الموصل على هامش فرضيات المواجهة بين إيران وأمريكا

ما تزال مدينة الموصل بعد مرور ما يقرب من الثلاث أعوام على تحريرها من سيطرة تنظيم داعش ترزح تحت واقع أمني تحفه الكثير من التحديات، فليس من المبالغة القول إن موضوع الأمن في الموصل بصورة خاصة والعراق بصورة عامة، يرقى اليوم إلى أن يكون قضيةً مهمة من قضايا الأمن الوطني العراقي، فهو لا يقل أهمية عن السياسة والاقتصاد، بل إنه قد يكون مقدمة لمكافحة التنظيمات الإرهابية ومواجهة المليشيات المسلحة، فهو مصدة مهمة من مصدات الأمن الوطني العراقي، وخط الدفاع الأول عن المصالح الوطنية، فترسيخ فكرة إبعاد المدينة عن الصراع الموجود في المنطقة، وجعلها مدخلًا لبلورة إجماع وطني حقيقي عن المصالح الوطنية العليا، سيشكل أرضية رصينة لبناء مجتمع سياسي ناضج ومدرك وواعٍ بضروراته الوطنية.
فلا يختلف اثنان على القيمة الإستراتيجية العليا التي تحظى بها مدينة الموصل، وتتضح هذه القيمة من خلال المزية الجيوسياسية التي تتميز بها، فهي إلى جانب موقعها الجغرافي، تتمتع بخصائص سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية تجعل صانع القرار السياسي في العراق يقف عندها مليًا عند تقرير أي سياسة أمن وطني للتعامل معها.
تهديدات تنظيم داعش ما زالت ماثلة على تخوم مدينة الموصل، خصوصًا في الجبهة الغربية من المدينة، مما يفتح مجالًا لدخول عناصر التنظيم إلى المدينة
وللتدليل على جدلية الترابط بين مدينة الموصل والصراع المتصاعد بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، تبرز الكثير من المقتربات السياسية التي توضح هذه الصورة جيدًا، فهي إلى جانب كونها قضية أمن وطني بالنسبة للعراق، فإنها تمثل من جانب آخر قضية أمن قومي بالنسبة لإيران، ومسرحًا جاذبًا لإعادة انتشار القوات الأمريكية من جهة ثالثة، فالنتائج التي أفرزتها سيطرة تنظيم داعش على المدينة وما رافقها من تداعيات في مرحلة ما بعد التحرير، أوضحت بشكل كبير أن هذه المدينة أصبحت ثقبًا أسود جر الجميع للتفاعل البيني في إطار بيئة الفعل وإستراتيجيات التفاعل.
وقوع مدينة الموصل على خطوط الصراع الممتدة من إيران حتى سوريا، سيجعل منها إحدى المناطق المرشحة للصدام بين الطرفين لأسباب عديدة منها:
1- الواقع الأمني الهش في المدينة، إلى جانب الصراع الخفي بين القوات الأمنية الماسكة بالملف الأمني، والحديث هنا عن قيادة العمليات والحشد الشعبي.
2- الانتشار العسكري الأمريكي على تخوم المدينة، وتحديدًا في قواعد الكوير وسنجار وإقليم كردستان.
3- دخول المدينة كإحدى الممرات الإستراتيجية الإيرانية، فبعد الاجتماع العسكري الثلاثي لرؤوساء الأركان (العراق وسوريا وإيران) مارس الماضي، تم الاتفاق على فتح طريق بري يربط كرمنشاه الإيرانية بمناطق سهل نينوى وحتى العمق السوري.
4- تحول حزب العمال الكردستاني إلى إحدى أوراق الضغط بيد الحرس الثوري الإيراني المصنف على قوائم الإرهاب الأمريكية، خصوصًا بعد انضمام الكثير من المليشيات الكردية المرابطة في مدينة سنجار إلى تشكيلات الحشد الشعبي.
تهديدات تنظيم داعش التي ما زالت ماثلة على تخوم مدينة الموصل، خصوصًا في الجبهة الغربية من المدينة، مما يفتح مجالًا لدخول عناصر التنظيم إلى داخل المدينة، وتحديدًا في ضوء صدور تعليمات بسحب قطع الحشد الشعبي المرابطة هناك، هو ما يفرض عبئًا آخر على الواقع الأمني في المدينة.
إذ أعلن ضابط في الجيش العراقي برتبة نقيب يدعى كريم العبيدي أن الحشد الشعبي انسحب من مناطق قضاء البعاج وجنوب قضاء سنجار وناحية القيروان وصولًا إلى منطقة تل عبطة، وهي مناطق تقع جنوب وجنوب شرق وجنوب غرب قضاء تلعفر غرب الموصل، وهو على ما يبدو توجهًا حشديًا لإدخال القوات الأمريكية المرابطة بالقرب من هذه المناطق في أعباء أمنية جديدة.
يفرض المشهد الأمني في سوريا وتحديدًا شرق الفرات، تحديًا كبيرًا على واقع المدينة الأمني، التي ترتبط برابط جغرافي مباشر مع الحدود السورية، فإلى جانب انكماش خطر تنظيم داعش، تصاعد بالمقابل خطر حزب العمال الكردستاني الذي أصبح يرمي بثقله على تخوم مدينة الموصل وخصوصًا في سنجار التي شهدت أوضاعًا أمنية غير مستقرة في الآونة الأخيرة.
على هامش الصراع المحموم في المدينة، برزت العديد من التحولات الأمنية التي قد تنعكس هي الأخرى بدورها على مجمل المشهد العام فيها
فالتداخلات في السلطات الأمنية داخل المدينة لأسباب اقتصادية وأمنية، هذا إلى جانب فساد الطبقة السياسية المسيطرة على واقع المدينة الخدمي خلال الفترة الماضية، عمق حالة عدم الاستقرار السياسي في المدينة، مما انعكس سلبًا على المبادرات الاجتماعية الواعدة وأضر كثيرًا بالجهود المجتمعية في إطار تهيئة البيئة السليمة لخلق رأي عام موحد إزاء القضايا الكبرى في المدينة.
وعلى هامش الصراع المحموم في المدينة، برزت العديد من التحولات الأمنية التي قد تنعكس هي الأخرى بدورها على مجمل المشهد العام فيها، فالتحول الأول تمثل بتنشيط الهجمات التخريبية داخل المدينة التي تراوحت مسؤوليتها بين تنظيم داعش وجهات أخرى محسوبة “افتراضًا” على حشود تسيطر على واقع المدينة الأمني، التي تحمل رسائل متعددة من أبرزها قيادة العمليات المدعومة أمريكيًا، والتحول الثاني تمثل بالدعوة المؤخرة التي أعلنها قائد عمليات نينوى اللواء نجم الجبوري الذي دعا إلى تسليح العشائر العربية خصوصًا في المناطق التي تشهد هجمات من تنظيم داعش.
أما التحول الثالث والمهم، فهو ما أشار إليه تقرير استخباري إسرائيلي تحدث عن نقل فيلق القدس الإيراني صواريخ متوسطة المدى من طراز “فتح 110″ التي يصل مداها إلى 300 كيلومتر، و”زلزال 2″ و”زلزال 3” اللذين يمكنهما الوصول إلى الأهداف على مسافة 150 كيلومترًا و210 كيلومترات على التوالي، والصواريخ الباليستية قصيرة المدى ذات الذخيرة التي يبلغ مداها 1000 كيلومتر، لاستخدامها من عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله العراقي، لاستهداف التجمعات الأمريكية المنتشرة على تخوم مدينة الموصل حتى القواعد العسكرية في التنف وعين الأسد، وهو ما يجعل المدينة إحدى ساحات المواجهة الثانوية بين الطرفين، ما مثل إحدى أسباب الزيارة السرية لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو للعراق الأسبوع الماضي.
وما يزيد من تعقيد الأمر إمكانية استخدام المليشيات المسلحة المنتشرة في داخل المدينة وتخومها ضد المصالح والأهداف الأمريكية، وتتراوح الاستخدامات الوظيفية لهذه المليشيات في إستراتيجية المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال تنشيط فعالية هذه المليشيات في شن هجمات صاروخية أو نصب مفارز على خطوط مواصلات الشركات الأمريكية العاملة في المدينة أو القيام بعمليات اختطاف للرعايا الأمريكان أو العاملين في الشركات الأمريكية، كما أنه من غير المستبعد أن يلجاء الحرس الثوري الإيراني إلى تنشيط عمليات تنظيم داعش داخل المدينة، كجزء من إستراتيجية الاستثمار بالعدو، وهو إحدى الرهانات الإيرانية في المرحلة المقبلة.
من المحتمل أن تشكل القواعد الأمريكية في مناطق شمال العراق البديل الناجح لقاعدة أنجرليك التركية، لما تتمتع به من موقع إستراتيجي مهم كونها تطل على أربع جبهات رئيسة في الأوسط (العمق العراقي والعمق السوري والبحر الأحمر وإيران وخطوط دعهما اللوجستي إلى سوريا)
ومع الانتشار الأمريكي الحاليّ في المدينة، تعمل إيران على أن تكون هذه المدينة ساحة لاستنزاف الولايات المتحدة الأمريكية في العراق، فكما هو معلوم ومع بدء معركة تحرير الجانب الأيمن من مدينة الموصل، تمركزت الكثير من القطع العسكرية الأمريكية في مطار مدينة الموصل بعد تحريره من سيطرة تنظيم داعش، إلى جانب قاعدة القيارة الجوية، ويصل تعداد القوات الأمريكية المنتشرة في هاتين القاعدتين ما بين 500-1000 أمريكي بصفة (مستشار أو متعاقد أو جندي)، ولعل زيارة كبير مستشاري البيت الأبيض جاريد كوشنر لهاتين القاعدتين خلال أبريل/نيسان 2017 في أثناء زيارته للعراق، إلى جانب الانتشار الأمريكي الكثيف في تخوم المدينة اليوم، يكشف حجم الاهتمام الأمريكي بمدينة الموصل في الوقت الحاضر، أضف إلى هذا ارتباط الموضوع بتمركز القوات الأمريكية في قاعدة سعد الجوية على الحدود السورية العراقية قرب مدينة البو كمال السورية، فضلًا عن قاعدة عين الأسد والقاعدة الأمريكية في أربيل ومخمور.
ومن المحتمل أن تشكل هذه القواعد الأمريكية في مناطق شمال العراق البديل الناجح لقاعدة أنجرليك التركية، لما تتمتع به من موقع إستراتيجي مهم كونها تطل على أربع جبهات رئيسة في الأوسط (العمق العراقي والعمق السوري والبحر الأحمر وإيران وخطوط دعهما اللوجستي إلى سوريا)، وبالتالي فإن إيران تدرك جيدًا أنها الهدف القادم بعد إنهاء داعش، وعليها الهروب إلى الأمام من أجل درء مخاطر المستقبل، ولعل عمليات استهداف الجنود الأمريكان في مناطق شرق نهر الفرات التي تتهم القيادة الإيرانية بالوقوف ورائه، تشير إلى مدى عدم الارتياح الإيراني من الوجود الأمريكي في محيط وقلب مدينة الموصل.
ففي الوقت الذي ترغب فيه الولايات المتحدة الأمريكية أن تكون تحركاتها العسكرية ضد إيران بالوقت الحاضر في إطار تحركات محدودة لعلمها بقدرة إيران على تحريك العديد من الجبهات، ولهذا فهي تسعى إلى دفع إيران نحو مواجهة بحرية وجوية، تحاول إيران نقل المعركة إلى الأرض، فخيارات إيران للمواجهة تبدو معدومة، إلا أن قدرتها على خلق فوضى في المنطقة تبقى إحدى المقيدات المهمة في إستراتيجية المواجهة الأمريكية، وعليه تبرز القيمة العسكرية لمدينة الموصل برؤية صانع القرار الأمني في إيران، فلا يمكن أن تغفل هذه المدينة عن المخيلة الإستراتيجية الإيرانية، كيف لا وهي اليوم الشريان الرئيسي المغذي لنفوذها الإستراتيجي في سوريا وإحدى مفاتيح المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية.