شكلت التطورات الأخيرة عقب تصنيف الولايات المتحدة الأمريكية للحرس الثوري الإيراني كمنظمة ارهابية، بالإضافة إلى التحشيد العسكري الأمريكي في منطقة الخليج العربي، والتي بلغت ذروتها بوصول القاذفة الإستراتيجية B52 الأمريكية، إلى جانب عشرات القطع والسفن الحربية، الكثير من اللغط حول المستقبل الذي ينتظر العلاقات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، وكمحاولة للهروب إلى الأمام، جاء إعلان إيران عن عدم إلتزامها ببعض بنود الإتفاق النووي في يوم 8 مايس 2019 كمرحلة أولى، ستعقبها مرحلة ثانية في 8 يوليو القادم، كسياسة تصعيدية ستضع الإتفاق النووي أمام اختبار صعب جداً، خصوصاً وأن فرنسا وألمانيا وبريطانيا أصبحوا في موقف صعب جداً بعد التصعيد الإيراني الحالي، إذ أعلنت فيدريكا موغريني مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بأن الموقف الإيراني الأخير يستدعي منا إعادة تقييم التزام إيران ببنود الإتفاق النووي.
عقوبات جديدة
فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عقوبات جديدة على إيران يوم الأربعاء الماضي، بعد ساعات من إعلان الرئيس الإيراني حسن روحاني أنه انسحب من بعض أجزاء من الاتفاق النووي، وقال ترامب في أمر تنفيذي إنه سيكون هناك عقوبات جديدة على صادرات المعادن الإيرانية كالصلب والألومنيوم والنحاس والحديد.
أعلن الرئيس الإيراني حسن روحاني أنه يتراجع عن أجزاء من الإتفاق النووي، وسوف يتخذ المزيد من الإجراءات في غضون 60 يوماً القادمة
إذ كان للعقوبات الأمريكية المفروضة على النفط الإيراني، تأثير مدمر على الاقتصاد الإيراني، وقال ترامب: “بسبب عملنا، يكافح النظام الإيراني لتمويل حملته لدعم الإرهاب المتطرف، حيث يتجه اقتصاده إلى كساد غير مسبوق، وتجف عائدات الحكومة ويخرج التضخم عن السيطرة”، “نجحنا في فرض أقوى حملة ضغط شهدناها على الإطلاق، والتي ستزيد من قوة إجراءات اليوم، يمكن لطهران أن تتوقع المزيد من الإجراءات ما لم تغير سلوكها بشكل أساسي.”
الإتحاد الأوروبي طوق نجاة
فى وقت سابق من يوم الخميس الماضي، أعلن الرئيس الإيراني حسن روحاني أنه يتراجع عن أجزاء من الإتفاق النووي، وسوف يتخذ المزيد من الإجراءات في غضون 60 يوماً القادمة، إذا لم تساعد الدول الأوروبية إيران على التعامل مع آثار العقوبات الأمريكية، وقال روحاني إنه إذا لم يتم تخفيف العقوبات خلال 60 يوماً، فستستأنف إيران تخصيب اليورانيوم بمستويات أعلى، جاء إعلان روحاني بعد عام واحد بالضبط من انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية النووية بين إيران وبريطانيا والصين وفرنسا وألمانيا وروسيا، بالإضافة إلى الإتحاد الأوروبي، وبموجب الاتفاق خفضت إيران تخصيب اليورانيوم مقابل فوائد اقتصادية من تخفيف العقوبات، وهو ما لم تره بعد.
أشار وزير الخارجية الأمريكي مايك بوميو أن إعلان إيران تعليق الإلتزام “غامض عن قصد“
وأضاف روحاني “إذا انضمت الدول الخمس إلى المفاوضات، وساعدت إيران على الوصول إلى فوائدها في مجال النفط والبنوك، فسوف تعود إيران إلى التزاماتها بموجب الإتفاق النووي”، “شعرنا أن الصفقة تحتاج إلى جراحة، وأن الأدوية المهدئة التي استمرت لمدة عام لم تحقق أي نتيجة، هذه العملية تهدف إلى إنقاذ الصفقة وليس تدميرها“، وفي الوقت الحالي ستتوقف إيران عن بيع اليورانيوم المخصب والماء الثقيل، وهو ما كانت تفعله للحد من مخزوناتها.
وأشار وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبو إلى أن إعلان إيران تعليق الإلتزام “غامض عن قصد“، وقال بومبو في لندن “علينا أن ننتظر لنرى ما هي أفعال إيران بالفعل”، “لقد أدلوا بعدد من البيانات حول الإجراءات التي يعتزمون القيام بها من أجل حمل العالم على القفز، سنرى ما الذي يقومون به بالفعل“، واتهم بريان هوك، كبير مستشاري بومبيو للشؤون الإيرانية، إيران بـ “الابتزاز النووي“.
العراق نقطة المواجهة المركزية
إن استمرار الشعور بعدم الارتياح بين العديد من العراقيين نتيجة النفوذ الإيراني المتزايد، إلى جانب الانتشار العسكري الأمريكي الأخير في العراق، يجعل من البلاد ساحة محتملة لمزيد من الصراعات المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران، وقد حذرت كلّ من الولايات المتحدة وإيران مؤخراً من تأثير القوة الأخرى المتواجدة داخل العراق، وبالمثل، عكست الزيارة المفاجئة لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الثلاثاء الماضي، رغبة الولايات المتحدة في إفهام القادة العراقيين بضرورة اتخاذ موقف أكثر تفهماً للضرورات الإستراتيجية الأمريكية حيال إيران.
في الوقت الذي لم تنفك فيه دوائر صنع القرار الأمريكي بالبحث عن الوسائل المناسبة لمواجهة إيران في العراق، والتي يأتي في مقدمتها خطة إعادة الإنتشار الأمريكية، وتحديداً في المناطق الشمالية والغربية منه، إلا أنه يمكن القول بأن الخطة الأمريكية يبدو أنها لم تنضج بعد
وعلى الرغم من قيام الرئيس الأمريكي باتخاذ قرار سحب القوات الأمريكية من شرق سوريا في وقت سابق، إلا إنه رفض أي تكهنات بسحب القوات الأمريكية من العراق، وأكد من جديد على ضرورة احتفاظ الولايات المتحدة بقاعدة عين الأسد الجوية، ومن ناحية أخرى، سعت إيران بشكل خاص لتركيز نفوذها وسلطتها على العراق بشكل متزايد، خاصة وأن العراق يقع في قلب الإستراتيجية الإقليمية الشاملة لإيران، ونظراً لموقعه الجغرافي، فإن العراق يمثل شريان مركزي تمول إيران من خلاله حملاتها العسكرية في سوريا ولبنان واليمن، سواء على مستوى الدعم المالي أو اللوجستي.
وفي الوقت الذي لم تنفك فيه دوائر صنع القرار الأمريكي بالبحث عن الوسائل المناسبة لمواجهة إيران في العراق، والتي يأتي في مقدمتها خطة إعادة الانتشار الأمريكية، وتحديداً في المناطق الشمالية والغربية منه، إلا أنه يمكن القول بأن الخطة الأمريكية يبدو أنها لم تنضج بعد، فهناك الكثير من المتغيرات المؤثرة حيال التوجه الأمريكي الحالي في العراق، والحديث هنا عن عودة تهديدات تنظيم “داعش” المتصاعدة، وهيمنة الحشد الشعبي على المناطق السنية المحررة، وغياب العناصر السنية المحلية التي يمكن التعويل عليها في المرحلة المقبلة، فضلاً عن عدم وضوح الرؤية الكردية حول مدى التناغم مع الخطط الأمريكية مستقبلاً.
وتخشى الولايات المتحدة أيضاً من التهديد المتمثل في الدعم العسكري المحلي الراسخ الذي تتمتع به إيران، والذي يمكنها الإعتماد عليه، وإنطلاقاً من التهديد الذي يمثله تنظيم (داعش) على المشروع الإيراني، سعت إيران إلى تثوير المجتمع العراقي من خلال عسكرته، عن طريق إنتاج العشرات من المليشيات المسلحة، إضافة إلى ذلك، يمكن لقوات الحشد الشعبي المدعومة من إيران والتي لديها تاريخ معقد في العراق أن تعمل كحائط صد يحمي إيران من أي تحديات مستقبلية قد تواجهها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ماشدد عليه بومبيو في زيارته الأخيرة، إضافة إلى تثوير أحزاب الإسلام السياسي “الشيعي”، وإبعاد سبغة المدنية عنها، عن طريق جعل نشاط هذه الأحزاب مدني وعسكري بنفس الوقت، وهو ما يصطلح على تسميته “بالأحزاب المليشياوية”.
في ظل الوجود العسكري الأمريكي الحالي في العراق، قد تواجه القوات الموالية للولايات المتحدة موقفاً خطيراً، فقد يدفع الوكلاء المدعومون من إيران إلى مواجهة عسكرية أمريكية مباشرة – وهو إحتمال سيكون مكلف للغاية
في ظل هذه الظروف، أصبح الوجود العسكري يمثل جوهر معركة النفوذ في العراق، ومثلما فعلت إيران، بدأت الإدارة الأمريكية تعمل على توجيه جهودها لتحسين وتطوير علاقتها مع الشركاء المحليين المحتملين على الأرض، والحديث هنا عن القبائل السنية، والفصائل السنية المسلحة، والقوى السياسية المعارضة للنفوذ الإيراني في العراق، كما أن هناك تيار شعبي شيعي واسع في مدن جنوب العراق أصبح ناقماً على سياسات إيران السلبية في العراق، يمكن الاستفادة منه وتوظيفه جيداً لمواجهة النفوذ الإيراني في العراق، إلى جانب ذلك، هناك أيضاً أعضاء البرلمان الذين أبدو توجهاً للخلاص من النفوذ الإيراني، والحديث هنا عن تحالف “سائرون” و”الحكمة” و”الوطنية” وغيرها.
وفي ظل الوجود العسكري الأمريكي الحالي في العراق، قد تواجه القوات الموالية للولايات المتحدة موقفاً خطيراً، فقد يدفع الوكلاء المدعومين من إيران إلى مواجهة عسكرية أمريكية مباشرة – وهو احتمال سيكون مكلفًا للغاية، وذلك في ظل سيطرة القوات الإقليمية الإيرانية واسعة النطاق، كما أن قدرة إيران على تصعيد أي صراع إلى صراع إقليمي أوسع يجعل أي صدام محتمل في العراق خطيراً بشكل خاص، وفى هذا الصدد، أسس الجنرال قاسم سليماني ومعه فيلق القدس الإيراني، علاقات واسعة مع مختلف الحركات المسلحة السنية والشيعية على حد سواء، والتي أظهرت ولاًء كبيرًا لإيران خلال المرحلة الماضية.
مضيق هرمز.. بركان خامد
إن التحشيد العسكري الذي تشهده منطقة مضيق هرمز مرشح للتصاعد بعد إعلان إيران الأخير، إلا أن طهران تدرك جيداً بأن المواجهة العسكرية في المضيق ستكلفها الكثير من التداعيات البيئية والأمنية والاقتصادية، وبالتالي فهي تعمل جاهدةً على تجنب هذه المواجهة، لأسباب كثيرة أهمها الواقع الإقتصادي الصعب الذي تعيشه اليوم، في حين لازال النظام الإيراني يكابر ويقلل من حجم هذه التحديات، وعلى الرغم من أن إيران هي الدولة الوحيدة في منطقة الخليج العربي التي تمتلك قوة غواصة بحرية، وعلى الرغم من وجود برامج محلية لإنتاج وصيانة هذه الغواصات، إلا أنها تعاني العديد من التحديات، والتأخير في الحصول على التكنولوجيا الحربية المتقدمة، وهو مايضع الكثير من علامات الإستفهام على قدرة إيران في التأثير على حركة الملاحة البحرية في مضيق هرمز.
تفهم إيران بأن المستفيد الأكبر من غلق المضيق هم أعداؤها، وبالتالي ستفكر ملياً قبل الذهاب بهذه الخطوة
وعلى الرغم من القدرات العسكرية المتطورة التي تمتلكها البحرية الأمريكية في مياه الخليج العربي، والتي تأتي في مقدمتها كاسحات الألغام والزوارق البحرية والقطع البحرية المقاتلة، إلى جانب الطيران المروحي، إلا أنه بالمقابل يواجه صعوبة في كيفية التعامل مع إلية الزرع العشوائي للألغام البحرية التي يعتمدها الحرس الثوري في مياه الخليج العربي، وهو مايجعل طريقة التعامل مع هذه الإستراتيجية صعبة بعض الشيء، كما أشار إلى ذلك تقرير صادر عن المكتب الأمريكي للاستخبارات البحرية، وما عبر عنه مايكل كونيل رئيس برنامج إيران للأبحاث.
تفهم إيران بأن المستفيد الأكبر من غلق المضيق هم أعداؤها، وبالتالي ستفكر ملياً قبل الذهاب بهذه الخطوة، ويبقى غلق المضيق أحد أكثر الخيارات المستبعدة من جانب قدرات إيران من جهة، ومن جهة أخرى فإن إغلاق المضيق أو عرقلة المرور من خلاله سيؤثر في الاقتصاديات العالمية بشكل كبير، بما يدخل إيران بعزلة دولية كبيرة، بل قد يتصاعد ليشهد حراك يضع حد لنشاطاتها في المنطقة، وعلى نحو غير مسبوق، وهو ماعبر عنه صراحة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في يوم 9 مايس 2019، “بأن العالم تخلى عن إيران”، فحتى أقرب حلفاء إيران، والحديث هنا عن روسيا والصين وتركيا، بدؤا بالإبتعاد شيئاً فشيئاً عن إيران.
“إسرائيل”… الغائب الحاضر
في خضم هذا المشهد الإقليمي المعقد، تبدو “إسرائيل” أكثر الأطراف الإقليمية مبهمة التحركات والأهداف، فهي تنظر إلى خيار المواجهة مع إيران من عدة جوانب، وأهمها القضاء على تهديدات حزب الله اللبناني والفصائل الفلسطينية من جهة، ومن جهة أخرى تسهيل الطريق نحو تحقيق صفقة القرن، التي ستحفظ وجودها وكيانها، ضمن عملية تطبيع ستشمل أغلب دول المنطقة الرافضة لإقامة علاقات طبيعية مع “إسرائيل”.
تدرك إيران جيداً أن اللعب على المسارات، أصبحت ضرورة سياسية أكثر منها اقتصادية، على اعتبار أن المستهدف الآن أصبح النظام السياسي بصورة مباشرة
وفي إطار سياسة تبادل الأدوار، تبدو الأدوار الإسرائيلية واضحة في حالة إندلاع المواجهة المفترضة مع إيران، فعلى الصعيد الأمني ينحصر الدور الإسرائيلي على طول الشريط الحدودي الذي يربط العراق بعمق الأراضي السورية، وصولاً إلى مرتفعات الجولان، إذ عبرت الولايات المتحدة مرارًا وتكرارًا ومن خلال رسائل واضحة موجهة للحكومة العراقية، بضرورة سحب كل قطعات الحشد الشعبي المرابطة على طول الحدود العراقية السورية، بالإضافة إلى تفكيك كل منصات الصورايخ التي يتراوح مداها 700 كيلو متر، من طراز ذو الفقار إيرانية الصنع، وإلا ستكون هدفًا مشروعًا للضربات الجوية الإسرائيلية، وبالصورة التي اعتادت “إسرائيل” على القيام بها داخل الأراضي السورية، منذ مطلع العام 2017، من خلال استهدافها للعديد من مقرات الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني.
أما البعد الأخر للدور الإسرائيلي فيأخذ الجانب الاستخباري، وهنا ستكون “إسرائيل” أكثر نشاطاً، إذ تمتلك “تل أبيب” أكبر منصة استشعار استخباري في أذربيجان شمال إيران، والتي نجحت “إسرائيل” من خلالها بشن العديد من العمليات الإاستخبارية الناجحة داخل إيران، والتي كان آخرها عملية “عماد” في العام 2018، والتي تمكنت عن طريقها بالحصول على ملفات كثيرة تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، والتي كشف عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتينياهو في مؤتمر صحفي.
تدرك إيران جيداً أن اللعب على المسارات، أصبحت ضرورة سياسية أكثر منها اقتصادية، على اعتبار أن المستهدف الآن أصبح النظام السياسي بصورة مباشرة، فشعار تعديل سلوك إيران الإقليمي الذي رفعته إدارة ترامب، هو بصورة أخرى تستهدف العقلية التي تدير هذا السلوك، والحديث هنا يشير بصورة مباشرة إلى المرشد والحرس الثوري الإيراني، اللذان يرسمان ويخططان بعناية لهذا السلوك، ولهذا نجد بأن التعنت الإيراني في عدم الاستجابة للضغوط الأمريكية يأتي في إطار رغبة إيرانية لتخفيف شروط التفاوض، والأهم من ذلك الحصول على ضمانات دولية لاستمرار بقاء النظام على قيد الحياة.