تنتشر على شبكات التواصل الاجتماعي منذ الساعات الأولى لانتصار الثورة السورية، والإطاحة بنظام الأسد الذي جثم على صدر السوريين لأكثر من 5 عقود، جملة من الشائعات والمزاعم التي تشوش على الجمهور وتثير جدلًا في غير وقته ومزاعم تقتل لحظة الفرح بانتصار الثورة.
تقييمات مبكرة لأداء الجكومة الجديدة، وتحليلات تتدثر بلباس الحكمة والتعقل، تستند في الأساس على التشكيك في منطلقات الإدارة الجديدة والتخويف من المستقبل، ما يعكس واقع الصدمة التي أحلت بالجميع إثر حدوث مالم يكن يوما متوقعًا، ما لم يدر بخلد أعتى أجهزة الاستخبارات، وغاب عن قراءات وتحليلات واستطلاعات مراكز الأبحاث والدراسات المعتبرة.
ويعدّ التوغل الإسرائيلي في الجنوب السوري واستهداف القواعد العسكرية للجيش السوري، استغلالًا لحالة الفوضى التي أحدثها انهيار نظام الأسد المفاجئ، أحد أبرز النماذج الصارخة على مستوى الضبابية التي تخيّم على المشهد منذ الثامن من الشهر الجاري، حيث الهرولة لتمرير شائعات بعينها تتحدث عن قرب جيش الاحتلال من دمشق واحتلال مساحات واسعة من التراب السوري، واغتيال علماء سوريا وباحثيها، محملة المعارضة والثورة وإرادة الشعب السوري مسؤولية ما حدث.
وتأتي تلك الشائعات المضللة، وطرحها على موائد النقاش السياسي، بعد تضخيمها إعلاميًا، في سياق خطة ممنهجة لتشويه المعارضة السورية وتخويف السوريين ممّا هو قادم، ومحاولة خلق فجوة كبيرة بين فصائل المعارضة والحاضنة الشعبية التي كانت ضلعها الأبرز نحو إسقاط نظام الأسد.
ماذا يحدث في الجنوب السوري؟
بعد الإعلان مباشرة عن سيطرة المعارضة على المشهد السوري وهروب الأسد وعائلته إلى موسكو، بدأ جيش الاحتلال في استثمار تلك الحالة الرخوة التي عليها البلاد لتنفيذ عشرات الغارات المتتالية على مدار 4 أيام كاملة، بلغت تقديراتها إلى تجاوزها 350 غارة على 13 منطقة، استهدفت أهدافًا عسكرية استراتيجية.
وتنوع الاستهداف ما بين غارات جوية ومدفعية وصاروخية وتمدد برّي بالمدرعات في المنطقة العازلة الحدودية بين سوريا والكيان المحتل في الجولان، حيث دمّرت طائرات الاحتلال معظم الأسطول البحري السوري، واستهدفت ميناء اللاذقية وضهر الزوبة في بانياس، وبعض المستودعات ومواقع الرادار والدفاع الجوي في ريف طرطوس، علاوة على أنظمة صواريخ أرض جو، وأرض أرض، ومنظومات الدفاع الصاروخي، ومواقع إنتاج ومستودعات الأسلحة، إضافة إلى مخازن الأسلحة الكيميائية.
وبعد تداول الأنباء التي روّجت لاقتراب جيش الاحتلال من العاصمة دمشق، والتوغل البري واحتلال العديد من المدن السورية، وهي المعلومات التي لاقت انتشارًا واسع النطاق، نفى جيش المحتل تلك الأنباء بشكل قطعي، مؤكدًا أن قواته موجودة فقط في المنطقة العازلة في الجولان المحتل، فيما غرّد المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي عبر حسابه على منصة إكس على تلك التقارير، بقوله إنها “غير صحيحة على الإطلاق، قوات الجيش موجودة داخل المنطقة العازلة وفي نقاط دفاعية قريبة من الحدود بهدف حماية الحدود الإسرائيلية”.
وكانت إذاعة جيش الاحتلال قد أشارت إلى أن العملية في الجنوب السوري أوشكت على الانتهاء، وذلك بعدما دمّرت ما بين 70 و80% من القدرات العسكرية لنظام الأسد، لافتة أن القوات البرية لا تزال تعمل فقط في المنطقة العازلة التي تبعد نحو 30 كيلومترًا عن دمشق، وأنه لا نية مطلقًا للتوغل نحو العاصمة السورية.
وفي السياق ذاته وردًّا على هذا التوغل، أرسلت الأمم المتحدة تعزيزات عسكرية إلى سوريا لدعم القوات الأممية المتواجدة هناك لمراقبة فضّ الاشتباك، حسبما نقلت مجلة “نيوزويك” الأمريكية عن دبلوماسي بالمنظمة، لافتًا أن القوات التي نقلتها “إسرائيل” إلى تلك المنطقة تُقيّد بشدة حركة قوات حفظ السلام في مرتفعات الجولان، وتعيقها عن تنفيذ مهامها.
مقاربات “إسرائيل”
تنطلق “إسرائيل” في عربدتها بالجنوب السوري من خلال 5 مقاربات أساسية:
أولها: مراهنتها على تجنب المعارضة السورية المسلحة الدخول في أي صدامات مع جهات أو أطراف خارجية، بما فيها دولة الاحتلال، وإلا فهو بمثابة إعلان حرب بشكل مباشر، في ظل مساعيها للحصول على الشرعية الدولية بما يؤهّلها لممارسة سلطاتها بشكل رسمي، ويعبّد لها الطريق نحو حزم من التفاهمات والتنسيقات الإقليمية والدولية.
ثانيها: استغلال انشغال المعارضة بترتيب البيت الداخلي، أمنيًا وإداريًا واقتصاديًا وسياسيًا، حيث ترى الفصائل أنه الأولى والأهم في الفترة الحالية، بل هو المقدم على أي مهام أخرى، في ظل الواقع المتردي في كافة المجالات.
ثالثها: محاولة خلق واقع جديد، بما يعزز الأمن الإسرائيلي، حيث توسعة المنطقة العازلة في الجولان، وخرق الاتفاقيات الأممية الموقعة عام 1974، أسوة بما حدث في فيلادلفيا وتعريض اتفاقية السلام مع القاهرة للانهيار لمحاولة خلق واقع جديد هناك أيضًا على الحدود المصرية الفلسطينية.
رابعها: عدم الاطمئنان للسلطة السورية الجديدة، فبعد انهيار نظام الأسد الذي تعرفه “إسرائيل” جيدًا، والذي كان الضامن لأمن الحدود ضد أي اختراقات أو توترات، بات الحديث عن المستقبل أمرًا مبهمًا، خاصة مع السمت الإسلامي الذي يخيّم على المعارضة، وهو ما تتوجّس منه تل أبيب خيفة، الأمر الذي دفعها لاحتلال المنطقة العازلة كورقة ضغط (كارت إرهاب) يمكن التلاعب بها مستقبلًا مع النظام الجديد.
خامسها: تصدير الضغط لسوريا ما بعد الأسد، ومحاولة إفشال الثورة وإجهاض فرحة السوريين، والعمل عكس عقارب الوحدة والتوحد، وتعزيز الانقسام ودعم مقوماته، وهو ما بات واضحًا بعد فتح اتصالات سياسية إسرائيلية مع الانفصاليين الأكراد في شرق سوريا، بما يبطئ نسبيًا من خطوات استعادة التوازن وتحقيق الثورة لأهدافها.
استدراك مهم.. لماذا تهاجم “إسرائيل” الآن؟
خطاب التخويف والتهويل الذي يتبناه البعض على منصات التواصل الاجتماعي وفي المواقع الإخبارية وشاشات الفضائيات، لا سيما أبناء التيار القومي، حول خطورة التوغل الإسرائيلي في الجنوب السوري، وأنه إيذان بنهاية الدولة، وأن إسقاط نظام الأسد جاء بمثابة الهدية للكيان المحتل، الذي تنفس الصعداء فهاجم وتوغل وقصف ودمّر القواعد العسكرية وترسانة الأسلحة السورية، يوحي للمتلقي منذ الوهلة الأولى أن النظام البائد كان على رأس محور المقاومة في مواجهة المحتل، وهو ما يتناقض مع الواقع شكلًا ومضمونًا.
المتابع للتاريخ يعلم أنه منذ اتفاق فض الاشتباك عام 1974 لم يُطلق الجيش السوري، بقيادة بشار أو والده من قبله، رصاصة واحدة صوب الكيان الإسرائيلي، بل حتى صوب الجولان المحتل، وتحولت الجبهة السورية إلى الجبهة الأهدأ والأكثر استقرارًا مقارنة بغيرها من جبهات النزاع مع تل أبيب، ما جعل الأسد بمثابة حارس لـ”إسرائيل” إقليميًا، بعيدًا عن لغة العنتريات والخطاب الشعبوي الذي اعتاد على ترديده لتخدير المزاج الشعبي السوري والعربي.
هذا ما جعل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية ومراكز الدراسات هناك تضع الجبهة السورية في مؤخرة الاهتمامات عكس الجبهات الأخرى التي تصدرت قائمة الأولويات، وهو ما أكد عليه الإعلام العبري على لسان محلّليه وقادته بعد سقوط النظام وسيطرة المعارضة على المشهد، حيث وصفوا هذا التحول بـ”الفشل الاستخباراتي الكبير” الذي لم تتوقعه لا استخبارات “إسرائيل” ولا أي استخبارات في العالم.
كما يعكس الاستهداف الدقيق لمراكز الوحدات والقيادات العسكرية وترسانات الأسلحة السورية خلال الأيام الأخيرة، معرفة جيش الاحتلال بأماكنها مسبقًا وبشكل تفصيلي، فالقصف نوعي من الطراز الأول ولم يكن عشوائيًا كما هو الحال مثلًا في الجنوب اللبناني أو في قطاع غزة، وهو الذي دفع البعض للتساؤل حول توقيت الاستهداف: لماذا الآن بعد سقوط النظام وسيطرة المعارضة؟
لم تكن الإجابة بحاجة إلى جهد التفكير، إذ تبلغ من الوضوح ما يغنيها عن التوضيح، حيث كان الإسرائيلي -في وجود نظام الأسد- مطمئنًّا لعدم استخدام تلك الأسلحة ضده وبما يهدد أمنه واستقراره، وهو ما يترجمه 50 عامًا من الاختبار (1974-2024)، لكن بعد انهياره وتولي سلطة جديدة ذات سمت إسلامي، فالأمر بات يشكّل تهديدًا محتملًا، ويبعث على القلق، وبالتالي كان قرار تدمير تلك الأسلحة حتى لا تقع في يد المعارضة هو الأضمن والأحوط، وهو ما أكده المحتل في تصريحاته بشكل علني.
خطة تشويه ممنهجة
رغم خطورة ما يحدث على الجبهة الحدودية الجنوبية من توغل إسرائيلي واستهداف ترسانة الأسلحة، والذي لا ينكره أحد، إلا أن محاولة تحميل الثورة والمعارضة مسؤولية هذا التغول، الذي لم يكن الأول من نوعه إذ سبق وتكرر عشرات المرات في عهد الأسد، وتصوير الأمر على أن النظام البائد كان حامي الحمى على تلك الجبهة وحائط الصد الأبرز في مواجهة “إسرائيل”، تضليل يأتي في سياق خطة ممنهجة لتشويه المعارضة مع الساعات الأولى لتوليها المسؤولية.
بدأت تلك الخطة مع التشكيك في انتماء المعارضة المسلحة، واتهامها بتلقي الدعم والأموال من الخارج، وأنها تنفّذ أجندة خارجية غير وطنية، وهو ما فنّده القائد العام لغرفة عمليات المعارضة أحمد الشرع، في كلمة له خلال زيارته إلى مسجد الشافعي في دمشق، الأربعاء 11 ديسمبر/ كانون الأول 2024.
حيث قال: “جرى الإعداد للمعركة كثيرًا… كنا أضعف من العدو بكثير لكن السلاح الذي قاتلنا به كان تصنيعًا محليًا بذلنا جهدًا كبيرًا حتى ملكناه”، مضيفًا أنه “لم يكن هناك دولة داعمة لنا ولا كان هناك توجيه داعم لنا ولا كان أحد يشجع على هذه المعركة، لأنه بالحسابات البسيطة كانت المعركة خاسرة، لكن كنا كلنا ثقة بأننا سننتصر فيها”.
الغباء في التلفيق
عندما تذهب للبحث في مواقع الشرق لن تجد الخبر
جاء في بيان صادر عن القيادة العامة لإدارة العمليات العسكرية في المعارضة السورية
انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي معلومات غير صحيحة تدّعي دخول قوات إسرائيلية إلى الأراضي السورية، ووجود اتفاقات بين المعارضة وإسرائيل pic.twitter.com/HDXcoVhFSr— 🕊Dr. Dijlah🕊 (@Dddddddwerrr) December 11, 2024
ووصل حد التشويه أن روّجت بعض المواقع الإخبارية العربية تصريحًا مضللًا منسوبًا للجولاني بشأن التنسيق المسبق مع الاحتلال، حيث حمل منشور متداول أعلاه شعار صحيفة “الشرق” السعودية، وتضمّن صورة لقائد المعارضة مع تصريح منسوب إليه يقول إن “دخول الجيش الإسرائيلي إلى الأرضي السورية يتم بالتنسيق معنا”، وهو التصريح الذي -رغم نفي المعارضة له رسميًا- لاقى انتشارًا مريبًا على منصات التواصل الاجتماعي في غضون ساعات قليلة، رغم أنه يتعارض مع العقل والمنطق وكل أبجديات الفهم أن يصدر تصريح كهذا من حجم شخصية كالجولاني في هذا التوقيت.
كانت الخلفية الأيديولوجية للمعارضة هي الأخرى محط اتهام وتشويه من قبل التيار الرافض للثورة، حيث احتل مكانة كبيرة في خطاب التشويه، هذا الذي يتعلق بالاتهام بالتبعية لـ”داعش” والجماعات التكفيرية، ورغم تفكيك العلاقة بين الهيئة وجبهة النصرة منذ عام 2016 ومحاربة الجولاني وأنصاره للداعشيين لسنوات، وتبنّيه لعدة مراجعات على مدار سنوات أهّلته للانتقال من الفكر المتشدد إلى النضج السياسي، الذي أهّله لقيادة المعارضة للإطاحة بنظام متجذر في الإفساد والسلطة كنظام الأسد، إلا أن ذلك لم يشفع لدى المنتحبين على رحيل نظام الأسد.
لماذا لم تردّ المعارضة؟
السؤال الملحّ الآن: لماذا لم تتخذ المعارضة أي رد فعل إزاء ما تمارسه “إسرائيل” من انتهاكات؟ وتتطلب الإجابة عن هذا السؤال توضيحًا لا بدَّ منه، يتمحور في الأساس في عدم قبول أي فصيل من فصائل المعارضة السورية بمختلف انتماءاتها لما تقوم به قوات الاحتلال، إذ إن مثل هذا الأمر انتهاك مرفوض من الجميع ولا شك في ذلك.
وهنا تجد المعارضة نفسها أمام مأزق صعب، إما أن تردَّ على “إسرائيل” بالشكل والطريقة المناسبة، لتثبت للجميع أن سوريا نحو عهد مختلف عمّا كان عليه إبّان بشار الأسد، وهو ما يعني الدخول في حرب مع الكيان المحتل، حرب لا يسمح الوضع الرخو الحالي بها، إذ إن الأولوية الآن تتمثل في استعادة الأمن الداخلي وتشغيل مؤسسات الدولة، وتثبيت أركان الدولة وضمان وحدتها وطمأنة الشارع السوري.
فضلًا عن احتمالية أن تنسف تلك المعركة حال الدخول فيها كل مكتسبات الثورة والثوار -وهو ما يأمله المناهضون للتغيير والمعادون لإرادة السوريين-، ناهيك عن عدم امتلاك المعارضة للقوة والعتاد الذي يؤهّلها للدخول في هكذا حرب، خاصة بعد الفراغ العسكري نتيجة انسحاب الجيش النظامي واستهداف ترسانة الأسلحة.
وفي الجهة المقابلة لا يمكن للمعارضة التزام الصمت إزاء ما يحدث على الحدود الجنوبية لها، إذ يتطلب الأمر السير في مسارَين متوازيَين، إعادة بناء الجيش السوري على عقيدة وطنية خالصة، يكون ولاؤه للشعب وليس للنظام، بما يؤهّله لمواجهة كافة التحديات المحتملة مع الجانب الإسرائيلي وبقية الحدود، وفي الوقت ذاته يُتوقع أن تتحرك المعارضة دبلوماسيًا مع القوى الإقليمية للضغط على الاحتلال لوقف تلك الانتهاكات، التي قد تستمر بشكل أو بآخر حتى اختيار السلطة الجديدة، والكشف عن ملامح سياستها إزاء التعامل مع تل أبيب.
تضع المعارضة السورية نصب أعينها قائمة أولويات طويلة، تُرتَّب وفق درجة إلحاحها، وسط تحديات جسام ومتنوعة أفرزها الفراغ الذي أحدثه انهيار النظام بهذه الطريقة، بما يجبرها على التعاطي معها بحرص شديد، وتغليب العقلاني على العاطفي، والالتزام بمبدأ الأهم فالمهم، في ظل كثرة المتربّصين بالتجربة والساعين لإجهاضها حتى قبل مباشرة عملها رسميًا، ما يُتوقع معه موجات متتالية من التشويه والتضليل للمعارضة والتقليل من قدراتها على تسيير الأمور، وهو ما يجب أن يكون في الاعتبار عند تقييم المشهد خلال المرحلة المقبلة.