“السجن تهذيب وإصلاح”، تتصدر هذه العبارة المكتوبة على لافتات كبيرة مداخل الكثير من السجون في مصر، إلا أن التقارير الحقوقية والتحقيقات الصحفية الصادرة مؤخرًا تؤكد أنها تحولت إلى “مفرخة” للإرهابيين والمتطرفين ومكانًا لتجنيد الشباب لصالح التنظيمات المسلحة التي تستغل الظروف المتدهورة للسجون المصرية، فتسارع إلى تلبية رغبة السجناء -بعد تعرضهم للتعذيب وسوء المعاملة- في الحماية والانتقام.
صناعة التطرف داخل السجون المصرية
في الوقت الذي عانى فيه تنظيم الدولة من الهزيمة في جيبه الأخير ببلدة الباغوز في مارس/آذار الماضي، أعلن البيت الأبيض النصر على “الخلافة” المعلنة، لكن منظمات حقوق الإنسان والناشطين يحذرون، وبعيدًا عن الخطوط الأمامية، من تزايد عمليات التجنيد للتنظيم والجماعات المتطرفة الأخرى في السجون المصرية، حيث أدت ظروف السجناء المروعة إلى تسريع عملية التجنيد.
وثَق التقرير أن الفصل بين عامة السجناء وأعضاء تنظيم ولاية سيناء لم تنفذه وزارة الداخلية المصرية بشكل حقيقي إلا بدءًا من عام 2018
آخر هذه الصيحات التحذيرية تلك التي أطلقها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، حيث أصدر ترجمة عربية لتقرير صادر عن منظمة “هيومن رايتس فيرست” في فبراير/شباط الماضي، عن التحول للتطرف بين بعض السجناء ونجاح الجماعات الإرهابية في تجنيدهم منذ أن استولى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على السلطة، في يوليو/تموز من عام 2013.
التقرير الذي يحمل اسم “كالنار في الهشيم: نمو التطرف العنيف داخل السجون المصرية” اعتمد على شهادات لبعض المحتجزين والمفرج عنهم، إضافة إلى عدد من المحامين ذوي الصلة الذين تحدثوا عن سوء ظروف الاحتجاز في مساعدة التنظيمات الإرهابية في تحقيق أهدافها.
يوثق التقرير الوضع في السجون المصرية التي باتت بيئة خصبة للأفكار المتطرفة ومركزًا لتجنيد الشباب للجماعات الإرهابية وعلى رأسها ما يُسمى بتنظيم ولاية سيناء، وكيف أن ضحايا حرب الحكومة المصرية على “الإرهاب” يتحولون لمقاتلين لدى الجماعات المتطرفة داخل السجون.
وبحسب التقرير، يسيطر تنظيم “داعش” اليوم بشكل فعال على العديد من السجون المصرية، وتنتشر مبادئه في السجون كالنار في الهشيم، حسبما صرح سجين سابق لـ”هيومان رايتس فيرست”، بينما أكد سجين سابق أخر، أنه بنهاية فترة حبسه “كان التطرف قد انتشر بسرعة كبيرة، فمن زنزانة تضم 200 شخصًا، تطرف 100 على الأقل، هذا فقط في مكان واحد حيث كنت محتجزًا”.
واستدل التقرير بحالة لأحد معتقلي سيناء، قُتلت أسرته ودُمر منزله في تفجير عسكري، وشاب آخر ابن ضابط بالجيش، تم اعتقاله وتعذيبه لمجرد وجوده صدفة في المكان الخاطئ، وقد طور كلاهما داخل السجن علاقاته مع أعضاء بتنظيم “الدولة”، انتهت بقيامهما بالهجوم الذي تبناه التنظيم عام 2016 على إحدى الكنائس بالقاهرة.
وبحسب التقرير، فإن السجون المصرية باتت منذ عام 2014 بؤرة لصناعة المتطرفين بسبب ظروف الاحتجاز القاسية، وتعرض بعض السجناء للتعذيب، وهو ما يرمي بهم في أحضان الجماعات المتطرفة، أملاً في التمتع بالحماية التي يكفلها سجناء هذه التنظيمات لبعضهم أو طمعًا في الانتقام.
كما وثَق التقرير أن الفصل بين عامة السجناء وأعضاء تنظيم ولاية وسيناء لم تنفذه وزارة الداخلية المصرية بشكل حقيقي إلا بدءًا من عام 2018، كما أكد التقرير أن السماح بدخول الكتب إلى السجون كان له أثر إيجابي في مقاومة الأفكار المتطرفة.
ورغم أن السلطات المصرية أنكرت وتجاهلت لسنوات أي اعتراف رسمي بحدوث أي عمليات تجنيد داخل السجون، فإن النائب العام أعلن في ديسمبر الماضي اتهام سجين بالترويج والدعوة للانضمام لتنظيم ولاية سيناء في أثناء فترة احتجازهما داخل السجن.
تجنيد الشباب تحت سمع وبصر السلطات المصرية
يأتي هذا التحقيق ليدق ناقوس الخطر من جديد نحو هذه القضية، الذي تناولتها سابقًا تغطيات حقوقية وصحفية دون أي استجابة رسمية، ففي أبريل/نيسان 2016، نشرت صحيفة “الشروق” المصرية تحقيقًا تحت عنوان “هنا طرة.. مركز حكومي لتجنيد الدواعش”، رصدت فيه كيف تحول سجن استقبال طرة إلى بيئة خصبة ينمو بها تنظيم داعش بشكل خاص والأفكار المتطرفة بشكل عام.
الأحكام القاسية التي قد تصل إلى عشرات السنوات تجعل الشباب الذين يدخلون السجون لأول مرة عرضة للانكشاف والاختراق واستغلال لحظات ضعفهم وكرههم للسلطة
وكشفت الصحيفة من خلال شهادات بعض السجناء، وبعض ممن انتهت مدة حبسهم، قيام عناصر بالتنظيم داخل السجون بنشاط مكثف لاستقطاب الفئات العمرية الصغيرة من السجناء، ونجاح تلك العناصر بالفعل في الحصول على مبايعة عدد منهم في ظل سماح إدارة السجن لأعضاء التنظيم الاختلاط ببقية السجناء، مما يوقع بالكثير من الشباب الصغير فريسة بين أيديهم.
في تحقيق آخر نُشر على موقعي شبكة “أريج” للصحافة الاستقصائية و”مدى مصر” تحت عنوان “صُنع في السجن”، في ديسمبر الماضي، وثق الصحفي محمود الواقع كيف صارت بيئة خصبة للأفكار المتطرفة ومركزًا لتجنيد الشباب للجماعات الإرهابية تحت سمع وبصر السلطات المصرية.
ويتناول التحقيق هذه التحولات في السجون المصرية من خلال توثيق حالات لسجناء تحولوا للتطرف أو بايعوا تنظيم الدولة داخل السجون في ظل تجاهل رسمي، وعلى رأس هؤلاء كان محمود شفيق الذي قام بعملية تفجير الكنيسة البطرسية في ديسمبر من عام 2016، وأسفرت عن مقتل 31 شخصًا.
حينها خرج الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال جنازة ضحايا التفجير، معلنًا أن “اللي عمل كدا شاب دخل الكنيسة اسمه محمود شفيق محمد مصطفى، وفجر نفسه داخل الكنيسة، وعنده 22 سنة”، وفي عام 2017، ظهر محمود شفيق في إصدار ولاية سيناء، متوعدًا بما سماه “تحرير القاهرة”.
كان محمود (22 عامًا) ابن محافظة الفيوم، أحد من أُلقي القبض عليهم في سياق مظاهرات الاحتجاج على الانقلاب على الرئيس السابق محمد مرسي، لتتلقفه داخل السجن التعاليم المتشددة من بعض من شاركوه محبسه بعد اختلاطه بهم في سجن الفيوم العمومي، وبعد إخلاء سبيله على ذمة القضية رفض استكمال المحاكمة، وترك أسرته لينضم إلى تنظيم ولاية سيناء بعد الحكم عليه غيابيًا بالسجن عامين، بحسب ما قالت شبكة أريج إنه جاء في أوراق القضية.
ونقل التحقيق عن اللواء محمد نجيب مساعد وزير الداخلية السابق تأكيده أن محمود شفيق وغيره ممن انضموا للتنظيمات المتطرفة داخل السجون لا يمثلون إلا حالات فردية، لكن الخبير في شؤون الحركات الإسلامية كمال حبيب لا يتفق مع هذا الرأي، ويقول في تصريحات متلفزة إن المعلومات المتوافرة حاليًّا عما يجري داخل السجون تشير إلى محاولة التنظيم الدعوة لأفكاره وتجنيد الشباب عبر معركة تعتمد على الجانب الحشدي والتعبوي والإعلامي.
ونقل التحقيق آراء خبراء عن تجارب سابقة في مصر في أثناء موجة الإرهاب في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، وأن الحلول بعضها تقني يبدأ بفصل المساجين حسب ما ينص القانون، وإنشاء مراكز تأهيل داخل السجون، وبعضها سياسي يتعلق بأوضاع السجون أو أسباب دخول المساجين لها أصلاً.
يأتي ذلك في وقت تضع القاهرة “خطة” للترويج لـ”جهودها” في مجال حقوق الإنسان، لكن على عكس المأمول أخذت التحذيرات والمخاوف من انتشار هذه الظاهرة في السجون بعدًا أمميًا ودوليًا في السنوات الأخيرة، وبدا ذلك في حديث المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة زين بن رعد الحسين عن الهحمات الإرهابية في مصر التي استهدفت تفجير كنيستين مصريتين في مدينتي طنطا والإسكندرية، حيث أكد أن حالة الطوارئ والتعذيب والاعتقالات العشوائية تزيد من زيادة التطرف داخل السجون.
قال وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري، في أثناء زيارةٍ إلى القاهرة في أغسطس/آب من عام 2015، للصحفيين، إنَّه تحدَّث إلى المسؤولين المصريين عن مخاوفه بشأن التطرف الذي يمكن أن يُزرع في السجناء، عن طريق احتجازهم مع بعضهم بعضًا.
كما انتقد الأمير الأردني الحملة ضد منظمات المجتمع المدني، معتبرًا أن كل هذه التصرفات ليست وسيلة لمحاربة الإرهاب، وهو ما حدا بالسلطات المصرية إلى رفض تصريحات بن رعد، وحذر مندوب مصر لدى الأمم المتحدة عمرو رمضان حذر من تحوّل المسؤول الأممي إلى “بوق لمنظمات مدفوعة بمصالح سياسية ومادية”.
وجاءت تصريحات الأمير زين في سياق تصاعد الاهتمام الغربي بظاهرة التطرف داخل السجون، واتضح ذلك بعد انضمام الكثير من العناصر إلى تنظيم الدولة داخل سجن بوكا العراقين الذي أضحى بمثابة جامعة تخرّج فيها الكثير من قادة تنظيم الدولة وغيرهم من المسلحين المتشددينن وأتاح لهم فرصة لا تعوض لتبني الأيديولوجيات المتشددة وتعلم المهارات التخريبية ونشرها فضلًا عن تطوير علاقات وشبكات مهمة من المعارف، وكل ذلك في أمان تام تحت مرأى ومسمع من أعدائهم.
أمَّا دوليًا، فلم يكن المسؤولين الأمريكيين غافلين عن تلك المشكلة؛ إذ قال وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري، في أثناء زيارةٍ إلى القاهرة في أغسطس/آب من عام 2015، للصحفيين، إنَّه تحدَّث إلى المسؤولين المصريين عن مخاوفه بشأن التطرف الذي يمكن أن يُزرع في السجناء، عن طريق احتجازهم مع بعضهم بعضًا.
أكثر الجماعات عنفًا وتطرفًا وُلدت في السجون.. لماذا في مصر؟
تشكل السجون تربة خصبة تتكون عليها تنظيمات إرهابية مهيكلة، تستطيع استقطاب عناصر جديدة لم تكن لها علاقة بأي تنظيم من قبل، وتتمتع مصر في هذا الشأن بتاريخ طويل في مجال ظهور وازدهار حركات جهادية خلف القضبان، فقد كان زعيم تنظيم القاعدة الحاليّ أيمن الظواهري من بين الذين أصبحوا متشددين في السجن.
وبحسب محمد نصر كروم، أحد قيادات الجماعة الإسلامية بمصر، خلال كلمته بالمؤتمر الذي نظمته مؤسسة “مؤمنون بلا حدود” يومي 6 و7 من أبريل/ نيسان 2018 بمراكش، وُلدت خلف السجون أكثر الجماعات عنفًا وتطرفًا، ويضرب مثالاً يؤيد به أطروحته، بأن “فكرة التكفير وُلدت داخل السجن، كما حصل مع جماعة الدعوة والهجرة أو جماعة التكفير والهجرة كما سماها الإعلام أو جماعة المسلمين كما سمت نفسها في الستينيات، فأفراد هذه الأخيرة اعتقلوا، لكن داخل السجن ونظرًا للتعذيب أفتوا بكفر الضباط والأمنيين والدولة، فتولدت الجماعة جراء تلك الظروف”.
كوادر تنظيم “داعش” عزَّزوا استمالة السجناء الآخرين عن طريق توفير بعض الخدمات لهم مثل طعام أفضل واستخدام الهواتف المحمولة المُهرَّبة، فضلاً عن توفير حمايةً أفضل بكثير ضد الحراس والسجناء الآخرين
لا تختلف هذه الظروف كثيرًا عن الوقت الراهن، حيث يأتي ما يُكشف عنه في سياق سوء ظروف مقرات الاحتجاز المصرية وتكدسها، فقد ارتفعت أعداد المقبوض عليهم منذ يوليو 2013 عقب عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، واعترفت الحكومة المصرية عام 2015 بأن السجون تجاوزت قدرتها الاستيعابية نسبة 160%، كما يؤكد تقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان أن أعداد المساجين في الفترة بين 2013 و2017 فاقت طاقة السجون الاستيعابية بنحو مرة ونصف، وأن اكتظاظ مراكز الاحتجاز الأخرى مثل مراكز الشرطة بلغ 200% من طاقتها الاستيعابية.
وفي عهد السيسي، اعتقلت السلطات المصرية واحتجزت الآلاف من المصريين لأسباب زائفة، ما بين معارضين سلميين، وسجناء سياسيين، وسجناء غير سياسيين بالمرة، ويتعرض هؤلاء جميعًا في السجون -بشكل روتيني- للتعذيب وغيره من أشكال المعاملة الوحشية، على النحو الذي يصفه أحدث تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية حول حقوق الإنسان في مصر أنه “ظروف سجن قاسية أو تلك التي قد تهدد الحياة”.
أدَى ذلك إلى الاختلاط بالعناصر الجهادية، حيث يخالف الاختلاط بين المساجين والعناصر الجهادية لائحة السجون المصرية التي تقضي بضرورة تصنيف النزلاء، لكن في بعض السجون يتم توزيع المعتقلين وفقًا للتصنيف العشوائي الذي يقوم به الأمن الوطني بغض النظر عن انتماءات المعتقلين، ما يجعل كثيرًا من الشباب غير المنتمين بالفعل للتنظيمات المتشددة، في حضن هذه القيادات لفترات تمتد لشهور وربما سنوات، كما يقول المحامي والحقوقي المهتم بقضايا المعتقلين أسامة عاصي في تصريحات صحفية.
يُضاف غلى ذلك من دوافع ما ذكره موق“Lobe Log” في تقرير مفصل عن السجون المصرية، ونقل الموقع الأمريكي عن أحد المحامين الذي تحدث إلى براين دولي، الذي يعمل مستشارًا أول في منظمة “هيومان رايتس فيرست”، أن كوادر تنظيم “داعش” عزَّزوا استمالة السجناء الآخرين عن طريق توفير بعض الخدمات لهم مثل طعام أفضل واستخدام الهواتف المحمولة المُهرَّبة، فضلاً عن توفير حمايةً أفضل من اعتداءات الحراس والسجناء الآخرين.
كما أن الأحكام القاسية التي قد تصل إلى عشرات السنوات تجعل الشباب الذين يدخلون السجون لأول مرة عرضة للانكشاف والاختراق واستغلال لحظات ضعفهم وكرههم للسلطة التي وضعتهم في هذا المكان لاعتبارات خاصة لأول مرة.
من هذا المنطلق، يستغل تنظيم “داعش” معاناة السجناء، وأحاسيس الذل والغضب جراء سوء المعاملة، مغذيًا لديهم الرغبة في الانتقام من السلطات المصرية، ففي ظل زيادة عدد سجناء التنظيم، تزداد سطوتهم وقوتهم داخل نظام السجون، وابتزازهم للحراس، وفي بعض الحالات يسيطرون فعليًا على أجزاء من السجن.
وفي حين يجيد أعضاء التنظيم داخل السجون التلاعب بالنصوص سواء الأحاديث أو القرآن، فى وقت تضعف فيه الثقافة الدينية لدى معظم الشباب الصغير، تمنع إدارة السجون دخول أي من المشايخ وعلماء الدين الوسطيين للرد على ما يروجه أعضاء التنظيم بين السجناء بحسب ما نقلت صحيفة الشروق عن سجين رفض كشف هويته، يأتي ذلك على الرغم من أن لائحة السجون تنص على وجوب وجود وعاظ من الأزهر بصفة مستمرة، وأهمية تنظيم حلقات للعلم والفتاوى في السجون، في إطار خطة التهذيب والإصلاح.
ويختلف الوضع بعض الشيء في سجن العقرب “سيء السمعة”، حيث تساهم ظروف الاحتجاز من طول مدة الحبس الاحتياطي والمنع من الزيارة والتريض والبقاء بين أربعة جدران لشهور في زيادة الغضب ضد السلطة، وهو ما يجعل الشاب أداة طيعة في أيدي عناصر التنظيم الذين يوافقونه نفس الشعور.