بمشاركة عمّارة عمروس
يتسم المشهد السياسي والأمني في شمال إفريقيا عمومًا بكثرة التهديدات والأزمات وبعدم الاستقرار الداخلي للدول، وأفرزت أحداث الحراك في كل من تونس ومصر وليبيا تداعيات وتحديات عميقة بالنسبة لأمن المنطقة واستقرار دولها وشعوبها، وطرح الحراك الشعبي في الجزائر منذ بدايته العديد من علامات الاستفهام عن تطوراته ومساراته ومدى اختلافه عن موجات الحراك العربي الأخرى من حيث الأسلوب والنتائج، وأعطت طبيعته وخصائصه انطباعًا إيجابيًا عنه بمرور الوقت، في ظل ما اتصف به من سلمية وتنظيم وإصرار على التغيير الجذري ومحاسبة أفراد النظام السابق.
لقد أصبحت الجزائر نموذجًا للتغيير السلمي الممنهج والجذري في فضائها الإقليمي، بما سيجعل شعوب شمال إفريقيا تستفيد من خصائص حراكها في نبذ العنف والسلاح في مواجهة الحكومات والتعبير عن المطالب.
في المقابل، بات سؤال التداعيات المرتبطة بهذا الحراك على صعيد منطقة شمال إفريقيا في صميم اهتمام الملاحظين والمتابعين للشأن الجزائري والعربي عامةً، ويمكن تحديد أبرز تداعيات الحراك الشعبي في الجزائر على المنطقة ككل من خلال النقاط الآتية:
– تُعد الجزائر ذات موقع سياسي وإستراتيجي مهم في شمال إفريقيا، بالنظر إلى موقعها الجغرافي وكونها نقطة إمداد أساسية بالنسبة لأوروبا في مجال الغاز الطبيعي، لذلك يحظى وضعها السياسي والأمني باهتمام الملاحظين وصناع القرار، فأي تغيير مرتقب سيؤثر بصورة أو بأخرى على التفاعلات في المنطقة.
لا تزال طبيعة العلاقات الجزائرية المغربية متوترة على الصعيد السياسي، تحديدًا بعد تشديد الجزائر في مسألة غلق الحدود من خلال بناء أسوار عالية للقضاء على التهريب ومواجهة التهديدات الأمنية الجديدة
– أدى الحراك الجزائري منذ بدايته إلى تنامي مخاوف دول المنطقة، وهي المخاوف المتعلقة أساسًا بهاجس انتقال موجة الحراك إلى دول مجاورة بشكل أو بآخر، كالمغرب مثلاً في ظل ما يعرفه من عدم استقرار سياسي واجتماعي خاصة بعد أحداث الريف في مدينة الحسيمة نهاية 2016.
– لا تزال طبيعة العلاقات الجزائرية المغربية متوترة على الصعيد السياسي، تحديدًا بعد تشديد الجزائر في مسألة غلق الحدود من خلال بناء أسوار عالية للقضاء على التهريب ومواجهة التهديدات الأمنية الجديدة، وفي سياق المرحلة الانتقالية التي تشهدها البلاد، يظل السيناريو الخطي لهذه العلاقات قائمًا، لكن أي تغيير يحققه الحراك الجزائري ستكون له تأثيراته بالنسبة للمغرب وحتى تونس، خاصة ما تعلق بطبيعة الإصلاحات المقبلة وموقع الإسلاميين في الساحة السياسية وطبيعة العلاقة بين الشعب ومؤسسة الجيش وعلاقة الدولة بالمجتمع.
– لا تنفصل هواجس دول المنطقة نتيجة الحراك في الجزائر عن الهاجس الأمني المرتبط بزحف مختلف أنواع التهديدات الجديدة العابرة للدول كالإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية، خاصة أن الجزائر تعرف انكشافًا للحدود مع كل من ليبيا وتونس ودول الساحل الإفريقي، وهو ليس بالأمر الجديد في ظل جدلية مأزق الأمن الوطني والأمن الإقليمي، لكنه يتصاعد تحت تأثير الأزمات وحالات عدم الاستقرار السياسي والأمني داخليًا.
– فضلت معظم الدول العربية والمجاورة الصمت والتحفظ عما يجري في الجزائر، في حين عبرت قوى دولية عن ترحيبها بالمرحلة الديمقراطية الجديدة التي تمر بها البلاد، كشأن الولايات المتحدة الأمريكية، وصرحت روسيا بعدم نيتها في التدخل. من جهة أخرى، أصبحت دول مثل فرنسا و”إسرائيل” أكثر قلقًا من تطورات الوضع في الجزائر وتداعياته على نفوذها في منطقة شمال إفريقيا.
خصوصيات الحراك الجزائري ومنهجه “النادر” في التغيير سيُعيد فهم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ويُضعف الأنظمة التسلطية في منطقة شمال إفريقيا والمنطقة العربية عمومًا
– يمكن القول إن سقوط نظام الرئيس “بوتفليقة” أدى إلى تراجع النفوذ الفرنسي في الجزائر، وهو ما لا يناسب فرنسا ذات المصالح الواسعة (سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا) مع الجزائر وفي منطقة شمال إفريقيا، وقد نادى الحراك الشعبي الجزائري برفض التدخل الفرنسي في الشأن الداخلي، مما عبر عن استقلالية أكبر في التعبير عن المطالب وتحقيقها.
– أدى الحراك في الجزائر إلى مخاوف إسرائيلية من أن يتحول ذلك إلى دعم أكبر للقضية الفلسطينية في شمال إفريقيا، خاصة أنه يتزامن مع حراك السودان، وهو ما سيؤثر على حجم نفوذها في المنطقة، وحسب دراسة صادرة عن مركز الأبحاث القومي في “إسرائيل” فإن الحراك الجزائري قلب مجددًا موازين الاستقرار “النسبي” في شمال إفريقيا، مؤكدةً ضرورة اهتمام صناع القرار في “إسرائيل” بخمسة توجهات أساسية بالنسبة للحالة الجزائرية وهي: “نقل السلطة واستمرار الضعف الاقتصادي ومكانة الإسلام السياسي ونشاط الحركات الجهادية وتوسيع النفوذ الروسي”.
– خصوصيات الحراك الجزائري ومنهجه “النادر” في التغيير سيُعيد فهم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ويُضعف الأنظمة التسلطية في منطقة شمال إفريقيا والمنطقة العربية عمومًا، بما يجعل الديمقراطية والتغيير يتغلبان على خصوصيات الأنظمة الشمولية، لكن هذا الوضع لا يناسب معظم الأنظمة القائمة التي أصبحت رهينة مصالح جد ضيقة على حساب شعوبها.
قد تكون تداعيات الحراك الشعبي في الجزائر أعمق مما ذكرناه، بالنظر إلى خصوصية الحالة الجزائرية والبيئة الأمنية في شمال إفريقيا خلال السنوات الأخيرة، لذلك تفضل جهات عديدة من حكومات وأحزاب وقوى فاعلة، الصمت والانتظار، في وقت لم تعد الظواهر الأمنية والتهديدات المختلفة حبيسة الحدود الوطنية الضيقة، وإنما أصبحت أكثر تعرضًا للانتشار والزحف، وتظل تداعيات الحراك في الجزائر مرتبطة بتطوراته ومستجداته، وما ستسفر عنه المرحلة الانتقالية الحاليّة، في ظل الرفض الشعبي الواضح لأي وجه من وجوه النظام السابق وللانتخابات المزمع إجراؤها شهر يوليو المقبل.