتصادي المتردي، إلا أن هذا الوعد تبخر سريعًا بعد نقل تلك الآثار، ولم يتبق للمقيمين سوى تاريخهم المسروق وواقعهم المر.
تانيس..العاصمة القديمة
في النصوص المصرية القديمة عرفت صان الحجر باسم “جعنت” أما في اليونانية فكانت تسمى بـ”تانيس” وهو الاسم الأكثر حضورًا على موائد التأريخ الأثري، ثم تحوّلت في العربية إلى اسم “صان” ثم أضيف لها “الحجر” لكثرة الآثار المبنية من الأحجار بها، بحسب الدكتورة فاطمة الزهراء الجبالي أستاذ الآثار المصرية بجامعة الفيوم.
كشفت الجبالي أن لهذه المدينة مكانة تاريخية كبيرة في العصر القديم، حيث كانت العاصمة السياسية والدينية لمصر خلال حكم الأسرة الحادية والعشرين، هذا بخلاف موقعها الإستراتيجي الذي أهلها لأن تكون قبلة العالم في هذا الوقت.
وأضافت أن إشرافها على الفرع التانيسي لنهر النيل سهّل من إمكانية وصول السفن لها عن طريق بحيرة المنزلة، كما أنها تحوّلت مع مرور الوقت إلى مهبط العديد من موجات الهجرة من بعض المدن الأخرى خاصة في حال الجفاف وانحسار المياه عنها.
أما عن مكانتها الأثرية فتضم المدينة مقابر الأسرتين الحادية والعشرين والثانية والعشرين، بجانب بعض المعابد مثل آمون وموت وحورس وخونسو، إضافة إلى تماثيل للملك رمسيس الثاني، مقبرة أوسركون الثاني ومقبرة الملك ششنق الثالث ومقبرة الملك بسوسنس الأول.
أستاذة الآثار المصرية أرجعت بداية محاولات التنقيب عن الآثار في تلك المدينة إلى عام 1859 عن طريق علماء فرنسيين، إلا أن أكثر الاكتشافات التي أثارت جدلاً في تاريخ البلدة كان عن طريق عالم الآثار بيير مونتيه الذي استمر 12 عامًا في البحث والتنقيب، واكتشف مجمعًا من المقابر الملكية يتكوّن من ثلاث غرف للدفن غير منتهكة الحرمة احتوت على ثروة أثرية ضخمة، مثل: الأقنعة الذهبية وتوابيت مصنوعة من الفضة وتوابيت حجرية رائعة الإتقان والعديد من الأساور والقلائد والمعلّقات والتمائم وأدوات الطعام، هذا بالإضافة إلى احتوائها على آثار عديدة كالتماثيل والمزهريات والجرار وما إلى ذلك.
ونظرًا لهذه المكانة الكبيرة لـ”تانيس” تم تخصيص قاعة كاملة بالمتحف المصري بالقاهرة للآثار المستخرجة منها، لا تقل روعة ولا جمالاً عن آثار مقبرة توت عنخ آمون المحفوظة بنفس المتحف، لكن يبدو أن هذا كله لم يشفع لأصحاب هذه الأرض في أن يكون لهم كيانًا يجسد هذا التاريخ.
مقابر تانيس
تاريخ من السرقة
جولة سريعة داخل المنطقة كفيلة أن ترسخ في الأذهان أركان واحدة من أكبر جرائم السرقة في التاريخ القديم والحديث، فالطبيعة الصحراوية للمدينة وآثار التنقيب لا تزال شاهدة على موجة السرقات التي تعرضت لها مقابر وآثار البلدة التي لم يتبقَ لأهلها سوى رمالها البيضاء والصفراء، أما الدرر الأثرية ذاتها فكانت من نصيب الكبار.
“محمد س” مفتش آثار سابق بمنطقة صان الحجر، يكشف أن ما تعرضت له آثار تلك المنطقة من سرقة لم تشهده منطقة أخرى في مصر وخارجها، فثراء ترابها بالمقابر والمعابد كان مطمعًا للكثير من تجار الآثار، وفي عقود قليلة تم تفريغ البلدة من مكنونها التاريخي ولم يبقَ إلا القطع كبيرة الحجم صعبة النقل ورخيصة الثمن.
مفتش الآثار لـ”نون بوست” أشار إلى أن خرائط أماكن تلك المقابر كانت بحوزة بعض منقبي الأثار، وهو ما يتضح من طريقة السرقة، حيث كان بعضهم يعرف جيدًا من أين يبدأ ومن أين ينتهي وكيف يدخل المقبرة دون أن يُحدث أي تلفيات في الحفر أو النقل، وهذا لا يتوفر إلا لمن يمتلك خريطة تفصيلية عن المكان، الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات وقتها بشأن أسماء من زودوا هؤلاء المجرمين بمثل هذه الخرائط.
يتفق هذا الحديث مع ما أدلى به ممدوح محمد، أحد سكان صان الحجر، والذي أشار إلى أنه حاول كثيرًا كما غيره البحث والتنقيب عن الآثار داخل بيته وخارجه، خاصة في منطقة “التل” الشهيرة، إلا أنه فشل في العثور على أي قطع أثرية، لافتًا أنه كلما كان يقترب من مكان مقبرة ما يكتشف أنه قد تم سرقتها قبل ذلك.
وأضاف محمد لـ”نون بوست” أن هذا دليلٌ واضحٌ على أن من يأتي للتنقيب في هذه المنطقة وينجح في العثور على مقابر بأكملها لا بد أن يحمل معه خريطة تفصيلية، كاشفًا أن هذه الخرائط في ملكية أجهزة الدولة، متسائلاً: من أين يحصلون عليها إذا؟ ومن يساعدهم في ذلك؟ وما هو المقابل؟
يمثل نواب المنطقة مرتكزًا محوريًا في عملية سرقة الآثار في منطقة صان، فعلى مدار العقود الطويلة التي مضت، استطاع النواب عن طريق ما يتمتعون به من حصانة في نقل عشرات القطع وبيعها
من يقف ورائهم؟
الأسئلة التي طرحها محمد بشأن تسهيل عملية سرقة الآثار كانت أول الخيط للبحث عن الإجابة للسؤال الأكبر: كيف تم تفريغ عاصمة مصر القديمة من تراثها الأثري بهذه الطريقة؟ خاصة أن هناك تفسيرات عدة ورؤى مختلفة في هذا الشأن، فالأمر يعود لعقود طويلة من السرقة وليس وليد اللحظة.
وبحسب مصادر عدة من داخل البلدة لـ”نون بوست” فإن خريطة السرقة انقسمت إلى 3 محاور، كل محور كان له دور محوري في تسهيل عملية التنقيب، هذا بجانب البيع والتصدير للخارج مقابل عمولة، وكان هذا كله يتم على مرأى من بعض الأجهزة الشرطية المكلفة بحماية المنطقة.
الأول: نجلي مبارك.. المصادر أشارت أن عملية التنقيب كانت تتم تحت رعاية جمال وعلاء مبارك عن طريق رجالهما في المنطقة، هذا بجانب بعض الأسماء داخل الديوان الرئاسي على رأسها زكريا عزمي رئيس الديوان الأسبق، حيث كانت تأتي التعليمات مباشرة لتجار الآثار بالتنقيب داخل بعض الأماكن المحددة سلفًا والمعروف ثراءها بالآثار.
كانت تتم عملية التنقيب ليلًا، وبحسب المصادر، كان يُفصل التيار الكهربائي في هذه الأوقات، الأمر الذي كان يعتاده أبناء البلدة، غير أنهم لم يكتشفوا حقيقة ما حدث إلا بعد أيام من عملية السرقة، حين يرون آثار عمليات التنقيب وقد فضحت القائمين بها.
وفي المقابل ذهب آخرون إلى أن دور علاء مبارك ورفاقه كان يقتصر على تسويق هذه الآثار المسروقة، أما تفاصيل السرقة لم يكن على علم بها، وكانت تتم عن طريق كبار التجار ممن أوهموا البعض أنهم على علاقة بنجل الرئيس، الأمر الذي كان يسهل مهمتهم كثيرًا.
الثاني: عناصر من جهات سيادية. العديد من عمليات التنقيب في هذه المنطقة كان تتم تحت إشراف عناصر من جهات سيادية، وهو ما كشفه “عامر س” أحد المهتمين بعملية التنقيب، ففي حديث لـ”نون بوست” كشف أن الغالبية العظمى من عمليات الحفر تتم بعلم جهات من أجهزة بعينها على رأسها الشرطة والمخابرات.
وأضاف أنه كان شاهدًا حيًا على إحدى هذه العمليات قبل 15 عامًا تقريبًا، حين أراد التبليغ عن محاولة سرقة إحدى المقابر في منطقة التل إلا أنه فوجئ أن أجهزة الشرطة على علم بما يحدث والقائم على العملية شخصية بارزة في إحدى أجهزة الدولة السيادية.
وفي الإطار ذاته فإن معظم هذه العمليات يتم التسويق لها على أنها تابعة لوزارة الآثار وعملية التنقيب شرعية وقانونية، وطبعًا كل هذا يتم تحت مرأى ومسمع أجهزة الشرطة، إلا أن المفاجأة تحدث حين يتم الانتهاء من العملية، حيث تنقل ليلاً وفي غيبة عن أعين الجميع، ثم لا يسمع أحد بها، وحين يتم السؤال مرة أخرى يتم نفي وجود تنقيب من الأساس وتهديد كل من يفكر في الحديث عن هذا الموضوع مرة أخرى.. بهذا أكمل عامر حديثه.
الثالث: أعضاء مجلس النواب. يمثل نواب المنطقة مرتكزًا محوريًا في عملية سرقة الآثار في منطقة صان، فعلى مدار عقود طويلة مضت، استطاع النواب عبر ما يتمتعون به من حصانة في نقل عشرات القطع وبيعها، وهو ما تم الوقوف عليه مرارًا وتكرارًا بحسب الأهالي.
سالم.، محامِ من مركز الحسينية التابع له منطقة صان الحجر، كشف في حديثه لـ”نون بوست” أن أعضاء الحزب الوطني المنحل كان لهم السبق في هذا المضمار، حيث كان بعضهم يعتمد في المقام الأول على تهريب آثار المنطقة في بناء ثروتهم التي بلغت المليارات في غيبة تامة عن أجهزة الرقابة.
في الوقت الذي أكد فيه الأهالي أن أكثر من 16 سيارة نقل كبيرة تم تحميلها بعشرات القطع الأثرية لنقلها للقاهرة يذهب الدكتور مصطفى وزيري، أمين عام المجلس الأعلى للآثار التابع لوزارة الآثار المصرية إلى أن العدد لا يتجاوز 3 مسلات فقط
المحامي أضاف أن النواب كانوا يجندون بعض أبناء البلدة للمساعدة في عمليات التنقيب مقابل الحصول على نسبة ضئيلة، فروّجوا لوجود علاقة قوية بين النائب وسلطات الدولة العليا ومن ثم يخشى الأهالي الحديث عن أي عملية تجري، خوفًا من الملاحقة الشرطية أو القضائية، خاصة أن شريحة كبيرة من السكان غير متعلمة وعلى درجة قليلة من الوعي.
البعض ألمح كذلك إلى وجود علاقة قوية بين عملية نقل آثار البلدة في 11 من سبتمبر الماضي للعاصمة الإدارية الجديدة والمتحف المصري ونائبي الدائرة الحاليين، وذلك حسبما كشفت صفحة “صان الحجر الآن” على موقع ” فيسبوك”.
أشار رواد السوشيال ميديا إلى أن هناك تسهيلات تمت من النائبين لنقل هذه القطع الأثرية التي كان من المفترض أن تكون نواة للمتحف الوطني المزمع إقامته في صان، ومن ثم رجحوا إلغاء فكرة إقامة المتحف، الأمر الذي أثار حفيظة أهالي البلدة الذين اتهموا نوابهما بـ”شرب شاي بالياسمين” مع الكبار.
مستقبل المنطقة.. إلى أين؟
في الوقت الذي أكد فيه الأهالي أن أكثر من 16 سيارة نقل كبيرة تم تحميلها بعشرات القطع الأثرية لنقلها للقاهرة يذهب الدكتور مصطفى وزيري أمين عام المجلس الأعلى للآثار التابع لوزارة الآثار المصرية إلى أن العدد لا يتجاوز 3 مسلات فقط، وهو ما أثار حفيظة المواطنين هناك.
وزيري في تصريحات تلفزيونية له أكد أنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها نقل قطع أثرية من مكان لآخر، كاشفًا أن وضع تلك القطع في المتحف المصري الكبير يعد أكبر دعاية لمنطقة صان الحجر وآثارها التاريخية، مشيرًا إلى أن العمل في المنطقة استمر لعدة أشهر لترميم العديد من تلك القطع التي يبدو أنها دمرت بفعل زلزال قديم يعود إلى ما قبل الميلاد.
الأهالي في تبرير تمسكهم بإقامة متحف في بلدهم أشاروا إلى أنهم يعانون من إهمال واضح على المستويات كافة، ومن ثم كانوا يأملون في علم أثري كبير يضعهم على خريطة الاهتمام المحلي والعالمي، لعل ذلك يفتح الباب أمام تنمية محلية تنتشلهم من واقعهم المتدني، وفق ما ذكره بعض مواطني القرى المحيطة بمدينة صان.
وكما سُرق حاضر صان الحجر بتجاهل فج من المسؤولين أفضى إلى تحول عاصمة مصر القديمة إلى مستنقع من الجهل والفقر والمرض، فإن تاريخها كذلك يسلب بذات الطريقة، ليفقد الأهالي عبق حضارتهم التي كانت متنفسهم الوحيد للإقبال على الحياة.. فلا حاضر إذًا ولا ماضٍ كان، ومن ثم بات المستقبل مجهولاً في انتظار شمول برعاية أو نظرة اهتمام.