يثبت السودانيون المعتصمون أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة بالخرطوم أن الرهان على عامل الوقت لإجهاض صمودهم المتواصل للشهر السادس على التوالي ليس سوى حلم يداعب خيالات فلول النظام القديم وداعمي الثورة المضادة، إذ تزداد لبنات ثباتهم صمودًا وقوةً يومًا تلو الآخر.
وكان التعويل على شهر رمضان لإنهاء حالة الاشتباك هو المحطة الأخيرة لتلك الرهانات، إذ حول الثوار ساحة الاعتصام إلى خيمة رمضانية كبيرة، يمارسون فيها طقوس الشهر المبارك كافة، من صيام وقيام، فضلاً عن الأغاني الوطنية التي تلهب حماس المحتجين وتشعل بداخلهم نار الوطنية.
وبعيدًا عن كل التوقعات، وخروجًا عن السيناريوهات الموضوعة من هنا وهناك، ضرب السودانيون أروع المثل في الالتحام والتكاتف والثبات على الموقف، فرغم أجواء رمضان الملتهبة وأعباء الصيام في هذا الطقس شديد الحرارة، فإنهم نجحوا في رسم واحدة من أكثر لوحات الصمود جمالاً وبريقًا.
أجواء رمضانية بديعة
رغم مشاعر الترقب والقلق التي فرضتها الحالة الثورية التي عليها المعتصمون في ظل موجات المد والجذر مع المجلس العسكري الانتقالي فإن ذلك لم يمنع من معايشة أجواء الشهر المبارك بالشكل الكامل والمعتاد من الشعب السوداني، فتزامن شعار مدنية الدولة مع أهلاً رمضان ليعزفا معًا أجمل الألحان على أوتار التحدي والصمود.
بعد الانتهاء من تناول الإفطار يقوم الجميع للصلاة، المغرب ثم العشاء وبعدها التراويح، ثم تبدأ فعاليات المساء، التي تبدأ في الغالب من خلال وقفات ترفع فيها شعارات ثورية على شاكلة “الثورة خيار الشعب” “مدنية مدنية”
يقضي المعتصمون نهار رمضان في أجواء احتفالية مبهجة، ما بين الصلاة وقراءة القرآن والندوات الدينية وتبادل الأحاديث والسمر، وبعد الإفطار يصلون المغرب والتراويح في جماعة ثم تبدأ برامج المساء التي تتميز بالتنوع والإبداع حسبما أشار محمد جعفر أحد المشاركين في الاعتصام.
يقول جعفر الذي يعمل محاميًا في حديثه لـ”نون بوست” إن الأجواء التي يعايشها الثوار أمام مقر قيادة الجيش لا تقل عن تلك التي يعيشها بقية السودانيين في المنازل، إن لم تكن أكثر بهجة وثراءً، فهناك تشعر أنك في خلية نحل لا تتوقف، كل له دور وعليه واجب، هدف واحد يجمع الكل ويوحدهم على قلب رجل واحد.
وأضاف: قبل أذان المغرب بدقائق يفترش عدد من المعتصمين ساحات الاعتصام بالحصير الأخضر، يوضع عليه أطباق من التمور والفاكهة، بجانب أكواب من الماء والعصائر المختلفة، ثم تأتي أوعية العصيدة الضخمة لإطعام الصائمين، وسط تبادل التهاني والدعوات بين الحضور.
وبعد الانتهاء من تناول الإفطار يقوم الجميع للصلاة، المغرب ثم العشاء وبعدها التراويح، ثم تبدأ فعاليات المساء التي تبدأ في الغالب من خلال وقفات ترفع فيها شعارات ثورية على شاكلة “الثورة خيار الشعب” و”مدنية مدنية” يعقبها بعض وصلات الغناء عن طريق مطربين شعبيين سودانيين أو فرق غنائية على المسرح المعد أمام مقر الاعتصام.
ويتخلل هذه الأجواء الروحانية بعض الكلمات الحماسية التي يلقيها عدد من الرموز السياسية من قوى المعارضة التي تذكر المعتصمين بين الفترة والأخرى بالثبات على مطالبهم المرفوعة والدفاع عنها في مواجهة الضغوط التي تمارس عليهم للتزحزح رويدًا رويدًا عن حزمة المطالب المقدمة سلفًا للمجلس العسكري في أكثر من مذكرة.
أما عن مصادر تمويل الطعام والشراب وكلفة إقامة الحفلات والفعاليات، يقول الناشط مصطفى جعفر إن بعض رجال الأعمال والأثرياء وعدد من القوى السياسية والجمعيات وعدد من الشركات يتحملون هذه الكلفة، هذا بخلاف ميسوري الحال المشاركين في الاعتصام أنفسهم.
ويضيف جعفر لـ”نون بوست” أن ترابط الثوار فيما بينهم خلال نهار رمضان ولياليه أقوى من أي وقت مضى، مشيرًا أن العدد يتزايد كل يوم، حيث تشارك موجات من المواكب السودانية القادمة من مختلف محافظات وولايات البلاد، بعضهم يقيم يومًا والآخر يومين والبعض الآخر ربما يستمر في الاعتصام مع رفقائه.
وهو نفس ما ذهبت إليه كوانجا إدوارد (ممرضة)، حيث أشارت في تصريحاتها لـ”رويترز” أن “الاعتصام أصبح أفضل في رمضان وإطعام المحتجين يعد من أعمال الخير بالنسبة للمتطوعين كما هو الكفاح من أجل السلام والحرية بالنسبة للمحتجين”.
إدوارد التي تنتمي إلى جنوب السودان والمقيمة حاليًّا في مدينة أم درمان تقول إنها توجهت إلى العاصمة لأنها تريد أن تقدم ما هو أفضل للسودان”، كاشفة أن الأجواء هناك أفضل بكثير مما عليه في غير رمضان، معتبرة ذلك رسالة واضحة لكل المحاولات التي تستهدف تفكيك لحمة المعتصمين والرهان على معاناة الصيام.
من أجواء رمضان في مقر الاعتصام
سلطة مدنية أو ثورة أبدية
عاودت قوى المعارضة السودانية التأكيد على مدنية الدولة، وتسليم الحكم لسلطة مدنية، وأن يتخلى العسكر عن زمام الأمور خلال المرحلة المقبلة، وهي الثوابت التي يعزف على أوتارها المعتصمون وترددها الحناجر ليل نهار داخل الاعتصام الذي تحول إلى منبر للحريات ونافذة لإيصال صوت السودانيين للعالم.
تجمع المهنيين السودانيين في بيان له على صفحته الرسمية على “فيسبوك” أكد تمسكه بتدشين سلطة انتقالية مدنية مدتها 4 سنوات، قوامها مكون من 3 أركان رئيسية، الأول: مجلس سيادي مدني بتمثيل عسكري محدود وبرئاسة مدنية، يمثل هذا المجلس الجانب السيادي ورأس الدولة بصلاحيات محدودة جدًا تتسق مع النظام البرلماني.
الثاني: مجلس وزراء رشيق من الكفاءات الوطنية التي تمتاز بالخبرة المهنية والنزاهة والانحياز لخيارات الشعب السوداني، يكون لمجلس الوزراء سلطات تنفيذية كاملة ودون تدخل من المجلس السيادي، ويعمل على إنجاز البرنامج الإسعافي الانتقالي لإصلاح الاقتصاد السوداني ووقف الحرب وإرساء السلم وإعادة هيكلة الخدمة المدنية وقوميتها.
الثالث: مجلس تشريعي يتم فيه تمثيل كل قوى الثورة السودانية بكل تنوعها الإثني والثقافي والجغرافي، ولا يقل تمثيل النساء فيه عن ٤٠%، ويقوم بمهام التشريع في الفترة الانتقالية ومراجعة كل القوانين المعيبة وإلغائها، ويقوم بمهام الرقابة على الجهاز التنفيذي في مجلس الوزراء، كما يعمل على تكوين اللجان المختصة بعقد المؤتمر الدستوري الجامع ومن ثم صياغة الدستور الدائم واستفتاء الشعب عليه وإجازته، وإجازة قانون للانتخابات يمتاز بالعدالة والشفافية في نهاية الفترة الانتقالية.
يثبت السودانيون يومًا بعد يومٍ فشل كل الرهانات السابقة بشأن فض الاعتصام وإجهاضه من الداخل عبر المسكنات، إثر التصميم على مواصلة النضال حتى تحقيق المطالب كافة
البيان أكد “استقلال السلطة القضائية وتطهيرها من عناصر المؤتمر الوطني وبقاياه وحلفائه، وذلك لضمان حيادية السلطة القضائية وتأكيدًا على الإنصاف في إنجاز العدالة الانتقالية والقصاص لكل الشهداء والمتضررين من ممارسات النظام في الثلاثين عامًا المنصرمة”.
المعارضة لوحت بأنه في حال عدم الاستجابة لمطالبها وتسليم الحكم لسلطة مدنية في ضوء التفاهمات التي تم التحاور بشأنها خلال جلسات المفاوضات التي جمعتها والمجلس العسكري الانتقالي فإن الثورة ستستمر مهما طال الوقت، الأمر الذي ربما يضع الجميع في مأزق.
مهلة 72 ساعة
أمهلت المعارضة السودانية 72 ساعة لحل الخلافات مع المجلس العسكري في النقاط محل الجدل بين الطرفين، وذلك في بيان لها أمس السبت، أشارت خلاله أنها تلقت اتصالاً من المجلس لاستئناف التفاوض، فيما جاء ردها بالإبلاع بأن “المنهج القديم لا يتسق مع مطالب الشعب السوداني في الخلاص والوصول بالثورة لمراميها بالسرعة المطلوبة”.
البيان استند في رده إلى الإيمان “بأن بداية عهد جديد تتطلب عدم التأخير في تهيئة مناخ الاستقرار لأن الأزمة السياسية المتطاولة تنعكس على الشعب السوداني في شكل أزمات اقتصادية طاحنة وتعطيل للحياة وتذبذب في الخدمات الضرورية”، وهو ما يتطلب سرعة البت في النقاط محل الخلاف بأسرع وقت ممكن حفاظًا على مكتسبات الثورة.
استمرار انضمام وفود جديدة للمشاركة في الاعتصام
وخلصت الاجتماعات التي عقدتها قوى الحرية والتغيير إلى “تواصل الخطوات التصعيدية فهي الضامن الوحيد لتحقيق أهداف الثورة، فنضالات الشعب السوداني ونجاحه في إزاحة نظام البشير وابن عوف، ومواصلة اعتصامه ومواكبه ومظاهراته دون تراجع هو ما يصنع التغيير الحقيقي، بالإضافة إلى رغبة كل السودانيات والسودانيين في إنجاز أهداف الثورة وتحقيق المطالب التي خرج من أجلها الملايين”.
وفي المجمل.. يثبت السودانيون يومًا بعد يوم فشل كل الرهانات السابقة بشأن فض الاعتصام وإجهاضه من الداخل عبر المسكنات، إثر التصميم على مواصلة النضال حتى تحقيق المطالب كافة، وهو الأمر الذي لا يحول دون ممارسة طقوس حياتهم المعتادة، في أجواء من اللحمة والتكاتف تقوي عضد الثورة وتشد من أزرها في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية التي تتعرض لها.