من سمع ليس كمن رأى.. أحدثت المشاهد المرعبة التي بُثت من داخل سجن “صيدنايا” سيئ السمعة، بعد تحريره عقب إسقاط نظام بشار الأسد، والشهادات المروعة لمن كانوا بداخله من معتقلي الرأي والضمير، حالة من الصدمة للشارع السوري والعربي على حد سواء، ممن سمع كثيرًا عن وحشية وإجرام النظام البائد والأوضاع الكارثية داخل سجونه، لكنه لم يتخيل يومًا أن يكون الوضع بهذا المستوى الوحشي من الإجرام وفقدان الإنسانية وسحق الكرامة.
ودقت تلك المشاهد المزلزلة -بصوت مرتفع- ناقوس الخطر إزاء ما يحدث في سجون ومعتقلات الأنظمة العربية، تلك التي يتجرع فيها المعارضون – بعيدًا عن السمع والبصر- كل أصناف التعذيب والانتهاكات، لمجرد التعبير عن الرأي أو التغريد خارج سرب السلطات، فالمستتر في باطنها أفظع وأبشع مما هو معلن على السطح، ولهم في “صيدنايا” العبرة والمثل.
“افتحوا السجون طوعًا قبل أن تفتح قسرًا”.. تحت هذا العنوان دشن نشطاء مصريون حملة على منصات التواصل طالبوا فيها السلطات المصرية بسرعة الإفراج عن المعتقلين داخل السجون والمعتقلات المصرية التي قد لا تقل بشاعة وإجرامًا عن نظيرتها السورية، داعين نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي لتعلم الدرس جيدًا من التجربة السورية قبل فوات الأوان.
مصر تتصدر قائمة الاعتقالات
قبل سقوط النظام وهروب بشار الأسد -الذي أصبح للمفارقة، “لاجئًا” في روسيا- فجر الثامن من ديسمبر/كانون الأول الجاري، كان عدد المعتقلين في السجون والمعتقلات السورية أكثر من 157 ألف شخص، من بينهم 5274 طفلًا و10221 امرأة، فيما لقى أكثر من 15 ألف شخص حتفهم تحت التعذيب منذ 2013 وحتى اليوم، وفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان.
اليوم وبعد تحرير المعتقلين من سجن صيدنايا وغيره من السجون السورية، تتصدر مصر قائمة الدول التي تمتلك أكبر عدد من معتقلي الرأي في المنطقة العربية والشرق أوسطية، فبحسب تقديرات المنظمات الحقوقية، الدولية والمحلية، هناك 60 ألف معتقل (من بينهم أكثر من 300 امرأة) في سجون النظام المصري وما يزيد عن 12 ألف مختف قسريًا منذ عام 2013.
وتشير التقديرات إلى أنه في الفترة من 2013 –2022 نُفذت أحكام الإعدام في 25 قضية وصفت بأنها ذات طابع سياسي (105 من المدنيين تم إعدامهم شنقًا، 13 قضية عسكرية، صدر الحكم فيها بالإعدام على مدنيين من القضاء العسكري، وتم تنفيذ الأحكام في 48 مدنيًا، قضيتان صدرت أحكامهما من محاكم أمن الدولة طوارئ وتم تنفيذ الأحكام في اثنين، 3 قضايا صدرت أحكامها من دوائر جنائية عادية وتم تنفيذ الأحكام في اثنين، 8 قضايا صدرت من دوائر قضاء استثنائية، دوائر إرهاب، تم تنفيذ الإعدام في 52، وقرابة 113 شخصًا محكوم عليهم بالإعدام نهائيًا، و105 أشخاص تم تنفيذ أحكام الإعدام فيهم خلال السنوات الماضية) وذلك وفقًا لتقارير مركز الشهاب لحقوق الإنسان.
بسقوط سجون الأسد تصبح مصر بلا منافس اكبر معتقل في المنطقة بأكبر عدد من المعتقلين يتجاوز حتى عدد المعتقلين الفلسطينيين في سجون إسرائيل
ارفعوا الظلم وافتحوا البوابات طوعا قبل أن تنفتح على مصراعيها قسرا في وجوهكم— hossam bahgat حسام بهجت (@hossambahgat) December 10, 2024
“الريادة” المصرية لم تكن في حجم المعتقلين وفقط، بل كذلك في أعداد السجون والمعتقلات، فوفق التقرير الذي أصدرته الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان في 2021، فإن عدد السجون في مصر ارتفع لـ 78 سجنًا، منهم 35 سجنًا بُنيت في عهد السيسي منذ 2014 وحتى اليوم، إضافة إلى 43 سجنًا كانوا قبل ثورة يناير/كانون الثاني 2011، هذا بخلاف 382 مقر احتجاز داخل أقسام ومراكز الشرطة في مختلف المحافظات، إضافة إلى السجون السرية في المعسكرات.
ومن أبرز السجون التي بُنيت في عهد السيسي، “سجن الصالحية العمومي” بمحافظة الشرقية (شرق) بني عام 2014 على مساحة 10 أفدنة، “سجن 15 مايو المركزي” بالقاهرة المبني عام 2015 على مساحة 105 آلاف متر مربع، “سجن ليمان” بالدقهلية (شرق) على مساحة 42 ألف متر، “سجن دمياط المركزي” “سجن العبور” “سجن طرة 2″، “سجن ليمان المنيا” و”سجن عمومي المنيا”.
ليست أقل من سجون الأسد
بحسب ما وثقته الشبكة السورية لحقوق الإنسان فقد مارس شبيحة النظام الأسدي البائد ما يقرب من 72 أسلوب تعذيب مختلف، يتنوع ما بين صعق الأعضاء التناسلية بالكهرباء أو تعليق المعتقلين بأوزان ثقيلة؛ والحرق بالزيت أو قضبان معدنية أو بارود أو مبيدات حشرية قابلة للاشتعال؛ وسحق الرؤوس بين الجدار وباب الزنزانة؛ وإدخال الإبر أو الدبابيس المعدنية في الجسد؛ وحرمان السجناء من الملابس والاستحمام ومرافق المراحيض وما إلى ذلك، وصولًا إلى سحق أجساد المعتقلين كالتراب داخل “المكبس الآلي” وهو ما كشفته التسريبات الأخيرة بعد سقوط النظام.
الواقع في السجون المصرية لا يختلف كثيرًا عن نظيره في السجون السورية، حيث التفنن في التعذيب والتنكيل بالمعتقلين، خاصة أصحاب الرأي منهم، وذلك وفق شهادات من تعرضوا لتجارب اعتقال سابقة، بجانب ما وثقته شبكات حقوق الإنسان في الداخل والخارج، الأمر الذي برهنت على صحته عشرات المقاطع المصورة والمسربة من داخل تلك المعتقلات.
في أكتوبر/تشرين الأول 2022 نقل تقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية عن منظمات حقوق الإنسان المصرية والدولية قولها إن نشطاء الرأي في المعتقلات المصرية تعرضوا لأقسى حملات القمع على مستوى العالم، مستندة في ذلك لشهادات معتقلين سابقين تعرضوا لأنواع شتى من التعذيب والتنكيل.
اكتبوا عن الرهائن المحتجزين في سجون السيسى وعن تعامله مع المصريين
اكتبوا عن فتيات ونساء حرمن من أزواجهن وعائلاتهن وأمهات حرمن من فلذات أكبادهن،
لا ينبغي علينا نسيانهم
الحرية لهم جميعأ pic.twitter.com/r74WXlysa4— مصــري غلبان ⭑🗨️ (@msr3y1) December 9, 2024
من بينهم الناشط السياسي حسن البربري الذي قضى 3 سنوات (2019 – 2021) في أحد السجون المصرية، وفي شهادته قال إنه عندما ألقي القبض عليه في عام 2019، أخبره بعض الضباط أنه لن يرى الشمس مرة أخرى، وأضاف أنه تعرض للضرب بعدما وضع في زنزانة صغيرة دون تهوية، وحُرم من دخول المرحاض والتريض، كما تعرضوا للضرب والصعق بالكهرباء في أماكن حساسة من الجسد، وحُرموا من الزيارات ومن أبسط حقوق النظافة الشخصية، وتابع: “لقد أُعطيت زجاجتين، واحدة لأشرب منها وأخرى لأتبول فيها”، وفي أوقات الاضطرار كان يشرب من نفس الزجاجة التي كان يتبول فيها.
لم يقتصر التعذيب في السجون المصرية على الرجال فقط، بل كانت النساء كذلك ضحايا تلك الحملة القمعية الممنهجة، وهو ما وثقته الصحفية والناشطة، سولافا مجدي، التي تعرضت لتجربة الاعتقال قبل إطلاق سراحها، حيث وصفت الزنزانة التي كانت بداخلها قائلة: “سجن متنقل، غرف صغيرة مكتظة، وفَقدٌ لحرمة الجسد، وأسوار عالية تبتلع فتيات وسيدات، تضيع أعمارهم هناك، فقط لكون البعض منهن مدافعات عن حقوق الإنسان أو صحفيات أو من أصحاب الخصومة السياسية مع السلطات المصرية”.
وتابعت: “على مدار السبع أعوام الأخيرة، شهدت سجون مصر، وبالأخص سجنيّ دمنهور، والقناطر للنساء سيء السمعة التابع لمحافظة القليوبية، طفرة في أعداد السجينات، شهدت أيضًا هذه السنوات تفاقمًا في مستوى التنكيل والتعنت في التعامل مع السجينات، بداية من التفتيش العاري، وحتى الاعتداء بالضرب والسب والتجريد من كافة المتعلقات الشخصية بشكل دوري”
صيدنايا والعقرب.. وجهان لقبر واحد
كشف سقوط نظام الأسد عن حقيقة سجن “صيدنايا” المعروف بـ “المسلخ البشري” والذي افتتح عام 1987 بالقرب من بلدة صيدنايا على بعد 30 كم شمال دمشق، وكان يستخدم بداية الأمر لاحتجاز العسكريين قبل أن يتحول إلى قبر للمعتقلين المدنيين والمعارضين للنظام من شتى أطياف المجتمع السوري، ليصبح بعد ذلك أكثر السجون قسوة وإجراما والذي تحول إلى رمز للتعذيب والإعدامات الجماعية والاعتداء الجنسي في سوريا.
وإن كان في سوريا صيدنايا ففي مصر “سجن طرة 992″ المعروف إعلاميًا بـ”سجن العقرب” نتيجة سمعته السيئة، والذي لا يقل عنه إجرامًا وبشاعة، تأسس كقلعة حصينة عام 1993، مُحاط بسور يبلغ ارتفاعه 7 أمتار، وعليه أبراج من الحراسة تحيطه من كل جانب، وبوابة مصفحة من الداخل والخارج لا يدخل منها الهواء إلا بأمر.
ينقسم إلى 4 مبان رئيسية، كل مبنى مشكل على حرف (H) ويتكون من 4 عنابر، كل عنبر يضم عشرين زنزانة تصل مساحة الواحدة منها 7 أمتار، يفصلها ممر ضيق عرضه متران تقريبًا، ليصبح عدد زنازين هذا السجن 320 زنزانة، ومع غلق البوابة المصفحة الخارجية يصبح كل عنبر منعزل تماما عن العنابر الأخرى، وكأنه في عالم أخر، قبور ثابتة تحوي في باطنها أحياء- أو هكذا يفترض-، لا يتم سماع أي صوت خارجها، وإذا ما تسللت من بين الجدران الخرسانية فهي أصوات الأنين والوجع من التعذيب.
لو مفكر أن التعذيب حصري في #سجناء_صيدنايا أو #سجن_تدمر
شاهد التقرير
شاهد سجون السيسي
ليه محمود محمد حسين حصل له كدا ؟
كل جريمته أنه لبس فانلة مكتوب عليها (وطن بلا تعذيب)
لنجاح الثورة المصرية لازم تفهم الأول أن #مصر_محتلة
الجيش أعلن الحرب على الشعب مش ضد الإخوان المسلمين فقط pic.twitter.com/PN7cL9YvPp— مصر المحتلة (@ALBHRALTAEB) December 9, 2024
على كل زنزانة باب حديدي ذو فتحة صغيرة لإدخال الطعام للمساجين، وبداخلها حمام ومصطبة إسمنتية للنوم، وتفتقر للتهوية حيث لا مكان لدخول الشمس إلا فتحة ضيقة يتحكم فيها حراس السجن، وقد يقبع البعض داخل تلك الزنازين بالأشهر وربما بالسنين دون زيارة واحدة، ودون أن يسمع صوتًا أو يرى مخلوقًا، وهو ما يتسبب في زيادات كبيرة في أعداد المرضى النفسيين والعصبيين داخل السجون.
داخل تلك الغرف القبورية تتعدد وسائل التعذيب ما بين صعق كهربائي وسلاسل سقف لتعليق المساجين، والتحرش والاغتصاب بالرجال والنساء على حد سواء، إضافة إلى التجويع الممنهج والحرمان من الدواء ودخول الطعام ونقص المفروشات وأدوات النظافة، ومن أبرز نزلاء سجن العقرب المعتقلون السياسيون وقادة جماعة الإخوان المسلمين، بحسب ما وثقته المنظمات الحقوقية والإنسانية.
افتحوا السجون طوعًا قبل أن تفتح قسرًا
في ظل هذا التشابه الكبير بين السجون السورية والمصرية في مستوى الإجرام والانتهاكات، وبعد الكشف عن المستور عنه داخل سجن صيدنايا الدمشقي، دشن نشطاء مصريون حملة على منصات التواصل الاجتماعي طالبوا فيها النظام المصري الحاكم بالإفراج العاجل عن المعتقلين داخل السجون والمعتقلات وإنقاذهم من الأوضاع المأساوية التي يعانون منها منذ سنوات.
المشاركون في تلك الحملة ناشدوا السلطات المصرية بتعلم الدرس السوري جيدًا قبل فوات الأوان، ومنح عشرات الآلاف من سجناء الرأي قبلة الحياة من خلال تحريرهم من تلك القبور المحشورين بداخلها منذ سنوات، محذرين من مغبة وتداعيات الصلف والإصرار على المضي قدمًا في طريق الانتهاكات والقمع الوحشي، والذي يقود في النهاية إلى طريق مسدود وثمن باهظ للغاية يدفعه الجميع، شعب ودولة ونظام.
كارثية الصورة التي سُربت من داخل صيدنايا والشهادات الأليمة للمعتقلين بداخله، أصابت الكثير من المصريين بالرعب خوفًا على ذويهم المعتقلين في السجون المصرية، لاسيما من انقطع التواصل معهم بسبب تغليظ العقوبات عليهم والتي من بينها منع الزيارات العائلية، ما يجعل مصيرهم مجهولًا بالنسبة لذويهم.
الاغتصاب في #سجن_صيدنايا ليس بغريب سجون مصر وذباب النظام دائماً يهدد معارضي العسكر بلقاء "فرج" صاحب المشهد الشهير في فيلم الكرنك، لكن لا أحد يتكلم. هذه طالبة في جامعة الأزهر حكت واقعة اغتصابها داخل مدرعة شرطة، فتم تبرئة الضابط، وقامت نيابة #السيسي_عدو_الله بحبسها سنة عقاباً لها. pic.twitter.com/ES44VTVtZ9
— المجلس الثوري المصري (@ERC_egy) December 10, 2024
من جانبه علق الحقوقي المصري حسام بهجت، عن هؤلاء المعتقلين، بعد الكشف عن كوارث صيدنايا: “مصر أصبحت أكبر معتقل في المنطقة، ارفعوا الظلم وافتحوا البوابات طوعًا قبل أن تنفتح على مصراعيها قسرًا في وجوهكم”، وهي المناشدة ذاتها التي عبر عنها العشرات من المصريين على منصات التواصل الاجتماعي.
ومنح المشهد السوري بتطوراته الشارع المصري بارقة أمل في إحداث التغيير عبر تعلم العبر والاستفادة من التجربة بتحقيق النتائج المرجوة دون الوصول إلى مرحلة الفوضى التي أحدثها النظام السوري بانهياره المفاجئ والسريع وهروب رأسه خارج البلاد، فهل يستوعب النظام المصري الدرس في ظل حالة الاحتقان المتصاعدة لدى المصريين جراء الوضع الحقوقي المخزي والمعيشي المتدني والأعباء المفروضة عليه صباح مساء بسبب الإدارة الفاشلة لمعظم القطاعات؟