على بُعد 30 كيلومترًا شمال العاصمة السورية دمشق، يقبع سجن صيدنايا، ممتدًّا على مساحة شاسعة تبلغ حوالي 1.4 كيلومتر مربع، وبشكله المثلث ضمّ الآلاف من المعتقلين السوريين في عهد الأسد الأب والابن.
منذ دخول قوات إدارة العمليات العسكرية (الحاكمة الآن بعد سقوط نظام بشار الأسد) إلى السجن وتحرير المعتقلين، توجهت آلاف العائلات السورية صوب السجن بحثًا عن أبنائهم وذويهم بين الغرف الضيقة المظلمة والمهاجع التي تلخّص تاريخ المظالم في سوريا.. وخلال ساعات صار السجن حديث وسائل الإعلام العالمية، وفجع الناس في كل مكان بالشهادات التي قدمها الناجون، وظروف السجن المروعة التي كشفتها الصور.
المسلخ البشري
لم يعد هناك داعٍ لتشبيه أي مكان تحدث فيه عمليات التعذيب والمجازر بـ”الباستيل” الفرنسي أو “محاكم التفتيش” الإسبانية، بل صار يكفي أن نذكر صيدنايا، والتي كشفت المشاهد المصورة منه سرّ سمعته المرعبة والوسائل السادية التي استعملها السجانون لتعذيب المسجونين داخله، فقد أظهرت اللقطات المصورة مشاهد مرعبة لتكدُّس المساجين عراة فوق بعضهم في المهاجع المغلقة بالحديد، وسط ظروف صحية مروعة.
ويتكون السجن المؤسَّس منذ ثمانينيات القرن الماضي من بناءين رئيسيين: البناء الأبيض الذي يمثل البناء الجديد، وهو مخصص للسجناء العسكريين ومدنيين عاديين، والبناء الأحمر في الطوابق السفلية المخصص للإسلاميين، ويُعرف بالبناء القديم، وهو شديد التشعب والتحصين، لدرجة أن فتحه استغرق ساعات، والمبنيان يمكن أن يستوعبا فيما بينهما قرابة 20 ألف سجين، قبل أن يضاف إليهما ملاحق ومبانٍ أخرى تستوعب مئات آخرين.
ويتميز سجن صيدنايا بتصميم فريد يجعله أحد أشد السجون العسكرية تحصينًا، ويتكون من 3 مبانٍ كبيرة تلتقي في نقطة يطلق عليها “المسدس”، ونقطة المسدس هي منطقة تلاقي المباني الثلاثة، وهي النقطة الأكثر تحصينًا في السجن، حيث توجد فيها الغرف الأرضية والسجون الانفرادية.
وكل مبنى فيه 3 طوابق لكل منها جناحان، ويحتوي الجناح الواحد على 20 مهجعًا جماعيًا بقياس 8 أمتار طولًا و6 أمتار عرضًا، تتراصّ في صفّ واحد بعيدة عن النوافذ.
وقد ظل هذا السجن “ثقبًا أسود”، حتى بدأت تقارير لرابطة أهالي المعتقلين داخله نشر سلسلة تقارير، وفق شهادات مختلفة، تفضح بالتفاصيل الدقيقة ما يجرى خارج أسواره وداخلها.
فحسب تحقيق حقوقي بُني على 31 مقابلة مع أشخاص عملوا داخل سجن صيدنايا، وضباط منشقين عن النظام السوري كانوا على أسواره ضمن القوات المسؤولة عن حمايته، إضافة إلى معتقلين سابقين اُعتقلوا في أوقات متفرقة.
كشفوا في أجزائه الأولى أن الحراسة الخارجية التي تحيط بسجن صيدنايا، بها حقلا ألغام، بخلاف الحراسة الداخلية التي تنتشر بين الأسوار الخارجية والداخلية وبوابات الأبنية.
وتحدث التحقيق عن 3 مستويات من الحراسة للسجن، الأول يتعلق بحمايته من الخارج ضد أي تهديد خارجي أو عملية فرار للسجناء، بينما الثاني فيرتبط بمساندة المستوى الأول.
في حين تم تخصيص المستوى الثالث لحماية أبنية السجن الداخلية، ومراقبة تحركات السجناء وتأمين وجودهم وانضباطهم داخل الأجنحة والمنفردات، وقد تختلف طبيعة الحماية في كل مستوى وفقًا للجهة العسكرية المسؤولة عنها.
ومن مظاهر المعاناة التي يعيشها سجناء سجن صيدنايا، أنه من الممكن منع الماء والطعام عنهم لفترات تصل إلى عدة أيام، حتى إنهم يضطرون إلى شرب بولهم، إضافة إلى الضرب بالخراطيم أو أنابيب التمديدات الصحية أو الهراوات وغيرها من الأدوات على نحو مستمر.
يستخدم السجانون ما يعرف بـ”بساط الريح” أو “السجادة الطائرة” للتعذيب، وهو أداة تتضمن لوحًا قابلًا للطيّ يُربط عليها السجين ويُوَجّه وجهه إلى الأعلى، ثم يُحرّك كل جزء من اللوح باتجاه الآخر.
فيما كشف تقرير العفو الدولية الصادر عام 2017، والذي جاء بعنوان “المسلخ البشري“، عن عمليات الإعدام الجماعي في السجن وصلت إلى إعدام 13 ألف شخص شنقًا غالبيتهم من المعارضين المدنيين، ما أثار ردود فعل دولية غاضبة آنذاك.
شهادات مرعبة
انتشرت مقاطع كثيرة تظهر خروج الكثير من النساء مع أطفالهن وبعضهم لا يتجاوز عمره السنتين، إضافة إلى مقاطع انتشرت تظهر إخراج معتقل وهو فاقد للذاكرة إثر التعذيب المتواصل، إضافة إلى مسنين ومدنيين من جنسيات أخرى.
وحسب الشهادات المتعددة، فإن المساجين يُحرمون من الرعاية الصحية أو تناول الأدوية، ويهدد العسكريون النساء بالاغتصاب أمام أقاربهن إذا لم يعترفن بما نُسب إليهن، كما سُجّلت حالات اغتصاب وتحرش جنسي للرجال والنساء، إضافة إلى إجبار المساجين على الاختيار بين موتهم أو قتل أحد أقربائهم أو معارفهم، ثم وضعهم في غرف الملح.
وجاء في الشهادات أن غرف الملح هي غرف لحفظ جثث الضحايا ريثما يتم نقلها إلى مستشفى تشرين العسكري، وقد بدأت هذه المنهجية بعد ازدياد الأوضاع الأمنية سوءًا في العاصمة دمشق وانقطاع التيار الكهربائي عن السجن أو قطع الطريق تجاهه، والذي يعرقل تأخُّر نقل الجثث إلى المشافي، وبالتالي الخوف من تفسخ الجثث وخروج الروائح في مبنى السجن.
وغرف الملح هذه هي غرف تُغمر أرضيتها بالملح بارتفاع نحو 20 إلى 30 سنتيمترًا، توضع فيها جثث المعتقلين الذين قضوا نتيجة التعذيب أو التجويع بهدف تأخير عملية التحلُّل.
شائعة مكبس للإعدامات
وتداولت وسائل إعلام أنباء عمّا قيل إنه “مكبس للإعدامات” بعدما وجد أول الصحفيين الذين دخلوا سجن صيدنايا بعد تحرير معتقلين، ما قيل إنه آلة ضغط هيدروليكية فيه معيار ضغط كبير يصل إلى 400 طن، حيث زعموا أنه يوضع به السجين ويتم كبس جسده وسحقه ونزول الدماء في مصارف سفلية، ثم جمع ما تبقى من جثمان المعتقل والتخلص منها.
لكن هذه المزاعم فندها رئيس رابطة معتقلي سجن صيدنايا، دياب سرية، في حديث على فيسبوك، وقال إنها أكاذيب رددتها مختلف وسائل الإعلام بلا تحقق.
وأوضح أن هذا المكبس هو مكبس الـخشب MDF موجود منذ استعصاء عام 2008، حيث كانت توجد في السجن ورشة نجارة، وأنه ليس لتعذيب المعتقلين أو طحن جثثهم.
وشدد على أن “الفظاعات التي جرت في سجن صيدنايا كافية، ولسنا بحاجة لفبركة أي شيء جديد”، مشيرًا إلى “سجن صيدنايا مسرح جريمة ضد الإنسانية يجري تدميره بمثل هذه الأخبار المضللة”، داعيًا إلى التعامل بحذر مع هذه التقارير والامتناع عن تداول معلومات مضلّلة أو مبالغ فيها.
دلائل على قتل المختفين قسرًا
يقول فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، إن “صور أولئك الذين يغادرون مراكز احتجاز الأسد مروعة للغاية، وتشير إلى أنهم تعرضوا لأبشع أساليب التعذيب التي تحدثنا عنها سابقًا، إذ لا يوجد طعام كافٍ، ولا تهوية، ولا نظافة، ولا رعاية صحية، ولهذه الأسباب يموت معظم المعتقلين تعسفيًا أو المختفين قسرًا تحت التعذيب”.
مضيفًا لـ”نون بوست” أن التعذيب لا يعني الضرب فقط، بل يعني أيضًا إهمال الرعاية الصحية والطبية، ما يؤدي إلى المرض، والتعذيب بسبب المرض ثم الموت.
ويشير عبد الغني إلى أن الأدلة لدينا أنه منذ عام 2018 عندما نشر نظام الأسد شهادات وفاة للمختفين قسرًا من خلال السجلّ المدني، وقمنا بتحليل هذه البيانات، تأكدنا من أن النظام يقتل المختفين قسرًا، وقد تعززت هذه الصورة في عام 2022 عندما حصلنا على شهادات وفاة من داخل حكومة الأسد لمختفين قسرًا، وكانوا جميعًا متوفين.
أنا آسف..
رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني ينهار على الهواء لحظة الإعلان عن وفاة المعتقلين#سقوط_الأسد #تحرير_سوريا #تلفزيون_سوريا #نيوميديا_سوريا pic.twitter.com/8a30l1hpJ4— تلفزيون سوريا (@syr_television) December 10, 2024
وكان الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) قد أعلن أول أمس عملية انتهاء البحث عن معتقلين محتملين داخل سجن صيدنايا، مشيرًا إلى أنه “لم يُعثر على أي زنازين أو سراديب سرية غير مكتشفة، ما يعني أن مصير عشرات الآلاف منهم لا يزال مجهولًا، وسط اعتقاد بأن بعضهم قد لقوا حتفهم في هذا المكان الرهيب”.
يؤكد عبد الغني في ختام حديثه أن الوقت حان لنكون صادقين مع الشعب السوري، فبعد أن فُتحت السجون ومراكز الاعتقال ومنها صيدنايا، ولم نجد المختفين قسرًا، فإن ذلك يعني أن غالبية المختفين قُتلوا، بنسبة تصل إلى 85-90%. لدينا 100 ألف معتقل، أي نحو 85 إلى 90 ألفًا منهم قتلوا تحت التعذيب، وبهذا يرتفع عدد القتلى المدنيين في سوريا إلى نحو 300 ألف.
ختامًا، فإنه وفي الوقت الذي جرى شمل الكثير من الأسر السورية، يبقى العدد الأكبر متجرعًا غصة فقدان ذويهم، رغم إيمان الكثير منهم بالحقيقة المرّة، لا سيما بعد فتح أغلب السجون وعدم العثور على المختفين، لكن الأمل يبقى حاضرًا إلى حين الوصول إلى خاتمة لهذا المحنة المأساوية.