ترجمة وتحرير: نون بوست
دأبت كل من “إسرائيل” وحماس على مدار السنة الماضية على الانخراط في جولات عنف مدمّرة كل شهرين تقريبًا، ولكن العنف الذي ارتبط بهذه الأحداث كان محدودًا نسبيًا، حيث كانت الفصائل الفلسطينية تطلق صواريخ من قطاع غزة في حين كانت “إسرائيل” تشنّ هجمات جوية لمدة يوم أو يومين إلى أن تتدخل بعض الأطراف الدولية لوقف القتال الدائر بينهما. لكن الجولة الأخيرة من أحداث العنف التي جدّت خلال عطلة نهاية الأسبوع، كانت الأكثر فتكًا منذ حرب 2014، لكنها كانت متوافقة مع هذا الأسلوب.
في الواقع، هناك مؤشرات اقتصادية وعسكرية وسياسية تشير إلى أن هذه الأحداث قد تكون آخر جولات التصعيد قصيرة الأمد. وفي حال لم يقع التوصل إلى اتفاق دبلوماسي دائم بين “إسرائيل” وحماس يدير الأوضاع في غزة، فمن المرجح أن الانخراط في قتال مرتقب سيكون على نطاق أوسع وأكثر فتكًا، ناهيك عن صعوبة احتوائه.
إن السبب المباشر لاندلاع الجولة الأخيرة من أحداث العنف بين طرفي القتال، على غرار الأحداث السابقة، كان تدهور الأوضاع الاقتصادية. فقد حاولت حماس فكّ الحصار الذي دام 12 سنة حول الجيب الساحلي من خلال استخدام العنف الشديد والتفاوض باستعمال الصواريخ وغيرها من الوسائل القتالية (بما في ذلك الاحتجاجات الشعبية على الحدود) من أجل الحصول على تنازلات من “إسرائيل”.
صرّح المسؤول البارز في حركة حماس خليل الحية أنه رغم الجدول الزمني المتفق عليه، كانت “إسرائيل” تتلكّأ في تنفيذ بعض البنود الواردة في الاتفاق
في حقيقة الأمر، كان هناك اتفاق مطروح لوقف إطلاق النار يعتبره البعض “هدنة” بين “إسرائيل” وحماس منذ الخريف الماضي. ومقابل وقف العنف، كانت “إسرائيل” ستوافق على اتخاذ العديد من الإجراءات بعيدة المدى وتخفيف القيود لتحسين الظروف الإنسانية القاسية في غزة.
في ظل تصاعد حدة التوتر يوم الجمعة، صرّح المسؤول البارز في حركة حماس خليل الحية أنه رغم الجدول الزمني المتفق عليه، كانت “إسرائيل” تتلكّأ في تنفيذ بعض البنود الواردة في الاتفاق، حيث قال: “كل الخيارات مطروحة، ونحن نعلم كيف نجبر “إسرائيل” على الإيفاء بهذه الالتزامات”. وفي صباح اليوم الموالي، شرعت الجماعات الفلسطينية المسلحة في إطلاق الصواريخ على “إسرائيل”.
انتهت الأعمال القتالية بعد مرور يومين دون التوصل إلى نتيجة، حيث عاد كلا الجانبين للتفاوض على اتفاق وقف إطلاق النار ذاته. وتفيد التقارير بأن “إسرائيل” التزمت بالمضي قدمًا لتنفيذ ما جاء في الهدنة في الأيام المقبلة بصورة عاجلة. ومن الناحية العملية، يدعو وقف إطلاق النار إلى نقل عشرات الملايين من الدولارات من الأموال القطرية إلى غزة كل شهر لدفع رواتب موظفي القطاع العام التابعين لحماس، وتقديم المساعدات للفقراء والجرحى، وتفعيل برنامج النقد مقابل العمل الذي ترعاه الأمم المتحدة لفائدة حوالي 15 ألفًا من السكان المحليين. بالإضافة إلى ذلك، سيتم استئناف نشاط شحنات الوقود التي تموّلها قطر، وإعادة توسيع منطقة الصيد قبالة سواحل غزة، وإعادة فتح المعابر المؤدية إلى القطاع (التي حدّت “إسرائيل” من استخدامها خلال الأسبوع الماضي).
من الناحية العسكرية، بدأت الخيارات في هذه الجولة الأخيرة في التزايد بشكل هائل من كلا الجانبين
في الأثناء، تفيد التقارير بأن المشاريع الإنسانية والتنموية التي تشرف عليها الأمم المتحدة ستكون ضمن هذا الاتفاق، وهو ما سيساهم في إصلاح قطاعات الصحة والمياه والصرف الصحي والطاقة التي وقع تدميرها في غزة. ومن المتوقع أن تُجرى تحسينات في مجال توليد الكهرباء، وذلك من خلال إصلاح محطة توليد الكهرباء الوحيدة الموجودة في غزة في مرحلة أولى، ثم إدخال خطوط جديدة والطاقة الشمسية من “إسرائيل” لاحقا.
وفقًا لما ورد في هذه التقارير، فإن “إسرائيل” قد أعربت عن موافقتها على رفع ثلث القيود المفروضة على استيراد ما يسمى بالسلع ذات الاستخدام المزدوج، التي يُحتمل أن يقع استخدامها لأغراض عسكرية، وتخفيف القيود المفروضة على بعض الصادرات من غزة.
إن قائمة المطالب تطول، وسيساهم تنفيذها إلى حد ما في استقرار الأوضاع في غزة، ولكنها ستؤدي إلى تعزيز نفوذ حماس، وهو ما لا ترغب “إسرائيل” في القيام به. ولكن في حال لم تُلبّى هذه المطالب، كما قال أحد السياسيين في غزة لصحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، فإن ذلك يعني أن “كل الخيارات ستكون مطروحة”. وإذا كان هذا التهديد مشابهًا لما حدث يوم الجمعة الماضي، فهذا هو الهدف. ومع ذلك، فإن المسؤولين الإسرائيليين لا يعترفون بوجود وقف إطلاق النار، ناهيك عن التنازلات التي يطلب منهم تقديمها. ومن المحتمل ألا يكون الأمر مجديًا بما فيه الكفاية هذه المرة.
من الناحية العسكرية، بدأت الخيارات في هذه الجولة الأخيرة في التزايد بشكل هائل من كلا الجانبين. لقد قامت كل من حماس وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وفصائل أخرى من غزة بإطلاق أكثر من 600 صاروخ وقذيفة هاون على “إسرائيل” في أقل من 48 ساعة، ما تسبب في ظهور حالة من الذعر على نطاق واسع وتوقّف الحياة في جميع المناطق جنوب “إسرائيل”. وقد أسفرت هذه العمليات عن مقتل ثلاثة مدنيين إسرائيليين بنيران الصواريخ، وهي أولى حالات الوفاة الناجمة عن الممارسات العنيفة في غزة في صفوف المدنيين منذ سنة 2014.
وجّه زعيم المعارضة ورئيس الأركان السابق بيني غانتس انتقادات لسياسة الحكومة مطالبًا بتنفيذ هجوم عسكري شامل.
عمومًا، يعد أداء نظام القبة الحديدية للدفاع الجوي بالصواريخ في “إسرائيل” جيدًا غير أنه اتسم بالعجز خلال إطلاق وابل من القنابل الفلسطينية المستمرة يوم الأحد. ولأول مرة منذ خمس سنوات، استُهدفت المدن الرئيسية في جنوب “إسرائيل” بشكل مستمر بواسطة صواريخ طويلة المدى. ومن مظاهر التصعيد الأخرى، سقوط مواطن إسرائيلي حين أصاب صاروخ موجه مضاد للدروع سيارته قرب الحدود الفاصلة بين “إسرائيل” وغزة.
رداً على ذلك، ضرب الجيش الإسرائيلي بقوّة حيث قصف أكثر من 300 هدف داخل غزة بما في ذلك العديد من المباني متعددة الطوابق ومنازل القادة الذي يُزعم بأنهم بصدد الاستعداد لتنفيذ عمليات عسكرية. وبعد فترة طويلة من الانقطاع، استأنف الجيش الإسرائيلي الاغتيالات التي تستهدف شخصيات مرموقة منتمية إلى حركتي حماس والجهاد الإسلامي. وقد قُتل أكثر من 20 فلسطينيًا خلال يومين من الاشتباكات، كان نصفهم تقريبًا من العناصر المسلّحة المعترف بها.
لقد اتبع الجيش الإسرائيلي تحت إشراف رئيس الأركان الجديد، أفيف كوخافي، نهجًا أكثر عدوانية في الرد على العنف الصادر من غزة. وحيال هذا الشأن، كتب المراسل العسكري الإسرائيلي المخضرم رون بن يشاي في بوابة “وإي نت” للأخبار: “يبدو أنه هذه المرة قد تم رفع كل القيود التي كانت تُفرض على جيش الدفاع الإسرائيلي في السابق”. وببساطة، يقوم الجيش بمتابعة الوضع السياسي والعام داخل “إسرائيل” بعد مرور أشهر على تزايد حدة التصعيد المنتظم في كلا المجالين.
وجّه زعيم المعارضة ورئيس الأركان السابق، بيني غانتس، انتقادات لسياسة الحكومة مطالبًا بتنفيذ هجوم عسكري شامل. وقد أفاد غانتس حين اشتدت أعمال العنف خلال عطلة نهاية الأسبوع بأنه “يجب أن نستعيد القدرة على الردع التي تدهورت بشكل كارثي منذ أكثر من سنة”. وبعد التوصّل إلى قرار وقف إطلاق النار، شكّلت الانتقادات اللاذعة وواسعة النطاق من قبل أنصاره داخل المعسكر اليميني مصدر قلق بالنسبة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وفي هذا الصدد، قال أحد سكان جنوب “إسرائيل”: “أعتقد أن هذا الوضع يعد دليلًا على فشل نتنياهو، وإنني أشعر بالأسف لأنني أقنعت الناس بالتصويت لصالحه. غزة هي التي تقرر متى تبدأ الحرب ومتى توقفها”.
على إثر نجاحه في الفوز بالانتخابات مرة أخرى خلال الشهر الماضي، يعتمد نتنياهو على حزب ليبرمان الصغير لتشكيل ائتلاف حاكم في البرلمان
من جهته، انتقد جدعون ساعر، وهو مسؤول رفيع المستوى في حزب الليكود الذي يتزعّمه نتنياهو، رئيسه قائلاً: “تعتبر الظروف التي وقع بموجبها التوصّل إلى وقف إطلاق النار منقوصة بالنسبة لـ”إسرائيل”، ناهيك عن أن الوقت الفاصل بين جولات العنف التي تستهدف “إسرائيل” ومواطنيها في تناقص، بينما تزداد قوة الجماعات الإرهابية في غزة. لم تتوقّف الحملة العسكرية بل تم تأجيلها”.
لقد كان التزام وزير الدفاع السابق أفيغدور ليبرمان الصمت التام خلال التصعيد الذي شهدته عطلة نهاية الأسبوع ملفتا للنظر. وفي الحقيقة، عبّر ليبرمان عن غضبه من خلال تقديم استقالته من حكومة نتنياهو في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي عقب جولة مماثلة من العنف ووقف إطلاق النار في غزة احتجاجًا على ما أسماه “استسلام “إسرائيل” للإرهاب”.
على إثر نجاحه في الفوز بالانتخابات مرة أخرى خلال الشهر الماضي، يعتمد نتنياهو على حزب ليبرمان الصغير لتشكيل ائتلاف حاكم في البرلمان. وعلى الرغم من أنه احتمال مستبعد، إلا أن ليبرمان يلاقي تشجيعًا للعودة مجددًا إلى وزارة الدفاع. في المقابل، أعلن ليبرمان عن مجموعة من المطالب بما في ذلك ضرورة القيام بنقلة نوعية فيما يتعلّق بسياسة غزة.
يكمن السؤال الرئيسي فيما إذا كان هذا “الهدوء” سيتحقق من خلال اتفاق وقف إطلاق نار حقيقي مع حركة حماس (على الرغم من احتجاجات ليبرمان) أو بواسطة هجوم عسكري
حيال هذا الشأن، صرّح ليبرمان قائلًا: “لقد قدّمت استقالتي بسبب اختلاف جوهري، إذ يؤيد رئيس الوزراء اتخاذ ترتيب معين (مع حماس) بينما أفضّل اتخاذ قرار عسكري في قطاع غزة”. وأضاف ليبرمان بعد الانتخابات: “لا يعد هذا بالاختلاف البسيط”. أما خلال اليوم التالي لسقوط الصواريخ والطائرات المقاتلة دون إحداث ضرر، أخبر نتنياهو الإسرائيليين بأن “الحملة لم تنته بعد بل تتطلب التحلي بمزيد من الصبر والحكمة. ونحن على استعداد للمضي قدمًا. ولطالما كان الهدف ضمان الهدوء والأمن لسكان الجنوب، ولا زال كذلك”.
يكمن السؤال الرئيسي فيما إذا كان هذا “الهدوء” سيتحقق من خلال اتفاق وقف إطلاق نار حقيقي مع حركة حماس (على الرغم من احتجاجات ليبرمان) أو بواسطة هجوم عسكري. وقد استمرّ زعيم الجهاد الإسلامي زياد النخالة يوم أمس في توجيه التهديدات محذّرًا من أن “التصعيد الأخير كان مجرد تدريبات على إطلاق الرصاص الحي استعدادًا لحملة كبرى مستقبلًا”.
المصدر: فورين بوليسي