لعل أبرز التقاليد التي توضح مدى اهتمام سلاطين بني عثمان بشهر رمضان ما يُعرف بوثيقة “تنبيه نامه”، وهي الوثيقة التي كان يكتبها السلطان بنفسه أحيانًا أو يأمر أحدًا من كبار رجال الدولة بكتابتها قبل مجيء رمضان بعدة أيام، ثم تُسلّم إلى الصدر الأعظم للشروع في تنفيذها.
تتضمن بنود وثيقة “تنبيه نامه” شكل الحياة التي ينبغي أن يعيشها المجتمع العثماني وفقًا لروح رمضان، فنجد فيها مثلاً حث الرجال على إقامة الصلوات الخمسة في المساجد وارتداء النساء للملابس اللائقة ودعوة الناس للانخراط في العبادة وطريقة تعاملات الناس فيما بينهم والالتزام بالأوامر الدينية وتحذير التجار من رفع الأسعار في رمضان.
وبحسب صحيفة “فكرييت” التركية، كان السلطان قبل رمضان بقليل يأمر بتشكيل لجنة لمراقبة الأسواق وضبط أسعارها، كما كان يختار نوع القمح الذي يُصنع منه الخبز للناس، وإذا نال إعجابه هو وأهل الخبرة في السراي بعد خبزه، يأمر أن تبدأ الأفران في خبزه وبيعه إلى الناس، كما كان رجال الأمن يبعدون الشحاذين عن أبواب المساجد قبل رمضان لعدم إزعاج المصلين.
كتب هذه الوثيقة رئيس العسكر حوسراف باشا، بأمر من السلطان محمود الثاني، ومن أبرز المواد التي وردت فيها: “أن يُعامل الناس السلطان بشكل طبيعي في أثناء ذهابه لتأدية الصلاة في بعض الجوامع، ولكن يُشترط الاحترام في معاملته”
وبحسب الصحيفة نفسها، فلا يُعرف تاريخ محدد لأول سلطان كتب هذه الوثيقة، ولكن وفق العديد من المصادر، فإن وثيقة “تنبيه نامه” كانت تُوزّع على شكل منشور وإرسال هذه المنشورات إلى الأئمة لتعليقها في المساجد، كما كانت تُوزّع في الطرقات أيضًا، إلا أن أول وثيقة لها تاريخ معلوم، هي التي صدرت في عهد السلطان محمود الثاني عام 1834، وهي أيضًا أول وثيقة تُنشر في الجريدة الرسمية الأولى للدولة العثمانية وهي “تقويم وقائع”، وتم توزيعها على الناس.
كتب هذه الوثيقة رئيس العسكر حوسراف باشا بأمر من السلطان محمود الثاني، ومن أبرز المواد التي وردت فيها: “أن يُعامل الناس السلطان بشكل طبيعي في أثناء ذهابه لتأدية الصلاة في بعض الجوامع، ولكن يُشترط الاحترام في معاملته والالتزام بآداب تقديم الطلب إلى السلطان وأن يكون ذلك في يوم الجمعة المحدد لتقديم الطلبات والالتزام بقواعد الزي الإسلامي للمرأة والاعتناء بتنظيف البيوت من الخارج جيدًا”.
ومن المعروف عن السلطان محمود الثاني أنه كان يبدّل ثيابه ويتخفّى لكي لا يعرفه أحد، ويذهب إلى بعض الجوامع والأسواق ويمشي في الطرقات لمتابعة مدى التزام الناس ببنود الوثيقة، وقد صدر خبر في جريدة “تقويم وقائع” آنذاك، عن هذا الأمر وأن السلطان سعيد بالتزام الناس بالوثيقة.
لم تكن إصلاحات الدولة العثمانية فيما عُرف بـ”عصر التنظيمات” من أجل اللحاق بالحداثة الأوروبية، قانونية وإدارية فقط، لقد أثر فرمان التنظيمات على ثقافة المجتمع العثماني أيضًا بشكل كبير
ذكر البروفيسور التركي نسيمي يازجي المختص في التاريخ العثماني (وبالأخص في عصر التنظيمات) في بحثه المعنون بـ”التنبيهات الرمضانية” أن الوثيقة الثانية صدرت في عهد السلطان عبد المجيد عام 1839، ونُشرت بعد فرمان التنظيمات الشهير مباشرة، وكانت موادها تشبه مواد الوثيقة الأولى، بالإضافة إلى بعض المواد التي تلزم الرجال بالذهاب إلى صلاة التراويح وتفرض العقوبات على الذين يجلسون في الدكاكين في أثناء الصلاة، كما تدعو لعدم إيذاء النساء في الجوامع والأسواق سواء بالقول أم المعاملة والتزام المرأة بالثياب اللائقة.
وفي عهد السلطان عبد المجيد أيضًا، صدرت وثيقة عام 1843 وهي موجودة اليوم في أرشيف رئاسة الوزراء، والفرق بين مواد هذه الوثيقة عن الوثيقة السابقة، بحسب نسيمي يازجي، أنها تتضمن مادة تلزم موظفي الدولة بمتابعة تطبيق الناس لبنود الوثيقة، وأن يبدأوا بتنبيه الناس بما ورد في الوثيقة أولاً، وإذا لم يلتزموا يمنعوهم، بالإضافة إلى مادة أخرى تخص علاقة الرجل بالمرأة، وهي أن الرجال والنساء لا ينبغي أن يجمعهم مجلس واحد حتى لو كان مجلس وعظ.
لم تكن إصلاحات الدولة العثمانية فيما عُرف بـ”عصر التنظيمات” من أجل اللحاق بالحداثة الأوروبية، قانونية وإدارية فقط، لقد أثر فرمان التنظيمات على ثقافة المجتمع العثماني أيضًا بشكل كبير، فقد نشأت طبقة جديدة من الإنتلجنسيا العثمانية التي تأثرت بالأفكار الليبرالية الغربية وسعت إلى نقلها للمجتمع العثماني.
وكانت أوضاع المرأة من بين أبرز الأفكار التي طرأت على المجتمع آنذاك، وظهرت نقاشات وموضوعات جديدة في هذا السياق، مثل خروج المرأة للتنزه وحدها، وغيرها من المسائل التي تخص المرأة، ولم تكن متداولة في الدولة العثمانية قديمًا.
استمر تقليد “تنبيه نامه” خلال فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني، وظلت بنود وثيقة التنبيهات الرمضانية تتناول الموضوعات نفسها وتتبنى حماية النظام الأخلاقي في المجتمع العثماني، وانتهى هذا التقليد بعد عزله
وبالتالي فقد ظهر أثر هذه التغيرات على وثيقة “تنبيه نامه” التي أصدرها السلطان عبد المجيد عام 1846، فظهرت عدة بنود تخص المرأة في هذه الوثيقة، من بينها: “ألا يكون يشمك المرأة شفافًا، ويُشترط عند خروجها للتنزه في العربة التي يجرها الحصان ألا يكون السائق شابًا وألا تجلس في أماكن تجمعات الرجال، وبالنسبة لأماكن التنزه، فيتم تحديد أيام تذهب فيها النساء فقط وأيام أخرى تخصص للرجال، وألا توجد امرأة في الطرقات بعد الساعة 11 مساءً.
عام 1850 صدرت وثيقة أخرى تشبه الوثائق السابقة، بفروقات بسيطة، لكن أهم ما يميزها عن غيرها من الوثائق السابقة، أنها أول وثيقة تخص غير المسلمين بمادة، وهي: أن يلتزم غير المسلمين بعدم الأكل أو التدخين بالشوارع في نهار رمضان، لأن ذلك عمل غير لائق من ناحية، ومن الممكن أن يكون سببًا في شجارهم مع المسلمين من ناحية أخرى.
وبحسب ما أورده الباحث نسيم يازجي أيضًا، فإن الوثيقة التي صدرت عام 1860 اختلفت في بعض موادها أيضًا، مثل: تخصيص مسجد السلطان أحمد ومسجد لالي ومسجد شيخ زاده للنساء من أجل الصلاة ومجالس الوعظ وعدم السماح بدخول الرجال وألا يخرج أحد في المساء دون قنديل وأن يتم الالتزام بقواعد الأدب والأخلاق في الأماكن التي يُعزف فيها الساز وعدم إزعاج الناس بالألعاب النارية وغيرها من مظاهر الاحتفال الرمضاني.
أما وثيقة عام 1871 التي صدرت في عهد السلطان عبد العزيز، فقد اهتمت أكثر بوضع القواعد للعلاقة بين الرجل والمرأة، نظرًا لأن تأثيرات المجتمع الغربي كانت قد ظهرت بشكل أوضح آنذاك، بالإضافة إلى حث الناس على الالتزام بأخلاق وآداب شهر رمضان.
الجدير بالذكر أن تقليد “تنبيه نامه” استمر خلال فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني، وظلت بنود وثيقة التنبيهات الرمضانية تتناول الموضوعات نفسها وتتبنى حماية النظام الأخلاقي في المجتمع العثماني، وانتهى هذا التقليد بعد عزله.