لم يكن يتوقع أحد أن السوريين الذين فرّوا إلى مصر من جحيم الحرب الدائرة في وطنهم منذ 2011 سيستطيعون في وقت قصير بناء إمبراطورية اقتصادية في بلد يعاني ما يقرب من ثلث شبابه من البطالة، فالأمر لم يقتصر على الاندماج داخل المجتمع الغريب عليهم فحسب، بل تجاوز إلى قيادة مجالات اقتصادية عدة، تفوقوا في بعضها على المصريين أنفسهم.
تعامل السوريون مع مصر على أنها وطنهم البديل بعدما فقد جزء كبير منهم الأمل في العودة في الوقت القريب، فنصبوا الخيام وأرسوا السفن، وبدأوا في ترسيخ أقدامهم عبر إقامة العديد من المشروعات التي تكفل لهم حياة كريمة بعيدًا عن طرق أبواب المساعدات سواء من المنظمات الأممية أو الحكومة المصرية.
سياسة النفس الطويل ودراسة الشخصية المصرية جيدًا كانت البوابة نحو تحقيق الشعبية الجارفة والنجاح المنقطع النظير للسوريين – مقارنة بالجنسيات الأخرى التي جاءت إلى مصر لذات الأسباب غير أنها خرجت سريعًا دون ترك بصمات لها، حتى وصل الأمر إلى منافسة المصريين في أفضل ما يتميزون به.. الأكلات الشعبية.
عُرف عن المصريين في رمضان ثراء مائدتهم بالعديد من أنواع الطعام الذي تحوّل في وقت من الأوقات إلى أحد مصادر الجذب السياحي لا سيما من العرب وعلى رأسهم الخليجيين، غير أنه من الواضح أن السوريين كان لهم رأي آخر، إذ نجحوا في غزو تلك المائدة بمأكولاتهم الشهيرة التي نافسوا بها الطعام المصري بقوة وهو ما لا يحتاج إلى جهد كبير للوقوف عليه، فجولة سريعة في شوارع القاهرة ومدينة السادس من أكتوبر تحمل الكثير من البراهين والأدلة.
رغم ثراء قائمة المطاعم السورية بالعديد من أنواع الأطعمة، فإن الشاورما والأرز البسمتي والروستو والتومية، تعد أكثر ما يقبل عليه المصريون
الشاورما تنافس المحشي
“أبو مازن السوري” و”بيت الحارة” و”ست الشام” و”الركن الدمشقي” و”روستو”.. أسماء مطاعم نجحت في وقت قصير جدًا في تحقيق شهرة واسعة داخل الشارع المصري، حيث استطاعت تقديم الوجبات السورية بصورة نالت إعجاب المصريين الشغوفين بالأكل بصفة عامة.
وعلى مدار 5 سنوات مضت نجح الأكل السوري في غزو البيوت المصرية بصورة لم تحدث مع الأكلات الأخرى التي فشلت في ترسيخ أركانها بين المصريين، حتى وصل الأمر إلى أنه بات من الصعب أن تجد شارعًا رئيسيًا في العاصمة المصرية وأجوارها إلا وبه مطعم سوري.
الأمر لم يقتصر على منافسة المأكولات المصرية على العموم، بل في شهر رمضان ذاته، الذي يعد موسم المائدة المصرية السنوي، نجحت الأطعمة السورية في منافسة نظيراتها المصرية على المائدة الأسرية، منتقلة بذلك من طرابيزات المطاعم إلى موائد المنازل.
ورغم ثراء قائمة المطاعم السورية بالعديد من أنواع الأطعمة، فإن الشاورما والأرز البسمتي والروستو والتومية، تعد أكثر ما يقبل عليه المصريون، بالإضافة إلى الحلويات الشرقية التي يتفنن السوريون في صناعتها بصورة نجحت معها في تحقيق رواج كبير حتى في الأقاليم والمحافظات البعيدة عن العاصمة.
ماهر العسلي، طباخ سوري يعمل بمطعم “روستو” بمدينة السادس من أكتوبر (غرب) يقول إن الأكلات السورية استطاعت أن تتفوق على المصرية في غضون أقل من 3 سنوات فقط، مشيرًا أن كلمة السر تعود إلى “التوابل” السورية التي يعشقها المصريون وباتت اللاعب رقم واحد في منتخب الأطعمة السورية التي تجيد العزف داخل الملاعب المصرية.
الطباخ السوري لـ”نون بوست” كشف أن نجاح المطاعم السورية دفع العديد من الشباب المصري للعمل بها تاركين مطاعمهم الخاصة، وهو ما ساعد كثيرًا في فهم تفاصيل ذوق المصريين في الأكل، ما سهل على السوريين مهمة إقناع الشارع المصري بجودة منتجاتهم وتلبيتها لرغباتهم حتى إن كان من يقومون عليها ليسوا من أبناء البلدة.
النظافة وحسن الاستقبال.. كلمة السر
وأضاف العسلي أن المواطن المصري من أكثر شعوب العالم عشقًا للتقدير والاحترام، وهو ما نلبيه لهم في مطاعمنا، مشيرًا “بحكم تكويننا الشخصي نقدر كل الناس ونتعامل معهم بكل احترام وهو ما يلقى مردودًا كبيرًا لدى زائري المطعم من المصريين”، وتابع “نلحظ ذلك جيدًا في ردود فعل رواد المكان”.
واتفق مع هذا الرأي، محمود جمال، محاسب مصري مقيم في مدينة أكتوبر، حيث قال: “أكثر ما يميز السوريين نظافتهم وحسن هندامهم واستقبالهم الجميل للمصريين”، مضيفًا في حديثه لـ”نون بوست”: “يكفي الاستقبال الجيد والابتسامة التي لا تفارق وجوه العاملين في تلك المطاعم أن تدفعنا إلى الذهاب إلى هناك حتى إن لم يكن الأكل على المستوى المطلوب”.
في ميدان الحصري بوسط مدينة 6 أكتوبر، يقبع شارع “السوريين” أحد أكبر الشوارع التجارية في هذه المنطقة، هذا الشارع الذي يأخذك إلى أجواء دمشق وحلب، فكل شيء فيه “شامي” الأصل والصورة
وأضاف جمال أنه من الواضح أن السوريين درسوا الشخصية المصرية جيدًا، واستطاعوا التعامل معها بذكاء شديد، مستخدمين في ذلك المداخل العاطفية والظاهرية التي يمكن من خلالها إقناع المصريين بأي منتج من المنتجات، مشيرًا أنه “في حال مقارنة المطاعم السورية بالمصرية فإن الأفضلية للأسف ستكون للسورية”، على حد قوله.
فيما أوضح إبراهيم الشابوري، شيف مصري، إلى أنه أغلق مطعمه الخاص الواقع في منطقة الهرم بمحافظة الجيزة، بعدما تراجع عدد الزبائن مقارنة بنظيره الواقع في نفس الشارع “ريف دمشق”، مشيرًا إلى أنه ذهب للعمل معهم في مطعمهم وسط ترحيب شديد من صاحبه.
الشابوري لـ”نون بوست” أضاف أن المطعم السوري يتميز ببعض الطقوس والسمات الظاهرية التي ربما لا تتوافر لدى كثير من المطاعم المصرية، وهو ما يحقق لها النجاح، خاصة أن الشعب المصري عاطفي في المقام الأول، ويشعر بمسؤولية تجاه أشقائه الوافدين الفارين من ويلات الحرب، وهو ما استغله السوريون بصورة كبيرة في تكريس مكانتهم.
شعبية جارفة حققتها المطاعم السورية في مصر
شارع السوريين بأكتوبر.. دمشق الصغرى
في ميدان الحصري بوسط مدينة 6 أكتوبر، يقبع شارع “السوريين” أحد أكبر الشوارع التجارية في هذه المنطقة، هذا الشارع الذي يأخذك إلى أجواء دمشق وحلب، فكل شيء فيه “شامي” الأصل والصورة، بداية من روائح الأكل النفاثة مرورًا بالمقاهي المنتشرة على التراث السوري وصالونات الحلاقة التي يعمل بها سوريون، وصولاً إلى الوجوه صاحبة البسمة البشوشة.
مرحبًا بك في دمشق الصغرى.. هذا عنوان الشارع الذي تفوح من بين ثناياه على مدار اليوم عبق الحضارة السورية، ففي الصباح تأخذك نسماته إلى حلب الصمود، وفي وسط النهار تداعب شمس دمشق جدران المطاعم المرصعة بتيجان التاريخ، وفي المساء تأخذك الأجواء إلى منتجعات اللاذقية وشواطئ طرطوس.
جولة واحدة داخل هذا الشارع تأخذك إلى الأراضي السورية شكلاً ومضمونًا، فكل ما حولك سوري الطبع والتطبع، حتى بات قبلة لعشاق التراث السوري من الشباب المصري والعربي وبعض الجنسيات الأجنبية، كل هذا يتم على أوتار أعذب الألحان والأغاني السورية القديمة.
جدير بالذكر أن عدد اللاجئين السوريين المسجلين لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في القاهرة قدر بنحو 130 ألفًا، غير أن العدد الحقيقي ربما يصل إلى نحو 700 ألف، فيما أشار السفير طارق القوني مساعد وزير الخارجية المصري للشؤون العربية، في تصريح له عام 2017 أن العدد يبلغ نحو 500 ألف شخص.