توسّط المسجد النبوي، المدينة المنورة، بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتوضّحت مركزيته حتى في تخطيط المدينة حيث كل الطرق تؤدي إليه. هذه المركزية عكست دوره حينها كونه مسجداً جامعاً، سياسياً دينياً واجتماعياً واقتصادياً. ففيه احتشد الناس لحروبهم وغزواتهم، ومنه انطلق رسل النبي إلى باقي ملوك العالم، وفيه استقبلت الوفود.
كان جليًا وواضحًا أن النبي محمد كان يؤسس لما بعد دعوته ويمهّد لإكمال رسالته، فأراد أن تصبح المساجد داراً تعبدية روحية وحيّزًا اجتماعيًا وثقافيًا وأرضاً سياسية تكون نواة الدولة فيها. فكان المسجد هو الذي وسع التربية النبوية بكل شمولها وبكل خصائصها وبكل مقوماتها، فجعلها تربية علمية ولغوية وأدبية وتربية مهنية واجتماعية وعسكرية.
المساجد اجتماعياً
في العهد الأموي والعباسي ومن بعده العثماني كان حضور المسجد مركزياً في كافة مناحي الحياة، فلم يكن مكان عبادة فقط، إذا أن لب العبادة في الإسلام هو كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال والنيات والمناهج التشريعية والتثقيفية والأخلاقية، والقتالية والسياسية والتربوية، وكل هذا يدخل في لب عمل المساجد. ولم تقم الدول إلا من هذا المكان وكان أساساً في بناء المدن، ومصدراً لتوفير الشرعية الدينية للحاكم، وكان الحاكم يبني الجوامع بطرازٍ معيّن لتخليد ذكراه وفترة حكمه، وفي ذلك أمثلة كثيرة من فترات الحكم العثماني.
واستمر المسجد في وظائفه الاجتماعية حتى عصور قريبة، ففي عام 1798 اندلعت ثورة القاهرة الأولى في مصر ضد الاحتلال الفرنسي، وكان الأزهر حينها مقراً لأهل السياسة، وبعد مقتل الجنرال ديبوي احتمى الثوار داخل المسجد، فما كان من الجنود الفرنسيين إلا اقتحام المسجد وحرقه والعبث بمحتوياته وربط خيولهم بقبلته. أما في عام 1919 فقد كان الأزهر مركزًا لتحريض وحشد الشارع ضد الاحتلال الانكليزي، وفقاً لما جاء في كتاب “الجامع الأزهر الشريف”.
الأزهر
لم يكن الأزهر مجرد مسجدٍ في القديم بل كان جامعة ومعلماً حتى أصبح رمزاً للتعليم الديني للمسلمين في كافة أنحاء العالم، وهو ما برز في شكله العمراني، إذ ضم مساحة واسعة من الغرف التي استخدمت للتعليم والاجتماعات. ولعل ما أعطى المسجد هذه القيمة هو استقلاليته وعدم تحكم السلطة فيه إلى حدٍ كبير. ليس الأزهر مثالاً وحيداً في العالم الإسلامي الذي حاز على هذه الرتبة والمكانة بين الناس، فالأمثلة كثيرة كجامع الزيتونة في تونس والأموي في دمشق.
ففي سوريا كان المحدّث الأكبر، بدر الدين الحسني، يجول بين المحافظات ويخطب في مساجدها محرضاً على الاحتلال الفرنسي ليكون منبر الشيخ الحسني من أهم أدوات الثورة على الفرنسيين كما جاء في كتاب شوقي أبو خليل، “الإسلام وحركات التحرر العربية”.
وفي تونس يذكر جامع الزيتونة، الذي بني عام 699 للميلاد، ويعتبر أول جامعة إسلامية تخرّج منها كبار الفقهاء التونسيين والعرب، منهم المؤرخ ابن خلدون، وابن عرفة، إمام تونس، ومحمد الطاهر بن عاشور، صاحب تفسير التحرير والتنوير، ومحمد الخضر حسين، شيخ الجامع الأزهر، و كان معقلاً للحركة الوطنية في تونس (1881 – 1956م)، كما أنه آوى الزعماء والتظاهرات والاعتصامات.
جامع الزيتونة في تونس
تسلّط على المنابر
جاء في كتاب “الإسلام بين العلماء والحكام” للكاتب عبد العزيز البدري، أنه وإبان الاحتلال الإنكليزي للعراق عام 1917، كان أول من حرض لقتالهم هم الخطباء والشيوخ وقتها وسخّروا نشاطاتهم المسجدية لذلك، ولم يكتفوا بالدعوات بل كانوا من المشاركين في المعارك.
إلا أنه وفي عصرنا الحديث وبالخصوص في البلاد العربية أضحى المسجد، نتيجة لتحكم السلطة السياسية فيه بشكل كامل، مقتصراً على أداء الصلوات الخمسة وصلاة الجمعة. وأصبح الخطيب متكلّماً بلسان السلطة أو بما يملى عليه منها، فلم يعد الأزهر هو ذاته ولم يعد منبر الأموي في دمشق هو نفسه الذي يهتم بأمور الناس. وأصبحت منابر المساجد اليوم جامدةً إلا من الخطبة المفرغة من روحها والتي تتحكم بموضوعها وزارة الأوقاف الخاضعة لأنظمة الحكم، فأصبحت وظيفة الخطيب التمجيد بالحاكم والتسخيف من معارضيه وعدم الاكتراث بمصائب المواطن والشعوب أو المرور على أزماتهم.
التغيّر في دور المسجد أثر كذلك على شكله معماريًا، ففي حين كان المسجد الجامع واسعًا يخصص حيّزاً للمدرسة وساحة للتجمعات وغرفًا مغلقة لإدارته وعقد اجتماعاته، تقلّصت مساحته لتقتصر على مساحة لأداء الصلاة ومرافق للوضوء.
خطيب المسجد الأموي في دمشق يصف أخلاق بشار الأسد بأنها ربانية
تعمل العديد من الدول على مراقبة أداء المساجد بشكل كامل، كما يفعل الاحتلال الإسرائيلي بمراقبة مرتادي المساجد في صلاة الفجر، ومثله يفعل النظام السوري. فيما يدعو الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أوروبا مراقبة المساجد هناك، يضاف لذلك ما أوردته صحيفة واشنطن بوست الأميركية في تقرير لها عن إحكام الإمارات سيطرتها على المساجد “إذ تقوم الحكومة باختيار جميع الأئمة وفحصهم، وتقدم لهم إرشادات أسبوعية لخطب صلاة الجمعة، وحتى الممارسات غير الرسمية للتعلم الإسلامي أصبحت مرهونة بموافقتها”.
في الغرب.. الجاليات تستعيد دور المسجد
ساهم ظهور تنظيم “داعش” والتنظيمات المتشدّدة في السنوات الأخيرة بزيادة الرقابة على المساجد في أوروبا وأمريكا وكثير من البلدان، إلا أن بعضها كان وما زال لها أثرٌ كبير جداً على المستوى الاجتماعي للجاليات المسلمة في تلك البلاد. فنظرًا لتجربة الاغتراب يسعى المجتمع المسلم لإيجاد حاضنة له، مثل المؤسسات والمدارس العربية. وبالحديث عن الحاضنة الجامعة يستعيد المسجد دوره، إذ يلجأ الناس للجوامع التي تأخذ دورها التثقيفي والتوعوي والتعليمي إضافة للتعبّد والروحانيات. وتكون أماكن اجتماع للناس في المناسبات الكبيرة كما قال بهاء زيادة وهو طالب جامعي سوري في ألمانيا لـ “نون بوست”.
وفي أمريكا رغم المعوقات وتصاعد العداء للمسلمين، إلا أن المسجد يشكّل حيزًا مجتمعيًا وتربويًا بديلًا بالنسبة للجالية هناك، في استعادة لدوره الأصلي في التاريخ الإسلامي. تؤكد ياسمين عزّام ذلك، وهي طالبة وناشطة في الجالية المسلمة في لوس آنجلس، قائلة في حديث لـ “نون بوست” إن “المسجد هو مكان اجتماع للجالية الإسلامية، ويسمى بالمركز الإسلامي. فيه يقوم الناس بنشاطاتهم المختلفة إضافة للعبادات كحفلات عقد القران والاحتفالات بالأعياد ورمضان وإقامة الندوات التثقيفية، كما يوجد مدارس لتعليم القرآن وتفسيره والدراسات الإسلامية، ويضم المركز الإسلامي فصولاً لتعليم اللغة العربية، وتُقام لجان كاللجنة النسائية ولجنة الشباب التي تنظم أنشطة مختلفة”.
وأضافت ياسمين أن ساحات المسجد تضم ملاعب تجمع بها الشباب، كما تتوفر نشاطات في هذه المراكز للتواصل مع أصحاب الديانات الأخرى، كدعوتهم للإفطار في رمضان. تؤكد ياسمين بذلك أن مكانة ودور المساجد بالنسبة للمسلمين في أمريكا تختلف عن حالها الآن في الدول العربية إذ تتميز بخدماتها الاجتماعية وتشكيلها حيّزًا ثقافيًا كاملًا، كونه غير مرتبط بما تمليه السلطة على الرغم من التحديات الكثيرة التي يواجهها المسلمون هناك.
إن فرصة استعادة المسجد دوره ومكانته في المجتمع المسلم مرتبطة ومرهونة بشكل جوهري بمناخ الحريات في المنطقة، فالتضييق عليه هو استراتيجية السلطة لقمع الناس عبر محو أي حيّز عام يمكن للناس الاجتماع فيه ومناقشة أمور العامة. وعليه فإن عظم دوره وعمق تأثيره يسببان القلق، وسط أنظمة استبدادية تسعى للبقاء للأبد.