يسعى آلاف الموريتانيين من الشباب والكهول وحتى الشيوخ والأطفال، إلى الكسب الوفير لتحقيق آمالهم في الحياة، وقد وجدوا في التنقيب عن الذهب في صحراء البلاد المترامية السبيل لذلك رغم المخاطر الكبيرة التي تعترضهم هناك، حيث العطش وصعوبة المسالك والحرارة الشديدة، دون أن ننسى انهيارات الآبار التي تسببت في قتل العديد منهم.
تجربة مثيرة
طقس حار، شمس حارقة وصيام، مع ذلك يتواصل توافد العشرات من الموريتانيين على صحراء تازيازت الشاسعة التابعة لمحافظة إينشيري ومناطق أخرى، شمال البلاد، بحثًا عن الذهب الذي سيقلع بهم نحو الأعلى ويجنبهم شظف العيش في بلد أغلب شبابه عاطل عن العمل، حيث تبلغ نسبة البطالة في موريتانيا، وهي الدولة الأفقر عربيًا 31.1%، وترتفع هذه النسبة عند الشباب لتصل لمستويات قياسية، فيما يعاني 89% من شعبها من الفقر، كما ذكر تقرير أصدرته الأمم المتحدة، في مايو الماضي.
يحملون معهم وسائل بدائية وبسيطة وغير مكلفة الثمن، ابتاعوها من محلات انتصبت للغرض في العاصمة نواكشوط، أو عن طريق صفحات فيسبوك خصصها أصحابها لبيع هذه الآلات نظرًا للإقبال الكبير عليها.
يستوعب قطاع التنقيب التقليدي عن الذهب في هذا البلد العربي الواقع غرب القارة الإفريقية، آلاف الموريتانيين
“بقيت أكثر من أربعة أشهر أجمع المال، حرمت نفسي من أشياء كثيرة فالحلم يستحق التضحية”، يقول شاب موريتاني يدعى محمد، قرر الذهاب إلى الصحراء رفقة صديقين له، لخوض التجربة كما فعل غيره من شباب منطقته، ويضيف محمد في حديث لـ”نون بوست” “جمعت اللازم وتوجهت لمحل يقع وسط العاصمة واشتريت آلة التنقيب، صحيح هي بدائية لكنها تفي بالحاجه في أول تجربة لنا في الصحراء”.
“أخذنا عدتنا، الآلة وما تيسر من أكل وشراب، فالمهمة صعبة وتحتاج مؤنة، كما تسلحنا بالصبر والعزيمة، وهما الأهم في كل شيء، فدونهما سنرجع أدراجنا من أول عقبة تعترضنا”، يقول محمد.
بعد مسافة ساعات طويلة وصل محمد صحبة رفيقيه، وبدأت التجربة، في يومهم الأول التقى الثلاثة بأصدقاء لهم هناك، منحوهم بعض الوقت لتقديم بعض النصائح عن كيفية البحث والتنقيب عن الذهب.
بقي الرفاق أربعة أيام في الصحراء، لم يجدوا إلا بعض الغرامات القليلة من الذهب، غير أنهم قرروا العودة إلى الديار فالأكل انتهى والماء غير متوافر، والسيارات القادمة من المدينة بالمؤونة تأخرت في القدوم، “عدنا خوفًا من الهلاك”، يقول محمد.
يؤكد محمد أنها لن تكون المرة الأخيرة: “سنرجع مرة أخرى، ما دام وضع البلاد لم يتغير، الآن اكتسبنا التجربة وتعلمنا أكثر، صحيح أن الأمر متعب، لكن الذهب من شأنه أن يذهب كل التعب والإرهاق، ويفتح أمامنا أبواب المستقبل على أوسعها”.
وعن الغرامات التي وجدوها، يقول محمد إنه سيتقاسمها مع رفيقيه بالتساوي، ووجدوها ليلًا في أحد الآبار المحفورة هناك، “انتظرنا غروب الشمس ونزلنا في أحد الأبار، لم نكن نعرف صاحبه، لكنه جديد فآثار الحفر ما زالت ماثلة للعيان، هناك وجدنا هذا الذهب”.
وتسمح السلطات الموريتانية لأكثر من عشرة آلاف موريتاني بالتنقيب عن الذهب في أماكن محددة في صحراء البلاد ولفترة معروفة، ووفق شروط معينة متفق عليها مسبقًا.
تمنح السلطات الموريتانية رخصًا للتنقيب
يستوعب قطاع التنقيب التقليدي عن الذهب في هذا البلد العربي الواقع غرب القارة الإفريقية، آلاف الموريتانيين، إذ منحت وزارة المعادن سنة 2016، آلاف الرخص للتنقيب عن الذهب، قبل أن تتوقف عن ذلك نهائيًا سنة 2017 لتعود إليه لاحقًا.
وتصدر الوزارة الرخصة باسم شخص واحد، مقابل دفع رسوم تقدر بـ106650 أوقية موريتانية أي ما يساوي 300 دولار، ولا يُشترط على صاحب الرخصة أن يكون مواطنًا موريتانيًا بشرط أن يكون موريتاني موجود في عملية التنقيب.
وقبل أيام قليلة، فتحت السلطات الموريتانية توسعة جديدة أمام المنقبين عن الذهب داخل المنطقة العسكرية المغلقة بولاية تيرس زمور شمالي البلاد، وتمتد التوسعة الجديد التي بدأت فيها عمليات التنقيب، الثلاثاء الماضي، على طول 20 كيلومترًا وبعرض 16 كيلومترًا، وتقع شمال مناطق التنقيب الحاليّة في منطقة “أكليب أندور”.
نقص في مياه الشرب
عودة محمد ورفاقه إلى العاصمة نواكشوط، كان نتيجة نفاد المؤونة وفق ما قلنا فيما سبق من التقرير، وهي المعضلة التي تواجه الكثير من المنقبين في الصحراء، فالحكومة تفرض حواجز كبرى أمام دخول السيارات لمنطقة التنقيب.
“خلال الأربعة أيام التي قضيناها هناك، واجهنا مشاكل وصعوبات عديدة، بدءًا من النقص في المياه،” يقول محمد ويضيف” جلبنا معنا كميات كبيرة من المياه لكن حرارة الطقس وطبيعة الصحراء الجافة جعلته ينتهي بسرعة، لم نكن نتوقع ذلك، كنا نظن أنه سيكفينا مدة أسبوع كامل، لكن لم يحصل ذلك”.
تعتبر انهيارات التربة من أكثر الهواجس التي تؤرق المنقبين
تفرض السلطات الموريتانية على أي شاحنة منقّبين أن تحمل نصف حمولة وزنها من المياه إلى الصحراء، للتخفيف من أي نقص في المياه يسجّل هناك، إلا أن ذلك لم يف بالغرض، فالعدد كبير والبيئة الصحراوية تزيد من العطش.
ويمنع دخول السيارات رباعية الدفع إلى أماكن التنقيب، لصعوبة التمييز بين سيارات المنقبين والمهربين الذين يستخدمون عادة مثل هذه السيارات في عمليات التهريب.
“الكولابة” وانهيارات الآبار
“لم يهلك أحد من العطش، لكن العشرات هلكوا نتيجة انهيار الآبار هناك”، وفق محمد، وقبل يومين أعلنت السلطات الموريتانية انتشال جثث 3 منقبين توفوا إثر انهيار بئر في منطقة “أكليب أندور” شمال البلاد.
وسجلت الأسبوع الماضي، حادثة بشعة لانهيار بئرين على ستة منقبين عن الذهب في نفس المنطقة، وتمكنت فرق الإغاثة من إنقاذ ثلاثة منهم، فيما عجزت عن إنقاذ المتبقين، نظرًا لضخامة الركام الذي طمرهم داخل الحفر المنهارة.
إلى جانب ذلك، ذكرت وسائل إعلام محلية عن اتحاد المنقبين، فقدان 4 منقبين عن الذهب في منطقة “أكليب أندور”، بعد سقوط آبار تنقيب عليهم، ولا تزال عملية البحث عنهم جارية إلى الآن.
سقوط العديد من الضحايا جراء انهيارات الآبار
تعتبر انهيارات التربة من أكثر الهواجس التي تؤرق المنقبين، حيث يواجه المنقبون عن الذهب الذين يعملون بوسائل تقليدية ودون وسائل سلامة، مشاكل عدة فتنهار عليهم حفريات التنقيب في مواقع ليست فيها فرق للإغاثة.
ويعتبر “الكولابة” أغلب الضحايا في مناجم التنقيب عن الذهب، و”الكولابة” هم المنقبون المتنقلون الباحثون بين مناجم غيرهم عن الذهب السطحي في جنح الليل.
هذه بعض المشاكل التي تعترض المنقبين، في صحراء موريتانيا، لكنها ليست الوحيدة، فصعوبة الطرقات وغياب إستراتيجية واضحة للتنقيب، كلها أسباب زادت من عدد الضحايا، ومع ذلك لم يتوقف المنقبين فالأعداد في تزايد مستمر.