قبل 60 عامًا تقريبًا، شهد العالم ثورة عظيمة في مجال الاكتشافات الطبية، فلقد أصبح تأخير أو منع الحمل غير المرغوب به أمرًا ممكنًا وفي متناول النساء اللواتي لطالما ارتبطت خياراتهن ومساراتهن التعليمية والمهنية بحياتهن الجنسية، ولكن مع ظهور هذا الابتكار تمتعت النساء بحرية واستقلال ذاتي كبيرين، ولم يعد الأمر بالتعقيد الذي كان عليه، إذ يُرجِع البعض الزيادة الكبيرة في تعليم النساء ومشاركتهن في سوق العمل جزئيًا إلى ابتكارات تحديد النسل.
ومنذ ذلك الوقت، باتت حبوب منع الحمل أكثر وسائل تحديد النسل شيوعًا وشعبية في العديد من الدول، بسبب الدراسات التي أكدت فعاليتها، ولكن نجاحها لم يدم طويلًا، ففي أواخر الستينيات كشفت أبحاث موثوقة عن آثار جانبية لهذه العقاقير، ومنها جلطات دموية ونوبات قلبية وسكتات دماغية والاكتئاب وزيادة الوزن وفقدان الرغبة الجنسية، ما أثار شكوك الكثيرين حول سلامة هذه المبيعات وبالتالي انخفضت مبيعاتها بنسبة 24% في عام 1979 بسبب الدعايات التوعوية حول مخاطرها الصحية جسديًا ونفسيًا، فما قصة هذه العقاقير؟
كيف خربت أدوية منع الحمل صحة المرأة؟
طُرحت عقاقير منع الحمل السحرية لأول مرة في الأسواق عام 1960 وتعد الولايات المتحدة الأمريكية أول دولة تُرخص هذا الدواء وتروج له عالميًا، وذلك بعد سنوات طويلة من الدراسة والبحث دامت لأكثر من 30 عام على يد الخبير، راسل ماركر، الذي نجح في تخليص هرمون البروجيستيرون من مادة كيميائية ببعض النباتات الموجودة في المكسيك ليصنع عقاره السحري الذي يحتوي على مادتين هما الاستروجين والبروجستين الاصطناعيين، بالإضافة إلى مادة مخفضة للهرمون الذكري في الدم، حيث يساعد كل من الاستروجين والبروجستين على منع عملية الإباضة عن طريق إحداث تأثيرات معينة على الغدة النخامية، ما يؤدي إلى توقف إفراز الهرمون اللازم لتنشيط المبيض ومنع خروج البويضة لإحداث التلقيح بالصورة الطبيعية.
وبالرغم من موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على بيع هذه الحبوب للنساء في عام 1960، إلا أنها تعرضت للعديد من الانتقادات في الأوساط الدينية والعلمية والنسائية لأسباب مختلفة، فبالإضافة إلى الاعتبارات المادية التي تحمل المرأة معظم أعبائها المالية وتُعري الرجل من المسؤولية المشتركة وتحولها إلى مسؤولية فردية مع مشاركة المرأة في أكثر من 90% من جميع وسائل منع الحمل، كان هناك أمر خفي بشأن تكلفتها وخطورتها الصحية، إذ تعتمد هذه الوسيلة بشكل رئيسي على التلاعب بالهرمونات، وهو الأمر الذي تم إخفائه طويلًا، إلا أن المعارك التي خاضتها النساء باستمرار مع أطبائهن من أجل الحصول على معلومات واضحة ودقيقة حول العقاقير التي ابتلعنها تجنبًا للحمل وثقةً بالعلم، كشفت عن حقائق صادمة وأعراض خطرة.
تشكو العديد من النساء المتعاطيات لهذا العقار بسبب إصابتهن بحب الشباب وزيادة العرق ونمو الشعر بكثافة في أماكن غير مرغوبة
ففي السنوات الأخيرة، أدرك العلماء أن أدمغة النساء اللاتي يتعاطين هذه العقاقير تختلف عن أدمغة الأخريات اللواتي لم يتناولن هذه الأدوية، وقد بدت أجزاء من الدماغ أشبه بدماغ الرجل، المثير للاهتمام أكثر أن تأثيرها وصل إلى حد الطلاقة اللغوية، فلقد أفاد الخبراء بأن النساء اللواتي يتناولن أنواعًا معينة من حبوب منع الحمل يجدن صعوبة في التعبير وإيجاد الكلمات المناسبة بسهولة. إلى جانب ذلك، توصلت دراسات حديثة إلى أن النساء اللاتي يتناولن هذه الأدوية تغيرت طريقة استرجاعهن للمواقف وسردهن للذكريات العاطفية، فقد أصبحن مثل الرجال، يركزن على جوهر الموضوع أكثر من التفاصيل، كما أنهن أقل قدرة على ملاحظة مشاعر الآخرين من حولهم وأقل إدراكًا لمشاعر الغضب والحزن.
تعدت هذه الأعراض المظهر الخارجي، إذ تشكو العديد من النساء المتعاطيات لهذا العقار بسبب إصابتهن بحب الشباب وزيادة العرق ونمو الشعر بكثافة في أماكن غير مرغوبة، والسبب في ذلك ببساطة هو هرمون البروجيستين المأخوذ من هرمونات ذكورية، بالإضافة إلى هرمون الناندرولون وهو من الهرمونات الذكورية القوية التي تلعب دورًا أساسيًا في نمو وتطور الجهاز التناسلي لدى الرجل ويساعد في ظهور السمات الذكورية عليه عند البلوغ.
في هذا الخصوص، تقول بليندا بليتسر، عالمة الأعصاب بجامعة سالزبورغ بالنمسا، إن هذا الهرمون “يستخدم أحيانا في المنشطات التي يتناولها الرياضيون”، فهو يساعد على بناء العضلات ولذلك يشيع استخدامه بين الملاكمين ومحترفي الرياضات الثقيلة، وأضافت بإن “تناول هذه المنشطات يعد أمرًا محظورًا، ويلحقه اعتراض واستهجان من الجميع، ولكننا ننام قريري العين وملايين النساء تتعاطى تلك الهرمومات بانتظام، وبعضهن يواظب عليها اليوم تلو الآخر منذ البلوغ وحتى انقطاع الدورة الشهرية”.ما يعني أنه تم التلاعب بأجساد النساء لوقت طويل مع غياب كامل للدراسات التي تبحث بدقة عن تأثيراتها، فلم تجر أي أبحاث عن تأثيرها على الأدمغة إلا بعد مرور نصف قرن على اختراع العقار، وذلك بالرغم من جميع التحذيرات والشكاوي والتساؤلات التي طرحتها النساء على مدار السنوات الماضية.
لماذا لا يقدم العلم خيارات أفضل للنساء؟
منذ عام 1984، وافقت إدارة الأغذية والعقاقير على العديد من أشكال منع الحمل الجديدة، فبالإضافة إلى الواقي الذكري وحبوب منع الحمل، سمحت باللولب والحلقة المهبلية وغيرها من الأساليب التي ازداد ميل النساء إليها في بداية التسعينيات بسبب مفعولها طويل المدى والذي لا يحتاج إلى زيارة الطبيب بشكل مستمر، ما يعني أن التكلفة المادية لم تعد حاجزًا أمامهن، لكن في المقابل رأت جوليا كون، المديرة الوطنية للبحوث في اتحاد تنظيم الأسرة في أمريكا: بـ”إن وسائل تحديد النسل تأتي بحجم واحد ليناسب الجميع”، مشيرةً إلى الفجوات التي يجب معالجتها في مجال الصحة الإنجابية حتى تكون الوسائل أكثر قابلية للاستخدام ومتاحة للجميع.
نصف النساء اللاتي شملهن الاستطلاع توقفن عن استخدام وسائل منع الحمل لأنهن كن قلقات بشأن الآثار الجانبية، و ثلثهن جربن 5 أنواع أو أكثر ولكنهن لا زلن يأملن في وجود شيء أفضل
بعد عدة عقود، تباطأت الأبحاث المختصة بوسائل منع الحمل، وباتت معظم الخيارات الجديدة عبارة عن نسخ محسنة من الموانع التي تم تطويرها في الستينيات والسبعينيات، ولا سيما بالنسبة للنساء اللاتي لا يرغبن في تناول الأدوية الهرمونية، فإن خياراتهن محدودة للغاية، ونظرًا لذلك لا يمكن ربط تأخر التطور هذا بالرضا عن الاختيارات الموجودة حاليًا، حتى وإن كانت منتشرة على نطاق واسع. فلقد وجدت دراسة في عام 2013 أن ما يقرب من نصف النساء اللاتي شملهن الاستطلاع قد توقفن عن استخدام وسائل منع الحمل لأنهن لم يعجبهن أدائها أو كن قلقات بشأن الآثار الجانبية، وأن ثلث النساء جربن 5 أنواع أو أكثر ولكنهن لا زلن يأملن في وجود شيء أفضل.
لكن شركات الأدوية تمتنع عن متابعة أبحاث وتطوير موانع الحمل وتحديد النسل، فبحسب أحد الخبراء، إن هذه المنتجات تكون عادةً عرضة بشكل خاص للدعاوي القضائية، ما يعني أنها تكون أقرب للإفلاس من أي شركة أخرى بسبب التكاليف المتزايدة التي تنفقها على تسوية الدعاوى، على سبيل المثال في عام 2004 خسرت إحدى شركات أدوية منع الحمل أكثر من 1.6 مليار دولار بسبب الملاحقات القانونية.
وإلى ذلك، ومع عدم وجود تفسير مقنع لغياب المساهمات الطبية في هذا المجال، تطرح الكثير من التساؤلات التهكمية حول أسباب انخفاض التمويل لهذا النوع من الأبحاث، وأبرزها: هل هذا أفضل ما يمكن للعلم تحقيقه؟، وهل الجهاز التناسلي البشري معقد لدرجة التي لم تمكن الأطباء من ابتكار وسيلة جديدة لتحديد النسل سوى قبل 50 عام؟، وهل من الصعب أن تحقق المنتجات الجديدة أرباحًا في سوق شبه خالي من الخيارات والبدائل؟