لم تكن المظاهرات التي شهدتها عدد من بلدات وقرى محافظة دير الزور السورية، منذ أواخر نيسان/ أبريل الماضي، ولا تزال في اتساع، مفاجأة للمراقبين، فهي ليست المرة الأولى التي تندلع في المناطق الخاضعة لسيطرة ما يعرف بقوات سوريا الديمقراطية “قسد” احتجاجات على المعاملة العنصرية التي يجدها الأهالي منهم، وما يصفونه بـ”سرقة النفط”.
لكن الاحتجاجات الأخيرة جاءت على نطاق أوسع وضمن مسار تصاعدي، والأهم أنها اشتملت على نشاطات تحمل قدراً كبيراً من التحدي، مثل الإضرابات وقطع الطرق وإشعال الإطارات، وطرد بعض عناصر قسد من بعض البلدات.
وتميزت الاحتجاجات بشعارات حادة ومباشرة، من قبيل “الشعب يريد خروج قنديل”، “نحن تحت مظلة الولايات المتحدة، يسقط الاحتلال الكردي”، “لا للوجود الروسي، الموت لإيران، لا للغلاء“، ولعل هذه الشعارات ترسم لنا خريطة طريق لمصير المنطقة، ضمن صفقة محتملة جداً بين الولايات المتحدة وتركيا.
شوهد عناصر من قوات “التحالف” يصوّرون المظاهرات، كما أن قياديين أميركيين، وعناصر من استخباراتهم العاملة في المنطقة، تواصلوا بطرق خاصة مع نشطاء لمعرفة مطالبهم.
ويعد النفط المستخرج من حقول المحافظة، والوجود الإيراني على طرفي المنطقة عبر وكلائه ومليشياته، سواء من جهة العراق أو جهة غربي الفرات، بالإضافة إلى استعداد “قسد” إلى مقايضة النظام بالنفط مقابل صيغة حكم مشتركة للمنطقة، عناصر رئيسية لفهم طبيعة الاحتجاجات، والأهم لفهم التحركات الإقليمية والأمريكية التي بدأت بالتزامن مع اندلاع الاحتجاجات.
تضمنت مطالب المتظاهرين التي سلمها شيوخ القبائل في دير الزور في الأول من أيار/ مايو إلى “قسد” التي تعد مظلة لعمل وحدات حماية الشعب الكردية “ي ب ك” المطالبة إنهاء التجنيد الإجباري، ومنع عمليات تهريب وبيع النفط المستخرج من حقول دير الزور للنظام، وهو ما يحقق لـ”ي ب ك” ثروة هائلة، فيما يترك السكان أمام مشكلة شح المشتقات البترولية ليواجهوا ارتفاع أسعارها، مقارنة بأسعار هذه المواد في المناطق الكردية.
كما تضمنت مطالي المحتجين تسليم الإدارة إلى السكان المحليين، ورفع القيود عن حركة أهالي دير الزور في الدخول والخروج من المنطقة.
الموقف الأمريكي
هذه الاحتجاجات قابلها المسؤولون الأمريكيون بتفهم حذر وإبداء الاستعداد للمساعدة في تحقيق بعضها، وبحسب صحيفة المدن السورية، فقد شوهد عناصر من قوات “التحالف” يصوّرون المظاهرات، كما أن قياديين أميركيين، وعناصر من استخباراتهم العاملة في المنطقة، تواصلوا بطرق خاصة مع نشطاء لمعرفة مطالبهم، ووعدوهم بتنفيذ الممكن منها.
ينص الاتفاق على تشغيل الآبار وفق شروط، منها تزويد صهاريج تابعة لـ”قسد” بما نسبته 70% من انتاج كل بئر منها. وأيضاً عدم اقتناء وشراء مستثمري الآبار سلاحاً ثقيلاً بحجة حمايتها
وبالفعل، أوعز الأميركيون إلى “قسد” بتسليم عدد محدود من آبار النفط التي تسيطر عليها إلى السكان المحليين لاستثمارها. واتفقت قيادة “قسد” مع مجموعة مستثمرين محليين على إدارة عملية الإنتاج في عدد من آبار حقلي التنك والصيجان في بادية ديرالزور الشمالية الشرقية.
وينص الاتفاق على تشغيل الآبار وفق شروط، منها تزويد صهاريج تابعة لـ”قسد” بما نسبته 70% من انتاج كل بئر منها. وأيضاً عدم اقتناء وشراء مستثمري الآبار سلاحاً ثقيلاً بحجة حمايتها.
ولم تكتف الولايات المتحدة بذلك، فقد صعدت حملتها لتدمير ما بات يسمى البنية التحتية لتهريب النفط من مناطق دير الزور إلى النظام السوري، عبر شبكة تستخدم ناقلات وعبارات لتوصيل شحنات النفط عبر نهر الفرات، ويعتقد على نحو واسع أن هذه الشبكة تعمل بموافقة غير معلنة من “ٌقسد”، وبتقاسم للعائدات. وكانت مقاتلات التحالف الدولي قد بدأت في أواسط نيسان/ أبريل الماضي سلسلة عمليات استهدفت صهاريج محملة بالمواد النفطية دخلت من العراق باتجاه مناطق سيطرة الأسد، وسط تغاضي “ٌقسد” عن دخولها برفقة عناصر من مليشيات “الحشد الشعبي” العراقي لحمايتها.
تقاطع مصالح
وتكشف العمليات الأمريكية الهادفة لقطع طريق دير الزور على إيران وعلى استفادة النظام السوري من النفط الإيراني الذي يتم تمريره عبر العراق وعبر مناطق قسد، وكذلك النفط المستخرج من حقول دير الزور، عن جانب من المصالح الأمريكية في هذه المحافظة، التي ترابط المليشيات الإيرانية أو ذات الولاء الإيراني على طرفيها، شرقاً وغرباً، كما تتزامن مع تشديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الخناق على إيران.
قال المتحدث باسم المجلس الأعلى للقبائل، مضر الأسعد، إن الجسم العسكري المزمع تشكيله من أجل شن عمل عسكري في دير الزور؛ يبلغ حوالي 12 ألف مقاتل في المرحلة الأولى، ليتم بعد ذلك ضم كافة الكتائب والسرايا الصغيرة حتى يصل العدد إلى حوالي 17 ألف مقاتل”
عند هذه النقطة الجيوسياسية بالتحديد، تلتقي مصلحة تركيا والولايات المتحدة، وبشكل أكثر تحديداً في رغبة واشنطن فرض المزيد من الحصار السياسي والاقتصادي على إيران وتقليم أظافر نفوذها الإقليمي، مع رغبة تركيا في توجيه ضربة لـ”ي ب ك” شرقي الفرات، ويشمل ذلك بدون شك خروج دير الزور من قبضة قسد التي لا تمانع في أن تشكل جسراً برياً ونفطياً بين إيران والنظام، كما تنشط في ظل سيطرتها شبكات التهريب المنظمة للنفط المستخرج من حقول دير الزور إلى النظام، مع محاولة قسد لاستخدام ورقة النفط للضغط على النظام في الحوار القائم بين الطرفين منذ شهور، والهادف للتوصل إلى صيغة حكم مشتركة للمنطقة.
ويبدو أن تركيا التقطت الرسالة سريعاً مع اندلاع احتجاجات دير الزور، حيث عقد نائب الرئيس التركي فؤاد أوقطاي لقاء مغلقا في أنقرة، في 29 آيار/ مايو، مع وفد المجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية، شمل الحديث عن محاربة الإرهاب في المنطقة وتحرير منطقة شرق الفرات كاملاً “، بحسب تصريحات المتحدث باسم المجلس، مضر الأسعد.
وذكر المجلس، بالتزامن مع اللقاء، على صفحته في فيسبوك نقلاً عن شبكات محلية أن قادة فصائل تجمع “أحرار الشرقية” و”جيش الشرقية” و”الفرقة 20″، وهي فصائل من المعارضة السورية شارت في عملية غصن الزيتون في عفرين، وصلوا إلى أنقرة في 26 نيسان/ أبريل من أجل إجراء مباحثات مع الجانب التركي لتشكيل جسم عسكري موحد يتولى مهمة “تحرير المناطق التي تقع تحت سيطرة قوات قسد في محافظة دير الزور والعمل على عودة آلاف المدنيين مِن أبناء المحافظة القاطنين في مخيمات الشمال السوري وداخل تركيا إلى مناطقهم“.
وقال المتحدث باسم المجلس الأعلى للقبائل، مضر الأسعد، إن الجسم العسكري المزمع تشكيله من أجل شن عمل عسكري في دير الزور؛ يبلغ حوالي 12 ألف مقاتل في المرحلة الأولى، ليتم بعد ذلك ضم كافة الكتائب والسرايا الصغيرة حتى يصل العدد إلى حوالي 17 ألف مقاتل، منوهاً إلى أنهم سيقومون بفتح باب التسجيل من أجل الالتحاق في الشرطة المحلية لفئة الشباب بين أعمار الـ 18 و الـ 22 عام.
ذكرت بعض الصحف التركية أنه من بين الاقتراحات المطروحة تحويل دير الزور إلى معقل للمعارضة السورية بدعم من الولايات المتحدة وتركيا
ولفت الأسعد إلى أنه “رغم ذلك نحن مع الحل السياسي لإيجاد صيغة لإبعاد القوات الكردية هناك، وذلك لتجنيب الجميع القتال وإراقة الدماء، ومع التأكيد على التوازي بتفكيك القوة الكردية؛ فإننا نشدد على القضاء على المجموعات الجهادية الإرهابية وكذلك القوات التابعة لإيران وتضم جنسيات عراقية وإيرانية ولبنانية، وكذلك بعض القوات الأخرى التي أنشأتها روسيا“.
ولتأكيد المسار التركي في توظيف اللحظة، ذكرت بعض الصحف التركية أنه من بين الاقتراحات المطروحة تحويل دير الزور إلى معقل للمعارضة السورية بدعم من الولايات المتحدة وتركيا.
ملامح صفقة
وأضافت الصحف أنه إذا تعاونت الولايات المتحدة في تنفيذ هذا الاقتراح، فإن العلم الثوري سيرفرف مجددًا فوق المنطقة، مما يحول دون وصول نظام الأسد إلى اتفاق مع “ي ب ك” من أجل السيطرة على المنطقة الغنية بالنفط.
وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن الأمر لا يتعلق فقط بإيران والنفط، فثمة ما هو أخطر، تكتيكياً على الأقل، فعدد من القواعد الأمريكية العسكرية الكبرى في سوريا تقع في منطقة عربية محضة، والحساسية الكبيرة التي تبديها القبائل العربية خاصة في المنطقة الشرقية تجاه سلطة قسد الكردية تأخذها واشنطن على محمل الجد على الأرجح، وتتخوف من أن تتحول هذه الحساسية إلى إمكانية لجوء السكان إلى الارتماء في أحضاء “داعش”، أو بالأحرى خروج الوضع الأمني عن السيطرة، وهو ما بدأت ملامحه بالظهور خلال الاحتجاجات الأخيرة.
وعلى الرغم من أخذ صانع القرار الأمريكي هذه الأمور في عين الاعتبار، إلا أن تحولها إلى صفقة مع تركيا تخص دير الزور، وفق سيناريو جديد لا يشبه سيناريو منبج، منوط بأمرين:
الأول: أن يكون خيار الولايات المتحدة في التنسيق مع تركيا هو الخيار الوحيد المتاح للتعامل مع الموقف، وهذا ما لا يمكن الجزم به.
الثاني: مدى استعداد واشنطن لإبرام صفقة شاملة مع تركيا، تشمل معظم القضايا الخلافية العالقة، حتى تلك التي لا تتعلق بـ”ي ب ك” والمنطقة الآمنة بسوريا، مثل مشكلة صواريخ إس 400، إذ من المستبعد أن تعمد إلى منح أنقرة امتيازاً ما في دير الزور دون مقابل كبير، قد يكون هو الآخر مانعاً من اشتراك تركيا في الصفقة المحتملة.