أربع ساعات قضاها وزير الخارجية الأمريكي في بغداد، كانت كافية ليلتقي بها كلاً من رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية العراقيين، وكانت كافية في نفس الوقت، لتأذن ببداية مرحلة جديدة في تاريخ العراق، تختلف كثيرًا عما كانت بالفترة السابقة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 إلى يومنا هذا.
هذا ما تشير له الرسائل التي حملها بومبيو للقادة العراقيين، التي كان منها العلني وأدلى بها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، ومنها ما كان سري أفصحت عنه تصريحات بعض المسؤولين العراقيين، فما تلك الرسائل؟ وما مدى أهميتها؟ ولماذا تأذن بعهدٍ عراقي جديد؟ هذا ما نسلط الضوء عليه في السطور التالية.
جاءت الزيارة بعد يومين من تحذير واشنطن لطهران من أنها سترد بقوة شديدة على أي هجوم على مصالحها بالمنطقة، وإرسال حاملة الطائرات “أبراهام لنكولن” رسالة واضحة لا لبس فيها لطهران بأن واشنطن جادة في ردع إيران وأدواتها بالمنطقة، الأمر الذي حَمِل وزير الخارجية الأمريكي، على القيام بزيارة بغداد بشكل غير مرتب وغير مجدول في أجندته، للحديث بشكل صريح ووجهًا لوجه مع رئيس الجمهورية، ذلك لأن على الأرجح، لم تؤت اتصالات بومبيو الهاتفية مع عبد المهدي قبل أيام أُكلها، وبيَّن أن حديثه مع رئيس الجمهورية برهم صالح كان لمطالبته بالتدخل وحث عبد المهدي على اتخاذ موقف ملموس إزاء المخاطر المحتملة لتحركات أذرع إيران بالعراق.
الرسائل التي فهِمها الساسة العراقيون، فقد جاءت بتلميحات بعضهم في ثنايا تصريحاتهم الإعلامية التي أوضحت أن رسائل الإدارة الأمريكية تحمل تهديدًا شديدًا وأخيرًا للقيادة العراقية بضرورة فض يدها عن النظام الإيراني، وأن تكون مستقلة بقرارها بعيدةً عن النظام الإيراني
أفادت الرسائل الأمريكية التي حملها بومبيو للقادة العراقيين، وحسب ما صرح به بومبيو نفسه، أن لديهم معلومات ومؤشرات عن نية النظام الإيراني وأذرعه المنتشرة بالعراق لاستهداف المصالح الأمريكية فيه، ومن الواجب على الحكومة العراقية حماية الوجود الأمريكي والقوات الأمريكية هناك، كما طالبهم بالحفاظ على عراق له سيادة غير خاضع لإيران، وأن لا يكون مسلوب الإرادة من طرف خارجي، وإلا فإن العواقب لن تكون في صالح بغداد، وأشار الوزير الأمريكي إلى أن المسؤولين العراقيين أظهروا أنهم يدركون أن هذه مسؤوليتهم، وأكد أن مخاوف واشنطن بشأن سيادة العراق ليست جديدة، وتريد منه أن يكون مستقلاً لا يدين بالفضل لدولة أخرى.
ولم يستبعد بومبيو إمكانية تعرض الأمريكيين لضربة من أذرع إيرانية بعضها تابع للحكومة ولها مناطق امتداد ونفوذ داخل المنطقة الخضراء، وفي تصريحات صحفية أدلى بها قبل اجتماعه مع عبد المهدي، أعرب الوزير الأمريكي عن قلق واشنطن إزاء سيادة العراق بسبب نشاطات إيران في المنطقة، وقال: “أردت أن أتوجه إلى بغداد لأتحدث مع القادة هناك، وأن أؤكد لهم أننا مستعدون لضمان بقاء العراق دولة مستقلة ذات سيادة”.
أما الرسائل التي فهِمها الساسة العراقيون، فقد جاءت بتلميحات بعضهم في ثنايا تصريحاتهم الإعلامية التي أوضحت أن رسائل الإدارة الأمريكية تحمل تهديدًا شديدًا وأخيرًا للقيادة العراقية بضرورة فض يدها عن النظام الإيراني، وأن تكون مستقلة بقرارها بعيدةً عن النظام الإيراني.
قال مصدر سياسي عراقي مطلع إن أجواء اللقاءين لبومبيو مع الرئيسين العراقيين، لم تكن ودية أبدًا، فقد تحدث بومبيو بلغة قاسية ودقيقة لا تتحمل المرونة المعهودة بشأن علاقة العراق من إيران.
تزامنت زيارة بومبيو إلى بغداد مع تصريحات السيناتور الأمريكي ماركو روبيو الذي أكد بشكل واضح أن أي ضربة تتعرض لها القوات الأمريكية من المليشيات الشيعية في العراق ستعتبر هجومًا إيرانيًا، وسيتم التعامل معها على هذا الأساس. وهي رسالة من الولايات المتحدة للقيادة العراقية تفيد أن من ليس معنا سيكون ضدنا، وعلى العراق تجنيب نفسه الدخول في خندق واحد مع إيران، وهذا يعني أن لا مجال للوقوف على الحياد في الصراع بين واشنطن وطهران، كما يشتهي عبد المهدي.
تعزيزات أمنية للسفارة الأمريكية في بغداد
وبختام زيارة بومبيو للعراق، شهدت السفارة الأمريكية في بغداد إجراءات أمنية مشددة وغير مسبوقة، لم تفعلها واشنطن حتى في أصعب الظروف الأمنية التي مر بها العراق، خلال استيلاء تنظيم داعش على ثلث العراق واقترابه من أبواب بغداد، هذا ما صرح به النائب علي الغانمي الذي أبدى استغرابه واعتراضه على تلك الإجراءات.
وتأتي الإجراءات الأمنية الأمريكية المشددة حول سفارتهم في بغداد، ربما بسبب خشيتهم من تكرار تجربة السفارة الأمريكية في طهران التي احتجز فيها الإيرانيون، طاقم السفارة الأمريكية كرهائن طيلة 444 يومًا، ولم يتم إطلاق سراحهم إلا بعد أن ردت واشنطن الأموال الإيرانية المجمدة لديها، والحال هنا أن الولايات المتحدة تتعامل مع نفس الخصم الإيراني، ولكن بشخوص عراقية ممثلة بالمليشيات المنتشرة في بغداد، ولا يستبعد الأمريكيون قيام إيران بذات الإجراء مع سفارتها في بغداد أو مع السفارات الأوروبية والعربية وقنصلياتها الموجودة في المدن العراقية.
العقوبات الأمريكية على إيران وأثرها على العراق
من ضحالة التفكير السياسي العراقي أنه جعل العراق في قلب المواجهة الإيرانية الأمريكية، وما كان لهم أن يفعلوا ذلك، وجعلوا من طهران وواشنطن، همهم الأساسي، كيفية ربط العراق كحليف لأحدهما في خضم تلك المواجهة.
جعلت كل الأحزاب العراقية التي سيطرت على مقاليد الحكم بالعراق، من نفسها منفذة لأجندات السياسة الإيرانية، رغم أن من ساهم في وصولهم للسلطة كان الاحتلال الأمريكي، ومن طبيعة الأمور أن الحكومات التي تتشكل على عين الاحتلال تكون بالضرورة موالية للبلد المحتل، لكن في العراق الأمر مختلف، فقد آثرت تلك الأحزاب إعطاء ولائها إلى من تنتمي له عقائديًا وهو النظام الإيراني، فربطت الاقتصاد والسياسة العراقية وكل الفعاليات الحكومية العراقية بذلك النظام، حتى أصبح الانفكاك عنه أمر ليس صعبًا بل مستحيلاً.
لعراق الآن يعاني التجاذبات بين إيران وأمريكا، رغم أن لا مصلحة له تُذكر في انحيازه لأحد الطرفين، هذا ما انتهى إليه الساسة العراقيون أخيرًا، ويحاولون الآن جاهدين أن يتلمسوا لهم طريقًا وسطًا بين المتصارعين، لكن فات الأوان على ذلك والأربع ساعات التي قضاها وزير الخارجية الأمريكي في بغداد ستحدد مصير القيادة السياسية العراقية
وبدلًا من أن ترد إيران الفضل إلى تلك الأحزاب وتمكنها من قيادة البلد بشكل يعود بالنفع عليه وتحسين حالة المواطن، وبالتالي ينعكس إيجابيًا على حكم تلك الأحزاب، أفشلت كل المشاريع الحكومية وعملت على تحويل العراق إلى بلدٍ فاشلٍ ينتشر به الفساد والأمراض الاجتماعية، وتفتك به الطائفية، وكل ذلك فقط لأنها ما زالت أسيرة لمخزونها من الذاكرة، كون العراق كان يمثل تحديًا خطيرًا لإيران في فترة ما، وأي انتعاش له يصب في غير صالحها، وعمدت لأجل ذلك ومن خلال الأحزاب الموالية لها، على نشر الجهل والفقر والبطالة، ليسهل عليها قيادة هذا البلد، ولتجند من شبابه ما شاءت في المليشيات الموالية لها، حتى وصل الأمر بالنهاية إلى أن أي خطر يحدق بإيران ينعكس بآثاره السلبية على العراق بسبب هذا الترابط العضوي، شاء ذلك العراقيون أم أبوا.
فالعراق الآن يعاني التجاذبات بين إيران وأمريكا، رغم أن لا مصلحة له تُذكر في انحيازه لأحد الطرفين، هذا ما انتهى إليه الساسة العراقيون أخيرًا، ويحاولون الآن جاهدين أن يتلمسوا لهم طريقًا وسطًا بين المتصارعين، لكن فات الأوان على ذلك والأربع ساعات التي قضاها وزير الخارجية الأمريكي في بغداد ستحدد مصير القيادة السياسية العراقية، إما أن تجعل من نفسها عدوة لأمريكا وصديقة لإيران وتتحمل عواقب ذلك الخيار، وإما أن تجعل من نفسها حليفة لأمريكا وعدوة لإيران، وعليها أن تتحمل عواقب ذلك، بنشوء صراع مليشياوي تنزف فيه دماء العراقيين.
وفي كلا الخيارين فإن العراق من أكبر المتضررين، بل إن أحد الخيارات يعتبر انتحارًا سياسيًا لكل المنظومة السياسية العراقية، في حال إذا اختارت أن تكون حليفًا لإيران وهي على حافة الغرق والنهاية، ففي المعطيات الأمريكية الحاليّة يعتبر النظام الإيراني الآن من الأنظمة الغابرة التي لا يمكن لها أن تتوافق مع المنظومة السياسية الجديدة التي تريدها أمريكا للمنطقة.
العراق واستيراد الطاقة من إيران
من المفارقات التي نراها في العراق أن هذا البلد الذي هو بالأساس يعتمد في مدخولاته على تصدير الطاقة، أرهن نفسه باستيراد الطاقة من جارته إيران، وعملت قيادته السياسية على تخريب كل المشاريع التي تجعل من العراق مكتفيًا من المحروقات ومن الطاقة الكهربائية، وعندما اشتدت الأزمة بين الولايات المتحدة الأمريكية والنظام الإيراني وجاء دور المفاصلة، وجد السياسيون العراقيون أنفسهم غير قادرين على الانفكاك من الأخطبوط الإيراني الذي التف حول عنقهم.
إن الاختيار الخاطئ الذي من المرجح أن تقوم به السلطة السياسية العراقية، والقيام بالتخلي عن الأمريكان والانحياز لإيران، سيجعلهم يورطون العراق بمأزق اقتصادي حقيقي، وحينها لن تنفع العراقيين جميع ثرواتهم التي يمتلكونها، بل من المرجح استعمال الإدارة الأمريكية تلك الملفات الاقتصادية وغيرها من الملفات في الضغط على العراق لحثه على اختيار جانبها
فالحكومة العراقية لا تستطيع المغامرة بالاستغناء على الغاز الإيراني ولا عن الكهرباء الإيرانية، خشية من غضبة الجماهير حال انقطاع الكهرباء عنهم، وبنفس الوقت لا تستطيع تحدي الإرادة الأمريكية التي لا تريد بقاء العراق معتمدًا على إيران في استيراد الطاقة، وهو بين تلك الإرادتين كالذي بين المطرقة والسندان.
حتى الخيارات التي عرضت على الحكومة العراقية من بعض دول الخليج لتوفير بدائل عملية للطاقة المستورة من إيران، لم تتعامل معها الحكومة العراقية بجدية تجعل من الأمريكان يطمئنون لنواياهم، فتراهم يماطلون ويسوفون خشية من غضب الأطراف العراقية الموالية لإيران، التي لم تدخر جهدًا في فتح ملفات قديمة الغرض منها تعكير العلاقات الجديدة بين العراق والدول العربية، فالتصريحات التحريضية التي يطلقها السياسيون وقادة المليشيات بحق السعودية والبحرين والأردن، لا تصب بالمصلحة العراقية، ولا تجعل الأمريكان يطمئنون لتوجهات القادة العراقيين، وتعكس صورة عنهم بأنهم مصرين على أن يبقوا بجانب الإيرانيين ويبحرون معهم في زورقهم الذي يوشك على الغرق.
لقد فوت أولئك السياسيون الماسكون مقاليد الحكم بالعراق فرصة تاريخية على أنفسهم في قيادة البلد وكسب ولاء شعبه ومحبته، وأصروا على البقاء في صفّ الولاء لمن أذاقهم طعم الذل والمهانة حينما كانوا لاجئين في إيران.
هل يستطيع العراق التخلي عن أمريكا؟
حينما يفكر الساسة العراقيون بالتخلي عن الولايات المتحدة لصالح إيران وربط مصير البلد بمصير إيران، لا بد لهم من التفكير مليًا بحجم الخسارة التي يمكن أن يتعرض لها البلد جراء ذلك، فالعراق يأتي في صدارة الدول العربية التي تتلقى معونات أمريكية، ففي عام 2017 تلقى العراق مساعدات بقيمة 5.28 مليار دولار، وكان قد تلقى مساعدات أمريكية عام 2006 بقيمة تجاوزت الـ9.7 مليار دولار، فيا ترى كم تلقى العراق من إيران مساعدات اقتصادية؟ بالتأكيد لا شيء، بل الذي حصل أن اقتصاد العراق تعرض لهزات كبيرة بسبب التغلغل الاقتصادي الإيراني في العراق، وتحول العراق إلى منطقة تصريف بضائع إيران سيئة الجودة، وتم تعطيل معظم الصناعات الوطنية لفتح السوق أمام البضائع الإيرانية. ولا يوجد تفسير لهذه المهزلة الاقتصادية إلا إن الماسكين بالسلطة في بغداد لا يمثلون المصالح الاقتصادية العراقية، قدر تمثيلهم المصالح الاقتصادية الإيرانية.
وعلى هذا فإن الاختيار الخاطئ الذي من المرجح أن تقوم به السلطة السياسية العراقية، والقيام بالتخلي عن الأمريكان والانحياز لإيران، سيجعلهم يورطون العراق بمأزق اقتصادي حقيقي، وحينها لن تنفع العراقيين جميع ثرواتهم التي يمتلكونها، بل من المرجح استعمال الإدارة الأمريكية تلك الملفات الاقتصادية وغيرها من الملفات في الضغط على العراق لحثه على اختيار جانبها، هذا ما أقدم عليه ترامب حينما هدد كل الدول التي تتلقى مساعدات أمريكية وتصوت بالضد من قراراته في الأمم المتحدة، وليس مستبعدًا أن تستعمل ذات التهديد ضد العراق بحال آثر الابتعاد عن الأمريكان والانحياز للنظام الإيراني.