“الصحوة” تعتذر.. هكذا تغيرت معادلة الديني والسياسي في السعودية

aaidh-ibn-abdullah-al-qarni-screenshot

على قناة “روتانا خليجية” الفضائية ومن خلال برنامج “الليوان” قدم الداعية السعودي عائض القرني اعتذارًا علنيًا عن الأفكار المتشددة التي كان يروج لها خلال فترة نشاطه الديني ضمن “تيار الصحوة”، وقال القرني إنه “يعتذر من المجتمع السعودي باسم الصحوة” عن التشدد والفتاوى التي اعتبرها مخالفة للقرآن والسنة، وأضاف بأنه يدعم ويتبنى الإسلام المعتدل والمنفتح على العالم الذي نادى به ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي يجسد الوسطية في السعودية.

ماهو تيار الصحوة؟

في بداية الثمانينات وبإيعاز من الملك السعودي فهد بن عبد العزيز آل سعود بدأت الصحوة السعودية تعلن عن نفسها بقيادة مجموعة من رجال الدين داخل المملكة الذين رفعوا شعار الدعوة لإيقاظ الناس من غفلتهم، وقد جاءت الإرهاصات الأولى للصحوة في ظل تغيرات في المشهد الإقليمي والدولي؛ حيث شهد عام 1979 نجاح الثورة الإيرانية الخُمينية والغزو السوفيتي لأفغانستان، وعلى الصعيد السعودي الداخلي حدث تطور خطير تجسد في محاولة احتلال الحرم المكي على يد جهيمان العتيبي، هذا بالإضافة إلى صدامات في المنطقة الشرقية من المملكة ذات الأغلبية الشيعية، والذي كان له صلة مباشرة بأحداث الجوار الإيراني وتنامي المد الديني الشيعي.

ظهر دعاة الصحوة مثل ناصر العمر وسلمان العودة وعائض القرني وغيرهم ممن لعبوا دوراً بارزاً تخفيف الضغوط السياسية عن كاهل الأسرة الملكية حيث وجههم الملك فهد لإشغال المجتمع في قضايا سياسية بعينها.

في ذلك الوقت أدرك الملك السعودي أهمية تعزيز الروابط مع المؤسسة الدينية السلفية والتي كانت خاضعة آنذاك لسيطرة المدرسة الفقهية الوهابية، ومن هنا نال التيار الوهابي الكثير من السلطات الدينية وظهر دعاة الصحوة مثل ناصر العمر وعائض القرني وغيرهم، ممن لعبوا دوراً بارزاً في تخفيف الضغوط السياسية عن كاهل الأسرة الملكية حيث وجههم الملك فهد لإشغال المجتمع في قضايا سياسية بعينها.

القضايا السياسية التي تورط فيها تيار الصحوة

مع تزايد نفوذ التيار الوهابي داخل السعودية بدأت ملامح التغير على الفور؛ حيث أغلقت المسارح القليلة التي كانت موجودة بالمملكة وكذلك دور السينما، ولم يقتصر تأثير النفوذ الوهابي على الداخل السعودي فخلال عام 1990 ومع اجتياح صدام حسين للكويت قامت لجنة من العلماء برئاسة المفتي الأكبر الشيخ عبد العزيز ابن باز بإصدار فتوى دينية تجيز السماح للقوات الأمريكية بالانتشار في الأراضي السعودية أثناء الحرب، وذلك من أجل الضغط على القوات العراقية للخروج من الكويت، كما لعبت المدرسة الوهابية دوراً كبيراً في الصراع على السلطة السياسية في المملكة والذي نشب بين الملك سعود وشقيقه فيصل إذ كانت لها الكلمة الأخيرة، وذلك حين أفتى محمد بن ابراهيم آل الشيخ مفتي السعودية بخلع الملك سعود وخلافة فيصل عوضاً عنه.

 نشأت الدولة السعودية الأولى خلال عام  1744 بعد تحالف شخصيتين هامتين للغاية وهما: محمد بن سعود مؤسس العائلة المالكة ومحمد بن عبد الوهاب زعيم الحركة الإسلامية السلفية، وقد شكلت تلك العلاقة بين الرجلين مستقبل تاريخ السعودية بأكمله

ومع اندلاع أحداث الحادي عشر من سبتمبر تغيرت الأمور كثيراً في المملكة حيث تراجعت سطوة المؤسسة الدينية الرسمية في السعودية وذلك بعد توجيه العديد من أصابع الاتهام إليها بسبب الأيدولوجية الوهابية المعادية للغرب، ومنذ ذلك الحين بدأت السلطة السياسية في السعودية التحلل شيئاً فشيئاً من الفكر الوهابي ولكن دون القطيعة التامة معها.

مسار عمل تيار الصحوة داخل السعودية وخارجها

من خلال كتابه “زمن الصحوة.. الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية”، وثق ستيفان لاكروا باحث العلوم السياسية الفرنسي تاريخ وسوسيولوجيا تشكل الحركات الإسلامية في السعودية حيث ذكر لاكروا أن تيار الصحوة اعتمد على التوغل في البنية التحتية للمملكة وذلك من خلال السيطرة على أكثر من 80 ألف مسجد، وشكل أفراد تيار الصحوة فيما بينهم خلايا من أجل بث قيم اجتماعية جديدة والقطيعة مع الثقافة التقليدية وذلك عبر منابر المساجد والإعلام الرسمي.

ويرصد لاكروا من خلاله كتابه عملية سيطرة التيار على الجامعات ولم يقتصر تأثير التيار على السعودية وحدها ولكنه امتد ليشمل أغلب الدول العربية التي اجتاحها فكر الصحوة من خلال الكتيبات وأشرطة الكاسيت تلك الأشرطة التي بثت تشويها معنوياً وأخلاقياً للخصوم قامت به بالأساس مدرسة التكفير والولاء والبراء التابعة للصحوة.

كيف نفهم تداخل السياسي مع الديني في السعودية

“العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة؛ والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة فقلما تجتمع أهواؤهم‏.‏ فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم”، على ما يرى ابن خلدون في مقدمته الشهيرة.

ولم تتوقف علاقة بن سعود بمحمد بن عبد الوهاب عند انتهاء الدولة السعودية الأولى حيث ترك كل منهما عائلة كبيرة حرصت بكل ما أوتيت من قوة على مواصلة دور الشراكة التاريخية بين آل سعود وآل الشيخ

 نشأت الدولة السعودية الأولى خلال عام  1744 بعد تحالف شخصيتين هامتين للغاية وهما: محمد بن سعود مؤسس العائلة المالكة ومحمد بن عبد الوهاب زعيم الحركة الإسلامية السلفية، وقد شكلت تلك العلاقة بين الرجلين مستقبل تاريخ السعودية بأكمله، كان بن سعود قائداً قبلياً وعسكرياً وكان بن عبد الوهاب يحمل مشروعاً إصلاحياً يهدف إلى تحرير الإسلام من البدع والخرافات والعودة به إلى نقاء السلف الصالح، والحقيقة أن مشروع بن عبد الوهاب لم يتوقف عند حد الإصلاحات المجتمعية ولكنه استمر ليشكل مع آل سعود ركائز الحكم الدائم.

ولم تتوقف علاقة بن سعود بمحمد بن عبد الوهاب عند انتهاء الدولة السعودية الأولى حيث ترك كل منهما عائلة كبيرة حرصت بكل ما أوتيت من قوة على مواصلة دور الشراكة التاريخية بين آل سعود وآل الشيخ، ومع تأسيس الدولة السعودية الثالثة على يد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود أخذ التحالف بين السلطة السياسية والسلطة الدينية شكل المصاهرة إذ تزوج الملك عبد العزيز من ابنة الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ رئيس علماء المذهب الوهابي آنذاك.

ومن حينها لم تتخل المؤسسة الوهابية عن دعم الملك عبد العزيز حيث حشدت جميع إمكانياتها المادية والرمزية من أجل نصرته، وعليه يمكن القول إن الدعوة الوهابية كانت بمثابة عصب السلطة السياسية وهكذا أسس تحالف الأمير والشيخ نمطاً راسخاً من الحكم ارتكز بالأساس على توزيع السلطة بينهما، ولكن حدث ما أخل بهذا التوزيع العادل وهو الأمر الذي حدث بسبب توفر البترول الذي سمح للمملكة بإقامة اقتصاد ريعي جعل الأمير هو صاحب الكلمة العليا في السعودية.

محمد بن سلمان يضع حداً للسلطة الدينية في المملكة

على هامش مبادرة مستقبل الاستثمار التي انطلقت فعاليتها بمدينة الرياض في أكتوبر 2017 قال الأمير محمد بن سلمان خلال جلسة النقاش “سنعود إلى الإسلام الوسطي المعتدل والمنفتح على جميع الأديان” وأضاف: “لن نضيع 30 سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة. اتخذنا خطوات واضحة في الفترة الماضية بهذا الشأن، وسنقضي على بقايا التطرف في القريب العاجل، ولا أعتقد أن هذا يشكل تحدياً، فنحن نمثل القيم السمحة والمعتدلة والصحيحة، والحق معنا في كل ما نواجه، وسندمرهم اليوم فوراً.”

محمد بن سلمان لايريد بالطبع التخلص من العلماء فهو بحاجة إليهم من أجل شرعنة حكمه وتأييد سياسته دينياً ولكن ما يطمح إليه الأمير الصغير هو وضع إطار جديد للعلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الدينية

وفي 10 سبتمبر 2017 ألقت أجهزة الأمن السعودية القبض على الداعية السعودي سلمان العودة، الذي يعتبر أيقونة للاعتدال في العالم الإسلامي، وذلك بعد أن كتب تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي تويتر قال فيها: “أدعو الله أن يصلح قلوبهم لمصالح شعوبهم”، وذلك على خلفية الحصار الذي فرضته السعودية والإمارات ومصر والبحرين على قطر، ومؤخراً أصدرت النيابة العامة السعودية حكماً بإعدامه وذلك بعد توجيه 37 تهمة ضده، وعلى الرغم من أن الأمر يبدو وكأن بن سلمان يدعو للوسطية ويقف بالمرصاد للتشدد ولتيار الصحوة إلا أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق.

لا يريد بن سلمان بالطبع التخلص من العلماء، بل وضع إطار جديد للعلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الدينية؛ ففي الماضي جسد رجال الدين ركيزة أساسية وهامة في تاريخ المملكة بالتوازي مع القيادة السياسية، ولكن بن سلمان لايريد لهؤلاء الرجال الاحتفاظ بأي قدر من السلطة السياسية أو الدينية كأن تتحول المؤسسة الدينية في السعودية لمعادل لوظيفة مفتي الجمهورية في مصر، لايملك أية سلطة ذاتية ولكنه يستمد سلطته من الحاكم.