ليس الطب الحديث هو الطريقة الوحيدة لعلاج الأمراض، وإن كان هو السائد بموجب هيمنة المنظومة الطبية الحديثة ورعاية النظام الرأسمالي لها. فمنذ انشغلت المنظومة الطبية بالبحث عن العلاجات وطرق التداوي أو الوقاية، ظهرت، أو عادت إلى الواجهة، الكثير من طرق التداوي التي أثمرت نتائج جيدة وحقّقت انتشارًا، فيما بقي بعضها الآخر منسياً. وعلى سبيل المثال، رأينا العلاج البديل بالأعشاب والإبر الصينية والحجامة وغيرها من الطرق التي تنتمي للطب الشعبي، الذي أبدى فعاليته ضد أمراض معينة. ومؤخرًا بدأ يلمع نجم الطب التجانسي الذي يشغل الباحثين والأطباء وسط جدل حاد حول فعاليته وأساسه العلمي وانتقادات حول تكلفته، وهو ما نتناوله في هذا المقال.
ما هو الطب التجانسي وكيف بدأ؟
يعتبر الطب التجانسي أحد أنواع الطب البديل، وتعود تسميته بالعربية إلى كلمة “الجناس”، أيّ أخذ شيء من نفسه، أما في الإنكليزية (Homeopathy)، فهي كلمة مركبة من مقطعين مأخوذة من اليونانية “ὅμοιος” (أوميوس) ومعناها: المثل أو المشابه، و”πάθος” (باثوس) ومعناها المعاناة أو العذاب.
يقوم المبدأ الأساسي لهذا العلاج على إعطاء المريض كميات قليلة جداً من المكوّنات التي تسببت بأعراض مرضه، بعد مرورها بعملية تخفيف بهدف إزالة المادة الضارة منها والإبقاء على الجزء المفيد. على سبيل المثال، يمكن استخدام مزيج من سموم النحل لعلاج التورّم والحكة، علمًا بأن لسعة النحلة تسبب التورم والحكة أيضًأ.
ويعتبر الطبيب والصيدلي الألمانيّ صامويل هانيمان أحد مكتشفي هذه الطريقة، فهو أوّل من جربها على نفسه وعلى بعض الأصحاء، حين كان يبحث عن طريقة علاج خالية من الآثار الجانبية، وهو أوّل من كتب عنها بعد أبقراط الملقب بأبو الطب، فبحسب بعض النصوص القديمة كان أبقراط هو أوّل من تحدّث عن العلاج التجانسي بقوله “المثل يعالج بالمثل”.
يعتمد علاج الطب التجانسي على عدة جلسات يقوم بها المعالج بطرح الكثير من الأسئلة على المريض، حول الأطعمة التي تسبب له الحساسية وطعامه المفضل وساعات نومه، وتعاطيه مع أدوية معينة. ثم يبدأ بتشخيص المرض وإيجاد المادة المناسبة لعلاجه بناءً على هذه الأجوبة. توجد هذه العلاجات على شكل حبوب سكّر أو محاليل أو مراهم، وعادةّ ما ينصح المعالجين مرضاهم باستخدام الملاعق الخشبية أثناء تناول هذا الدواء لعدم احتواء الخشب على مواد تضرّ بتركيبته، ولكن قد يصل سعر الملعقة الواحدة إلى 70 دولاراً وهو ما يعد ثمنًا باهظًا يثير التساؤلات حول منالية هذا العلاج لطبقات المجتمع المختلفة.
خلاف الأطباء حول فعاليته
انتشر العلاج التجانسي بكثرة خلال فترة حياة صامويل هانيمان، واستمر بالتوسع حتى بعد وفاته عام 1843 بسبب جهود زوجته الفرنسية التي واصلت استقبال المرضى ومعالجتهم في عيادته الخاصة، في باريس، حتى حصلت على ترخيص حكومي كأول طبيبة متخصصة بالعلاج التجانسي، وبالرغم من وصوله إلى عصرنا هذا وانتشاره بقدر معقول، إلا أنه لا يوجد حتى الآن ما يؤكد فعاليته.
ففي عام 2014 نشر المجلس الوطني الأسترالي للصحة والبحوث الطبية ورقة بحثية مفادها أنه لا يوجد دليل موثوق على فعالية العلاج التجانسي مانحًا مهلةً لإثباتها بالأدلة والتجارب. فيما نشر موقع جمعية العلاج التجانسي البريطاني إحصائية تشير إلى أنه في عام 2014 قُدّمت حوالي 104 ورقة بحثية مع تجارب وأدلة تثبت فعالية العلاج في 61 حالة مرضية مختلفة 41% منها كانت نتائجها إيجابية و5% نتائج سلبية.
أغلب مرضى السرطان الذين لجئوا إلى العلاج التجانسي كان من دافٍع نفسي، ورغبًة في تجربة علاج جديد بدل التداوي بالمواد الكيميائية.
علميًا، يعود سبب الخلاف والجدل حول فعاليته لعملية تكوينه. فكون المادة الفعالة يتم تخفيفها بكمية كبيرة جداً من الماء، ثم خضّها باستمرار، يفقد المادة الفعالة تأثيرها، بحسب المنتقدين. في نفس الوقت، يتحدث مرضى عن استفادتهم من تناول الدواء، مما يدفع المنتقدين لاعتبار هذا التأثير بمثابة “بلاسيبو”، أي دواء وهمي.
برغم الجدل، حاز العلاج التجانسي على اهتمام الكثير من الناس المصابين بمختلف الأمراض، المميتة منها والزائلة، حتى أُدخل ضمن بحوث مرض السرطان أملًا في إيجاد حل له، الأمر الذي دفع مركز الأبحاث السرطانية الأمريكي إلى نشر تقرير موضحًا ماهية هذا العلاج وأحدث التطورات حوله، مفيدًا بأن أغلب مرضى السرطان الذين لجئوا إلى العلاج التجانسي كان من دافٍع نفسي، ورغبًة في تجربة علاج جديد بدل التداوي بالمواد الكيميائية، التي يرون أن آثارها الجانبية كبيرة مقارنًة بالعلاج التجانسي الذي لا يسبب أيّ مضاعفات أو آثار.
جدل مناليته وتكلفته الباهظة
عندما طرح الطبيب صامويل طريقة العلاج التجانسي لأول مرة كان أبرز ما يميزه حينها أنه رخيص وغير مكلف مقارنًة بالطب الجراحي، مما شجع الطبقات الفقيرة والمتوسطة على تجربته، وأيضًا المهتمين بنظام غذائي طبيعي أو نباتي. لكن في أيامنا تتراوح قيمة الجلسة الواحدة بين الـ 100 والـ 300 دولار من دون حساب قيمة الدواء، فإن أراد المريض شراء العلاج وأخذه بدل تناوله في عيادة المعالج يتوجب عليه دفع ما يقارب الـ 10 دولار للحبة الواحدة.
يوصف الدواء التجانسي حسب ثقل الجرعة واختلاف تركيبتها، متناسبًا مع جنس المريض وعمره. وقد يصل سعر بعض الأدوية إلى 165 دولار للعلبة الواحدة، بين إبر و حبوب ومراهم يمكن بيعها دون وصفة طبية، عبر مواقع مختلفة على الإنترنت.
ما زال المجتمع الطبي حتى الآن غير متأكد تماماً من صحة هذا العلاج وتأثيره، إذ لم تثبت الأدلة العلمية والتجارب السريرية كفاءته أو فشله بالأدلة القاطعة.
وتعتبر دول أوروبا والهند وباكستان من أكثر الدول استخدامًا للعلاج التجانسي، فقد وصل عددهم عام 2018 إلى 200 مليون شخص حول العالم، ويوجد حاليًا ما يقارب 200 ألف معالِج طب تجانسي في الهند، مع توقعات بأن يزيد العدد 12 ألف طبيب كل سنة.
ما زال المجتمع الطبي حتى الآن غير متأكد تماماً من صحة هذا العلاج وتأثيره، إذ لم تثبت الأدلة العلمية والتجارب السريرية كفاءته أو فشله بالأدلة القاطعة بسبب أن تأثير هذه الأدوية غير معقول علمياً، إضافة إلى قلة التجارب المجراة عليه. كما توقفت لجنة العلوم والتكنولوجيا الأمريكية عن دعمه ماديًا عام 2010، ويتم تصنيفه الآن ضمن العلوم الزائفة، ولكن بالرغم من هذا فيوجد الآن ما يقارب 5 جامعات و معاهد أجنبية معتمدة، مختصة في تدريس وتدريب الطب التجانسي بعيدًا عن الطب البشري الحديث.