في جنازة مهيبة انطلقت من مسجد تشامليجا أكبر مساجد مدينة اسطنبول، شيعت جماهير واسعة من الشعب التركي المؤرخ قدير مصر أوغلو وسط حضور ومشاركة رئيس البرلمان التركي مصطفى شنطوب، ووزير المالية بيرات البيرق، ونائب رئيس حزب العدالة والتنمية نعمان كورتولموش ولفيف واسع من المسؤولين في الدولة التركية وحزب العدالة والتنمية. فيما نعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مصر أوغلو واصفاً اياه بالمؤرخ الهام.
Ülkemizin önemli tarihçi yazarlarından biri olan Kadir Mısıroğlu’nun vefatını teessürle öğrendim. Sayın Mısıroğlu'na Allah’tan rahmet, ailesine ve sevenlerine başsağlığı diliyorum. Mekanı cennet olsun.
— Recep Tayyip Erdoğan (@RTErdogan) May 5, 2019
في المقابل هاجمت وانتقدت أحزاب المعارضة التركية المشاركة الواسعة لموظفي الدولة وممثلي حزب العدالة والتنمية في جنازة من وصفته بـ” عدو أتاتورك”، وانتقدت بعض المظاهر المرافقة للجنازة وخاصة بعض العبارات المسيئة لأتاتورك. كما انتقد النائب عن حزب الجيد أوميت أوزداغ، نعي وكالة الأناضول للمؤرخ مصر أوغلو قائلًا: “كيف لوكالة أنشأت من أجل تغطية أخبار حرب الاستقلال أن تنعى شخص تمنى انتصار اليونانيين فيها!. إنكم تسيئون لأرواح الشهداء والجرحى الأتراك.”
Anadolu Ajansı yöneticileri, AA İstiklal Harbini dünyaya duyurmak için kuruldu.Yunan ordusu kazansaydı diyen bir kişiyi övüyorsunuz. Şehit ve gazilerimizin ruhlarına hakaret ediyorsunuz. https://t.co/5ke0O48Itl
— Prof. Dr. Ümit Özdağ (@umitozdag) May 6, 2019
وعلى جانب آخر انتظرت مديرية الثقافة في بلدية اسطنبول قرار لجنة الانتخابات المركزية إعادة الانتخابات وسحب اعتماد رئيسها أكرم امام أوغلو لتقوم بنعي المؤرخ قدير مصر أوغلو، الأمر الذي أثار جدلًا على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث انقسم النشطاء الأتراك ما بين المدافع عن مصر أوغلو حيث وصفوه بالمؤرخ الباحث عن الحقيقة، وما بين المهاجم لمصر أوغلو واصفين إياه بعدو أتاتورك.
البدايات
ولد قدير مصر أوغلو عام 1933 لعائلة تنحدر من منطقة البحر الأسود وتحديداً مدينة طرابزون، حيث أتم دراسته الابتدائية والثانوية، ليلتحق بعدها بكلية الحقوق في جامعة إسطنبول عام 1954م، لكن دراسة التاريخ سريعاً ما حازت اهتمام قدير الذي بدأ بالكتابة لعدد من المجلات والصحف، وفي العام 1961 تزوج قدير مصر أوغلو من السيدة اينور أيدن التي أنجب منها ثلاثة ابناء؛ عبد الله سنوسي (1963)، وفاطمة مهليكا (1965) ، ومهمت سلمان ( 1973).
قدير مصر أوغلو
وفي العام 1964 قام مصر أوغلو بتأسيس دار للنشر حملت اسم السبيل، لتقوم بنشر أول أعماله الذي حمل اسم “معاهدة لوزان نصر أم هزيمة؟”، لكن شهرة دار النشر جاءت بعد تحقيق ونشر مذكرات رضا نور التي حملت اسم “ذكرياتي”، الجدير بالذكر أن رضا نور قد شغل منصب نائب في الجمعية الوطنية عن مدينة سينوب كما شغل منصب وكيل وزارة المعارف. وبعد اتهامه بالمشاركة في محاولة اغتيال مصطفى كمال أتاتورك في مدينة إزمير عام 1926م ترك رضا نور تركيا ليعيش السنوات العشر اللاحقة من حياته متنقلاً في منفاه القسري، حيث استطاع العودة إلى البلاد بعد وفاة مصطفى كمال أتاتورك عام 1938.
سياسة ومتاعب
بدأ قدير مصر أوغلو رحلته مع المتاعب منذ مراحل مبكرة من حياته، فخلال دراسته الإعدادية (1948) تعرض قدير للطرد من مدرسته لمدة أسبوع بعد أن خاض نقاشاً مع زملائه في الفصل حول مصطفى كمال أتاتورك رأت فيه إدارة المدرسة إساءة للباشا، حيث يروي مصر أوغلو أن “هذه الحادثة كان لها الأثر الكبير في تشكل توجهاتي لدراسة التاريخ المعاصر لتركيا”.
وفي العام 1970 قام قدير مصر أوغلو بإعادة طباعة كتابه “معاهدة لوزان نصر أم هزيمة؟” مع القيام بعدد من الإضافات، على إثر ذلك تم رفع دعوة قضائية بحق مصر أوغلو استناداً الى القانون 5816 المتعلق بالجرائم المرتكبة بحق مصطفى كمال أتاتورك. وفي نفس العام رفعت دعوة قضائية أخرى بحق مصر أوغلو بعد خطاب ألقاه في الاتحاد الوطني للطلبة الأتراك، لتأخذ حياة قدير مصر أوغلو منحى جديد من المعاناة حيث حُكم 7 سنوات قضى 4 سنوات منهن ما بين السجن والمستشفيات النفسية حيث اتهم بالجنون، ليترك حراً عام 1974 بعد عفو عام، لتكون هذه التجربة الثانية بالاعتقال بعد أن اعتقل بعد انقلاب عام 1960.
قدير مصر أوغلو إلى جانب نجم الدين أربكان خلال اجتماع لحزب السلامة الوطني
وبحلول عام 1976 بدأ مصر قدير أوغلو في إصدار مجلة السبيل التي أخذت الدعاوى القضائية تنهال عليها متهمة اياها بالإساءة لمصطفى كمال أتاتورك. وفي العام 1977 ترشح مصر أوغلو على قوائم حزب السلامة الوطني بزعامة نجم الدين أربكان، لعضوية البرلمان عن دائرة طرابزون في الانتخابات العامة التي أجريت في العام نفسه، لكنه فشل في الفوز بعضوية البرلمان التي عاد للترشح لها مرة أخرى عن دائرة اسطنبول عام 1978 لكنه فشل مرة أخرى بحجز مقعده في البرلمان، ليشارك في انتخابات حزب السلامة الوطني حيث حجز مقعداً في الإدارة العامة للحزب. لكن انقلاب أيلول 1980 جاء ليضع حداً لتجربة قدير السياسية.
منفى و عودة
تعرض الحياة السياسة التركية بعد انقلاب 1980 لعملية تجريف واسعة فتعرضت الأحزاب السياسية للحظر، وتعرض عشرات الآلف من شباب وكوادر الأحزاب للاعتقال والتعذيب، فيما فر قسم كبير آخر لخارج البلاد، شكلت ألمانيا في ذلك الوقت الوجهة الأولى لضحايا الانقلاب في تركيا حيث لجأ إليها قدير مصر أوغلو بعد أن قامت السلطات بحظر حزب السلامة الوطني واعتقال كوادره، استقر مصر أوغلو في مدينة فرانكفورت لكن السلطات الألمانية لم تسمح له بجلب عائلته إلى جواره مما دفعه للهجرة إلى إنجلترا حيث التحقت عائلته به، وجهت وسائل إعلام تركية مدعومة من الدولة عام 1983 دعوة لمصر أوغلو بالعودة للبلاد لكن مصر أوغلو الغير مطمئن لسلوك الدولة رفض تلبية الدعوة لتقوم الدولة على إثرها بسحب الجنسية التركية من مصر أوغلو والحجز على كافة أملاكه، لكن متاعب مصر أوغلو لم تتوقف حيث اضطر للانفصال عن عائلته لفترة من الزمن والعيش في ألمانيا، ليعيش غربة داخل غربة.
قدير مصر أوغلو إلى جانب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وبحلول عام 1991 قامت الدولة بسن قانون جديد لمحاربة الإرهاب وتعديل المادة 163 من قانون العقوبات التركي، لتسمح هذه التعديلات بعودة قدير مصر أوغلو لأرض الوطن بعد 11 عام من المنفى.
آراء وآثار
ترك قدير مصر أوغلو خلفه ميراث كبير من المؤلفات البحثية والكتب والروايات التي تناول فيها موضوعات مختلفة من التاريخ العثماني والتركي، حيث اعتاد قدير مصر أوغلو السباحة عكس التيار فلم يتوقف طيلة حياته عن إثارة الجدل بداً من ارتدائه الطربوش العثماني في دلالة لرفضه خطوات التغريب المتخذة من قبل الجمهورية – حظر قانون القبعة ارتداء الطربوش العثماني وفرض بدلاً منه ارتداء القبعات الأوروبية-، وصولاً لآرائه حول عدد من القضايا والمسائل التاريخية، ففي عام 2016 وخلال مجلس العلم الذي يعقده كل يوم سبت صرح قائلاً: “ليت اليونانيين انتصروا، فعلى الأقل لا الخلافة ستهدم ولا الشريعة، ولن يشنق العلماء ولن تغلق المدارس الدينية”، وهي التصريحات التي ما فتأت تثير الجدل وحتى السخط في المجتمع التركي.