تحوّلت صور بشار الأسد التي كانت معلقة على جدران مبنى محافظة دمشق إلى مماسح يدوس عليها الزوار والموظفون أثناء دخولهم إلى المبنى، تذكيرًا بأنهم في سوريا الجديدة.
يتناثر على الأرض الزجاج المحطم والأثاث المكسور وأعلام النظام المخلوع، في مشهد يُذكر بصعود الثوار الخاطف إلى سدة الحكم، لكن في الطابق العلوي، يعمل الموظفون الجدد الذين اختارهم المتمردون على تفكيك الآليات والترتيبات البيروقراطية المعقدة التي قام عليها نظام الأسد وحزب البعث.
يوم الثلاثاء الماضي، حضر حوالي 30 رئيس قسم في غرفة مزخرفة، اجتماعا شهدته صحيفة فاينانشيال تايمز، وكان محور الاجتماع هو عملية إقصاء الموظفين غير الفعالين بأسرع وقت.
وعد المسؤولون المشاركون في تحديد ملامح المرحلة الانتقالية بإنشاء سوريا جديدة وموحدة، والتوفيق بين الحكومة التي سيطر عليها المتمردون في محافظة إدلب الشمالية الغربية، والمعروفة باسم حكومة الإنقاذ السورية، وحكومة دمشق التي ثاروا ضدها منذ 13 عامًا.
إلا أن جذور هيئة تحرير الشام، باعتبارها فصيلا إسلاميا سنيا كان تابعا في السابق لتنظيم القاعدة، تثير مخاوف عميقة بين بعض الأقليات حول طبيعة الخطط المستقبلية لحكم هذه الدولة العلمانية بعد الإطاحة بنظام الأسد.
يقول محمد ياسر غزال، 36 عاما، وهو تكنوقراطي من حكومة الإنقاذ، تم تكليفه بالمساعدة في إعادة تشكيل محافظة دمشق: ”سيصبح كل شيء موحدًا ـ سيتم حل جميع الهيئات الحكومية: لا حكومة إنقاذ، ولا فصائل، ولا أي شيء، سيندمج كل ذلك قريبًا في جمهورية سورية واحدة”.
وأظهر غزال وزملاؤه إلماما جيدا بخبايا جهاز الدولة الذي ورثوه قبل ساعات فقط، وألمحوا إلى أن خطط هيئة تحرير الشام لإصلاحه كانت قيد الإعداد منذ فترة طويلة، لكن المهمة التي يواجهونها ضخمة؛ فقد استشرى الفساد والمحسوبية والسلطة المركزية في مؤسسات الدولة السورية المختلة على مدى خمسة عقود من حكم عائلة الأسد.
طلب غزال بلهجته الحلبية من رؤساء الإدارات أن يوضحوا اختصاصاتهم ويشرحوا مهام إداراتهم، وقال في وقت لاحق في مقابلة مع صحيفة فاينانشال تايمز إن الاجتماع الذي استمر ساعتين أظهر أن حكومة الأسد “عفى عليها الزمن”.
اقتبس الموظفون في إجاباتهم تعليمات حكومية تعود إلى ثلاثينيات وستينيات القرن الماضي، ولم يتمكنوا من الإجابة عن أسئلة مباشرة حول مهامهم، أو شرح سبب اتخاذ القرارات. وقال غزال: “لقد تراكمت المشاكل، وتركوها على حالها، إنهم لا يعتبرون أنفسهم مسؤولين”.
قدم أحد الأشخاص نفسه بأنه رئيس قسم العلاقات العامة، مؤكدا أن مهامه تشمل “التعاون الدولي”، و”إدارة المهرجانات والفعاليات”، وردًا على سؤال حول ماهية عمل هذا القسم بالضبط، أجاب الموظف “الأعلام”. سأل غزال باستغراب: “هل هناك قسم للأعلام؟”.
قال: “نعم، عندما تأتي الشخصيات الأجنبية، نضع الكثير من الأعلام ونعلقها على الأعمدة، إنها مهمة كبيرة”.
كان لدى رئيس القسم نفسه أيضًا قسم للترجمة، يعمل به موظفان يتحدثان الإنجليزية، وسأل غزال إذا كان هناك مترجمون روس أو إيرانيون – وهي الدول التي دعمت نظام الأسد وأرسلت إليه مبعوثين في كثير من المناسبات – وقيل له إنه لا يوجد مترجمون لأن ممثلي هذه الدول يحضرون معهم مترجميهم.
سأل غزال: “لم يكن لديكم زيارات من شخصيات بارزة تتحدث الإنجليزية؟”
قال رئيس القسم: “لا”.
هز غزال رأسه قائلا: “دولة سخيفة”.
نشأ غزال في الإمارات العربية المتحدة، وترك عمله في الهندسة المدنية بالمملكة العربية السعودية عام 2014 لينتقل إلى إدلب في خضم الحرب الأهلية.سيتولى غزال مهام محافظ دمشق، من خلال منصب رئيس مجلس المدينة الذي تم استحداثه مؤخرًا. نشأ غزال – الذي يقول إن لحيته الطويلة تعكس قناعاته الدينية – في الإمارات العربية المتحدة، وترك عمله في الهندسة المدنية بالمملكة العربية السعودية عام 2014 للانتقال إلى إدلب في خضم الحرب الأهلية، وساعد بعد أربع سنوات في تأسيس حكومة الإنقاذ السورية.
اجتمع غزال برؤساء الأقسام في غرفة على شكل قاعة محاضرات – مناسبة لأسلوب النظام السابق؛ حيث كان مكبر الصوت بيد شخص واحد يصدر التوجيهات التي يجب أن تُطبق بلا نقاش. كانت القاعة المزخرفة بالذهب تحمل أسماء المحافظين على امتداد 60 عامًا، في تذكير بالميثاق الذي عقده النظام السابق مع الموالين، من يخدم بإخلاص سيبقى ذكره خالدا.
أُمر الموظفون المدنيون بالعودة إلى العمل هذا الأسبوع؛ حيث تم تعيين محمد البشير رئيسًا لوزراء الحكومة السورية المؤقتة الجديدة للأشهر الأربعة المقبلة، ويجري التفاوض على شكلها المستقبلي داخل الوزارات في جميع أنحاء العاصمة، بقيادة التكنوقراط الذين عينتهم السلطات الجديدة، مثل محمد ياسر غزال.
عقد البشير مساء الثلاثاء اجتماعًا حضره وزراء حكومة الإنقاذ مع وزراء النظام المخلوع لبدء عملية نقل السلطة إلى حكومة تصريف الأعمال الجديدة التي ستستمر حتى مارس/ آذار، ورفع خلفه العلم السوري الجديد وعلم هيئة تحرير الشام.
تتمتع محافظة دمشق باختصاصات واسعة تتراوح بين الموافقة على تراخيص محلات الحلاقة والتجميل، وتنظيم قطاعات البناء والسياحة وغيرها، وتوفير خدمات الكهرباء، وكان من أول المهام فهم حجم الفساد المتغلغل في عملية تسيير المؤسسة، والعمل على التخلص من الوظائف الوهمية التي لا هدف منها سوى الحصول على رواتب حكومية.
ووصف غزال “الفساد المنظم” والرشوة المتفشية في الدوائر الحكومية، بأنها نتيجة “الفتات” الذي يتقاضاه الموظفون الحكوميون الذين انخفض متوسط رواتبهم إلى ما يعادل 25 دولارًا شهريًا، نتيجة للأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف بالبلاد منذ عام 2019.
كان تغوّل الدولة وقلة فعاليتها سببًا رئيسيًا في تراجع شعبية النظام، وأدت أساليبه الجشعة إلى انتشار السخط في جميع أنحاء سوريا.
خلال الاجتماع، قدّم مسؤول آخر نفسه على أنه رئيس قسم إعادة الإعمار والتأهيل، وهو قسم أُنشئ في 2012 لإعادة إعمار المناطق المدمرة في الحرب الأهلية، وانتظر – مثل غيره – أكثر من عقد من الزمن للحصول على الأموال الموعودة منذ فترة طويلة لكنها لم تأت أبدًا. كان غزال يدون ملاحظاته ويتمتم بالإنجليزية: ”لا يُصدق“.
كانت الأجواء في الغرفة مشحونة، لكن الموظفين شعروا بالراحة الكافية للتعبير عن آرائهم. تحدثت إحدى الموظفات عن التمييز الذي تعرضت له في ظل القيادة السابقة لأنها مسيحية، متهمة الدولة بإجبارها على دفع 25 ألف دولار كرشوة، لكن موظفة أخرى اتهمتها بالكذب.
طلب منهم غزال بلباقة أن يعرضوا عليه هذه القضايا في وقت لاحق، لكنه تركهم يواصلون حديثهم. كان يخاطب الموظفين مستخدما عبارات من قبيل “معذرة” و”من فضلكم”، وهي نبرة لم يسبق أن استخدمها المسؤولون الذين جلسوا في مقعده.
لكن العادات القديمة لا تموت بسهولة، فقد تحدث الموظفون عن “الأزمة” و”الأحداث”، وهي تعبيرات ملطفة استخدمها النظام المخلوع لوصف الحرب التي دمرت البلاد السنوات الماضية. سأل غزال: “أي أزمة؟”، قبل أن يدرك أنهم يقصدون الثورة التي كاد يدفع حياته من أجلها خلال العقد الماضي.
تحدّث غزال عن نفور الحكومة الجديدة من أساليب النظام المخلوع البالية، وقال إنه في إدلب – تلك المحافظة المهملة منذ فترة طويلة، والتي تم عزلها بالكامل بعد سيطرة الثوار عليها في بداية الصراع – أصبح كل شيء رقمياً ويمكن الحصول على هوية في خمس دقائق، أما في دمشق، فقد يستغرق الأمر شهوراً، وعادة ما يحتاج إلى رشوة.
استغرق الأمر 15 دقيقة ليحصل صحفيو فاينانشيال تايمز على التصريح الإعلامي من الحكومة التي وصلت حديثاً، وهو أمر لا يمكن تصوره في ظل النظام القديم الذي لم يمنح الصحفيين الغربيين تصاريح لدخول البلاد منذ سنوات.
قال غزال لـ فاينانشال تايمز إن الحكومة التكنوقراطية يتم تشكيلها في الوقت الراهن، ولكن المضي قدمًا في خططها “يتطلب اعترافا دوليا وإزالتها من قوائم الإرهاب، وأعتقد أن ذلك سيحدث قريبًا”.
تُصنف هيئة تحرير الشام، وهي فصيل إسلامي كان يتبع في السابق لتنظيم القاعدة، منظمة إرهابية من قبل الأمم المتحدة والولايات المتحدة ودول أخرى، ورصدت الأمم المتحدة والولايات المتحدة ودول أخرى مكافأة قدرها 10 ملايين دولار أمريكي مقابل رأس زعيمها أبو محمد الجولاني.
قطع الجولاني علاقاته مع تنظيم القاعدة في 2016 وسعى إلى إعادة تسويق صورة الفصيل على أنه حكومة معتدلة، لكنه حكم إدلب بقبضة حديدية، وقد وثقت وكالات الأمم المتحدة بعض الانتهاكات.
يوم الثلاثاء، قال وزير الخارجية الأمريكي المنتهية ولايته أنتوني بلينكن إن “العملية الانتقالية في سوريا يجب أن تؤدي إلى حكم ذي مصداقية وشامل وغير طائفي”.
أصر غزال على أن الحكومة الجديدة لن تأخذ في الحسبان الانتماءات الطائفية للموظفين، بل فقط قيمة العمل الذي يقدمه كل منهم.
وقال: “لقد رأيتم كيف ربّاهم نظام الأسد؛ إنهم ينادونني سيدي، تشعر أنهم مستضعفون. نحن نريدهم فقط أن يتخلوا عن هذه العقلية. أنت شخص لديك كرامة، أنا لست سيدك، أنا موظف مثلك”.
المصدر: فينانشال تايمز