ترجمة وتحرير: نون بوست
منذ عقود، كان بناء مسيرة مهنية في أحد المجالات العلمية داخل الأراضي الفلسطينية أمرًا محفوفًا بالمخاطر، قبل أن تتفاقم المحنة بعد هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، واندلاع الحرب المستمرة في القطاع منذ أكثر من عام.
خلال حملات القصف الجوي وعمليات الاجتياح البري الإسرائيلي بهدف القضاء على حماس، دُمرت المدارس واضطر الطلاب إلى مواصلة دراستهم عن بُعد، أو توقفوا عنها تمامًا، وعمل الأطباء في ظروف شديدة السوء، وشعر الفلسطينيون خارج القطاع بالآثار السلبية للحرب.
وقد تحدثت صحيفة نيويورك تايمز إلى أربعة فلسطينيين في غزة والضفة الغربية والخارج عن تأثير الصراع على بحوثهم العلمية وعملهم في المجال الطبي.
وفاء خاطر (49 عامًا)
نشأت وفاء خاطر في الضفة الغربية، وهي منطقة تقع غرب نهر الأردن تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، وانتقلت إلى النرويج للحصول على درجة الدكتوراه في الفيزياء من جامعة بيرغن.
أتيحت لها الفرصة للبقاء في النرويج بشكل دائم، لكنها عادت إلى الضفة الغربية للتدريس في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتتذكر قائلة: “قال لي جميع زملائي النرويجيين في ذلك الوقت: “هل أنتِ مجنونة؟ لكنني قلت لهم: “إنه وطني، وهذا واجبي”.
تعمل الدكتورة خاطر حاليًا كأستاذة في جامعة بيرزيت، وهي من أوائل الفلسطينيين الذين عملوا في دراسة طبيعة وسلوك الجسيمات دون الذرية، وتقول: “لم يتخيل الكثيرون أن هناك نشاطا علميا في فلسطين”، وأضافت أن عدم وجود ظروف ملائمة للبحث العلمي في الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل يحد من فرصها في تطوير مشوارها المهني، لذلك سعت إلى بناء شبكة علاقات مع الباحثين في الخارج، ودعت زملاء أوروبيين لإلقاء محاضرات في جامعات الضفة الغربية، وساعدت طلاب الفيزياء الفلسطينيين على حضور دورات بحثية صيفية في الخارج.
وقالت إن البحوث النظرية يمكن أن تزدهر في الضفة الغربية، لكن “الفيزياء التجريبية تكاد تكون معدومة”. وأوضحت أن الجامعات تكافح من أجل دفع تكاليف معدات المختبرات والبنية التحتية، وتعتمد على التبرعات.
من بين تلك المختبرات، مرصد بيرزيت الذي افتُتح في 2015، وهو أحد المرافق الفلكية القليلة في الضفة الغربية، وقد تبرع به رامز حكيم، وهو رجل أعمال أمريكي من أصل فلسطيني. وقالت الدكتورة خاطر: “كانت تلك المرة الأولى التي يتمكن فيها طلابنا من رؤية التلسكوب والنظر إلى السماء”.
وحتى عندما يتم تأمين التمويل، قد يكون من الصعب استيراد الأجهزة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، لأن بعض المعدات الضرورية للأبحاث يمكن أن تُستخدم أيضاً لأغراض عسكرية، وتصنفها إسرائيل على أنها “مزدوجة الاستخدام” وتتطلب تصريحًا خاصًا للمدنيين في الأراضي الفلسطينية لشرائها.
بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، بدأت الدكتورة خاطر وغيرها من أعضاء هيئة التدريس في جامعتها بالتدريس عن بعد، وقالت إن زيادة نقاط التفتيش في الضفة الغربية، نتيجة لتكثيف الوجود العسكري الإسرائيلي بعد هجوم حماس، جعلت التدريس في الجامعة أمرًا صعبًا على الطلاب والأساتذة.
وقد تم استئناف التدريس حضوريا بشكل محدود في الربيع الماضي، ولكن بعد فترة وجيزة من الهجوم الصاروخي الذي شنته إيران على إسرائيل في أكتوبر/ تشرين الأول، والذي تسبب في سقوط شظايا على الضفة الغربية، أعلنت جامعة بيرزيت عن العودة إلى التدريس وممارسة المهام الإدارية عن بعد حفاظًا على السلامة.
وقد أمضت الدكتورة خاطر الصيف في تدريس مادة الفيزياء عبر الإنترنت للطلاب في قطاع غزة، وقالت إن تسعة عشر طالبًا سجلوا في الدورة، لكن أكثر من نصفهم لم يكملوا الدراسة بسبب عدم توفر الكهرباء أو الإنترنت بشكل مستقر.
وقالت الدكتورة خاطر: “أنا لا أنتمي إلى أي حزب سياسي في فلسطين، ولكن الوضع يؤثر علينا في كل نواحي حياتنا”، لذا فإنها تشعر أن من واجبها تدريس الجيل القادم من العلماء الفلسطينيين الذين يفتقرون إلى القدرة على التواصل مع العالم الخارجي، وأضافت: “نريد أن نمارس العلوم تماما مثل الآخرين”.
أسيد السر (32 عامًا)
في عام 1948، انتقلت عائلة الدكتور أسيد السر إلى غزة من قرية حمامة، وهي قرية تقع على أرض أصبحت الآن جزءًا من إسرائيل، ويعمل الدكتور السر طبيبًا مقيمًا وباحثًا في مجال الجراحة العامة في تكساس، وقد أكمل دراسته بكلية الطب في غزة عام 2016، ودرس لفترة في جامعة أكسفورد، ثم انتقل إلى جامعة هارفارد عام 2019 لإجراء أبحاث حول جراحة الإصابات الطارئة.
وقال السر إن الدراسة في أوروبا والولايات المتحدة تختلف عما هي عليه في غزة، فالوصول غير المحدود للكهرباء والماء والإنترنت أمرٌ مفروغ منه في الخارج، كما أن السفر في معظمه غير مقيد، وأضاف: “كان ذلك صادمًا بالنسبة لي”.
اختار والدا الدكتور السر مقر إقامتهم في غزة بناءً على الأماكن التي تتوفر فيها خدمة الإنترنت، حتى يتمكن هو وإخوته من متابعة دراستهم. وبالنسبة للكهرباء، كان لديهم مولد كهربائي، وفي حال نفاد الغاز، كانوا يعتمدون على الألواح الشمسية والشموع والبطاريات.
وقال السر إن المجموعات البحثية الكبيرة نادرة في غزة، لأن محدودية الموارد تعيق القدرة على القيام بالبحث العلمي، فالتجارب تتطلب معدات معينة، كما أن مشاركة النتائج الناجحة تتطلب معرفة كيفية كتابة وتقديم ورقة بحثية، بالإضافة إلى الحصول على فرصة لعرض هذا العمل على علماء آخرين.
توفر الدراسة في الخارج المزيد من الفرص، وللقيام بذلك كان على الدكتور السر التقدم بطلب للحصول على تصاريح من حكومات إسرائيل ومصر والأردن وغزة، وقال إن العملية قد تستغرق شهوراً، وقد يستسلم الكثيرون، وأضاف: “يمكنك أن ترى الكثير من اليأس في غزة”.
تطلب الأمر ثلاث محاولات ليتم قبوله في جامعة أكسفورد؛ حيث تقدم لما يقرب من 20 منحة دراسية وفاز بواحدة. أما في هارفارد، فقد استمر في التقديم حتى تم قبوله، وقال إن هذا الإصرار هو شيء تعلمه من العيش في غزة.
كان الدكتور السر في تكساس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، لكن عائلته كانت في غزة؛ حيث تعيش بالقرب من مستشفى الشفاء. قصفت إسرائيل مستشفى الشفاء العام الماضي، مؤكدة أن المجمع كان يستخدم كمركز قيادة سري لحماس، وفي ظل عدم وجود كهرباء مستقرة في غزة، لم يتمكن الدكتور السر من التواصل مع والدته أو إخوته لساعات. وقال الدكتور السر: “كنت خائفًا للغاية، وشعرت حقًا أنني سأفقد عائلتي”.
وأضاف أن عائلته انتقلت منذ ذلك الحين إلى الجنوب، ودُمرت منازلهم في غزة، بينما واصل هو تدريبه الطبي في تكساس.
وقال الدكتور السر: “إنه أمر صعب بالتأكيد، لكن في بعض الأحيان يجب أن أشغل نفسي. إن مجرد الاستماع إلى ما يحدث أمر مؤلم، إنه أمر مروّع للغاية”.
ضحى البرغوثي (25 عامًا)
درست الدكتورة ضحى البرغوثي، وهي طبيبة ممارسة في الضفة الغربية، الطب لمدة ست سنوات في جامعة القدس، وأنهت سنة الدراسات العليا في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، قبل أسبوع واحد من اندلاع الحرب.
كان مستشفى المقاصد في القدس، الذي تدربت فيه الدكتورة البرغوثي، يبعد بضع دقائق فقط عن منزلها سيرًا على الأقدام، ولكن حتى قبل الحرب، كان عليها أن تغادر قبل ساعات من موعد عملها لتجتاز نقاط التفتيش المطلوبة لتصل في الوقت المحدد. وبعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، داهم الجنود الإسرائيليون مستشفى المقاصد واعتقلوا المرضى الغزاويين وأقاربهم. وقالت الدكتور البرغوثي: “ليس لدينا أدنى فكرة عما حدث لهم، إنه أمر صادم وقاسٍ للغاية”.
وقالت الشرطة الإسرائيلية في بيان لها على وسائل التواصل الاجتماعي إنها اعتقلت مجموعة من سكان غزة بتهمة “الاختباء والنوم” في مستشفى المقاصد دون دخول المستشفى، وأضافت أن إحدى المعتقلات هي “شقيقة ناشط في الذراع العسكري لمنظمة حماس الإرهابية”.
في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، تم اعتقال والد الدكتورة البرغوثي، عماد البرغوثي، عالم الفيزياء الفلكية بجامعة القدس، وتم وضعه رهن الاعتقال الإداري للمرة الرابعة، وهو إجراء يستخدم لاعتقال الفلسطينيين دون توجيه تهم رسمية. بعد اعتقاله للمرة الأولى عام 2015، منعته السلطات الإسرائيلية من مغادرة الضفة الغربية، الأمر الذي قالت الدكتورة البرغوثي إنه حد من فرصه في التعاون العلمي.
تتذكر الدكتورة ضحى ليلة الاعتقال الأخير بوضوح، كانت الساعة الثالثة صباحًا؛ وكانت مستيقظة إلى وقت متأخر من الليل للدراسة، بينما كان بقية أفراد عائلتها نائمين، وجاءتها رسالة نصية من جارتها تنبهها بأن منزلهم محاط بالجنود والكلاب. تم تكبيل والد الدكتورة البرغوثي واقتياده بعيدًا.
وفي بيان لصحيفة نيويورك تايمز، قال الجيش الإسرائيلي إن اعتقال عماد البرغوثي تم بسبب شبهات “العضوية والنشاط في جمعية غير قانونية، والتحريض والانخراط في أنشطة تعرض الأمن القومي للخطر”.
وقد صرّح عالم الفيزياء الفلكية بأنه ليس منتميًا لحركة حماس أو مؤيدًا لها، أما القيادي الفلسطيني المعتقل مروان البرغوثي فهو من أقارب العائلة البعيدين. وتعتقد الدكتورة البرغوثي أن اعتقال والدها لا علاقة له بتلك التهم، وأضافت أن عائلتها لا تنتمي إلى أي أحزاب سياسية أو جماعات متشددة. وقالت: “هذا الاتهام يحز في قلبي”.
أُطلق سراح والدها بعد ستة أشهر من اعتقاله وهو في حالة صحية وصفتها الدكتورة البرغوثي بأنها “سيئة”، بما في ذلك فقدان الوزن الشديد، والاشتباه بوجود كسر في أضلاعه وتلف في أعصاب الأصابع.
وقالت: “لا أتمنى حدوث هذا لأعدائي أو لأي شخص آخر، والدي رجل عاطفي للغاية، ولكن يمكنك أن تعرف من عينيه أن شيئًا ما قد تغير”.
في أغسطس/ آب، تزوجت الدكتورة البرغوثي، وهو أمر كانت قد أجلته العام الماضي بسبب الحرب واعتقال والدها، وهي تبحث الآن عن وظيفة جديدة.
وقالت: “بصراحة، أفضل شيء أنني عاطلة عن العمل في هذا الوقت، لأنني أريد أن أبقى قريبة من عائلتي”.
رامي مرجان (50 عامًا)
وصف رامي مرجان، عالم الكيمياء العضوية بالجامعة الإسلامية في غزة، مسيرته المهنية بأنها طريق محفوف بالعقبات؛ حيث أمضى سنوات في محاولة إنشاء مجموعة بحثية مع وجود القليل من الأدوات العلمية والمواد الكيميائية التي يمكن من خلالها إجراء تجارب متطورة، وكتب في رسالة نصية إلى صحيفة نيويورك تايمز: “ليس لدينا بنية تحتية للأبحاث”.
يركز الدكتور مرجان على ابتكار مُركّبات جديدة ذات تطبيقات محتملة في الأدوية المضادة للبكتيريا والفطريات والسرطان، وهو يستخدم التوليف متعدد الخطوات، وهي تقنية تخضع فيها المركبات لسلسلة من التفاعلات الكيميائية لتحويلها إلى المنتج النهائي المطلوب، وتتطلب هذه العملية مذيبات وأدوات لتحديد التركيب الكيميائي للمركب في كل خطوة، ولكن إسرائيل تعتبر العديد من هذه المعدات مزدوجة الاستخدام، لذلك فإن الدكتور مرجان وزملاءه غير قادرين على القيام بتجاربهم في أفضل الظروف.
وقال: “نحن نفترض فقط أننا صنعنا المركبات اللازمة”، مضيفًا أنه بمجرد اكتمال العملية، يرسل فريقه المنتج إلى خارج غزة لتحديد ما إذا كانوا قد نجحوا في ذلك، وأضاف: “هذا كابوس حقيقي”، لأن الأمر يستغرق الكثير من الوقت والجهد.
تمكن الدكتور مرجان من نشر بعض أعماله في المجلات الأكاديمية، لكنه أكد أن نقص الموارد في غزة قد حدّ من إنتاجه البحثي مقارنة بزملائه في الخارج.
وقد حصل الدكتور مرجان على درجة الدكتوراه من جامعة مانشستر في عام 2004، ثم عاد إلى غزة. وقال: “أردت أن أنقل الخبرة والمعرفة إلى شعبي”. في العام الماضي، دمرت الغارات الجوية الإسرائيلية الجامعة الإسلامية في غزة؛ حيث ادعى الجيش الإسرائيلي أنها معسكر تدريب لحركة حماس، ومنذ ذلك الحين توقف الدكتور مرجان عن التدريس والأبحاث.
وقد أجبرته أعمال العنف على إخلاء منزله في مدينة غزة والانتقال إلى مدينة دير البلح، وهي مدينة تقع في الجزء الأوسط من قطاع غزة وتعرضت مؤخرًا للقصف بعد أن استهدف الجيش الإسرائيلي ما قال إنها “مراكز القيادة والسيطرة” التابعة لحماس.
واعترف الدكتور مرجان بأن قراره بالعودة إلى القطاع قد منعه من تحقيق أحلامه في مسيرته العلمية، لكنه قال إنه لم يندم على ذلك: “غزة هي أجمل مكان، وهي جزء صغير من وطني”.
المصدر: نيويورك تايمز