ترجمة حفصة جودة
عندما بدأت الثورة السورية قبل أكثر من 8 سنوات لم يكن يتخيل أحد – على الأقل السوريين الذين تركوا منازلهم ووطنهم هربًا من الصراع – أن تستمر كل هذه المدة. وفي بداية هذا الشهر كنت قد عدت لتوي من طرابلس بلبنان بعد تسجيل وثائقي عن حياة اللاجئين السوريين هناك.
تستحق طرابلس أن تكون أكثر من مجرد هامش في قصة لبنان، فهي ثاني أكبر مدينة لبنانية، يبلغ عدد سكانها الدائمين 400 ألف مواطن و50 ألف لاجئ فلسطيني والآن نحو 100 ألف لاجئ سوري، تعدّ المدينة غنية بتاريخها وآثارها الصليبية وتراثها المملوكي.
منطقة محظورة
عندما دخلت برفقة المنتج إلى المدينة أشار سائقنا من بيروت إلى الجبال البعيدة التي كانت موقعًا للاشتباكات بين تنظيم “الدولة” والقوات اللبنانية التي دخلت المدينة قبل عدة أعوام، ويقول السائق إنهم ما زالوا موجودين لكنهم مختبئين تلك الأيام.
ما زالت طرابلس منطقة محظورة على الزوار الأجانب ونظرًا لتاريخها الحديث فالسبب واضح، فقد كانت موقعًا للاشتباكات الطائفية منذ عقود وتفاقم الأمر مع اندلاع الحرب السورية، ووقعت أسوأ النزاعات بين حي جبل محسن وحي بابا التبانة حيث يعيش المواطنون العلويون والسنة الذين ينقسمون في ولائهم لسوريا، لكنهم يتشاركون في الفقر المدقع بالمنطقة.
توجهنا إلى مقهى المصالحة الذي أسسته ليا بارودي في 2016 كجزء من مبادرة لمنظمة غير حكومية لجمع السكان في مساحة مشتركة وكان المكان بالفعل شاهدًا على تلك المثالية، عندما وصلنا كان هناك مجموعة كبيرة من الرجال العائدين من موقع بناء حيث كانوا يعملون لإعادة بناء الأجزاء المحطمة في الأحياء التي دمرها القتال.
حي باب التبانة وجبل محسن في طرابلس 2018
يكمن نجاح المشروع في رغبته بمواجهة الظروف الأساسية التي تحتضن العنف وهي الفقر والبطالة واليأس، هذا المقهى ليس مجرد مكان يجتمع فيه الناس لتناول القهوة لكنه يقدم جلسات علاج نفسي جماعي وجلسات تعليمية، والأهم من ذلك أنه يقدم عملًا مدفوع الأجر فقط لهؤلاء الذين يرغبون في العمل بجانب من كانوا يعتبرونهم سابقًا “الأعداء”.
فصل جديد
كان علي – العلوي الذي يدير المقهى – يخشى من هذا الحي قبل عمله في المقهى، لقد رسمت قصته صورة التطرف الديني وأسوأ أشكال الكراهية، فقد كان رجلاً بائسًا بشأن المستقبل ويعاني للتخلص من إدمات المخدرات التي تعد مشكلة كبيرة في تلك الأحياء وتحذّر منها الحكومة بكثير من الملصقات.
ما ساعد علي على تغيير حياته كان مزيجًا من الدعم المادي والنفسي والطبي وإطار عمل سمح له بمقابلة جيرانه الأسطوريين الذين سمع عنهم لكنه لم يلتق بهم أبدًا.
قد يكون مبتذلًا أن أقول إن الرجال من الفصائل المختلفة يحتضنون بعضهم اليوم كالأخوة، لكن هذا ما حدث هنا بالفعل، والآن في طرابلس يمكنك الشعور ببعض الأمل، أي أنها ستبدأ فصلاً جديدًا خاليًا من العنف السياسي والانقسامات التي ميّزت تاريخها وأفسدت علاقتها بالعاصمة بيروت.
هنا في طرابلس أنت أقرب لسوريا من بيروت، والكثير من العائلات التي تحدثت معها لها أصول تتجاوز حدود لبنان، عندما اندلعت الحرب فرّ الكثير من الناس إلى أقاربهم في طرابلس معتقدين أنهم سيبقون هنا عدة أشهر فقط.
لكن بمرور الوقت أصبحت المنازل مكتظة بالسكان ونفد المال، وأصبح لزامًا على السوريين أن يعتادوا العيش في شمال المدينة وأصبح من المفترض أن يبحثوا عن عمل في القطاعات القليلة المسموح لهم بالعمل فيها.
تعد الرعاية الطبية في لبنان باهظة الثمن ورغم أن الأمم المتحدة تغطي النفقات في بعض الحالات الطارئة، فإن الكثير من العائلات ما زالت لا تملك نفقات العلاج
بالنسبة للبعض فهذا يعني إرسال الأطفال إلى العمل، حيث نلاحظ انتشار الأطفال الذين يبيعون الحلوى والمناديل في المنتزهات وإشارات المرور، رغم مخاطر العنف والتجارة غير المشروعة.
التنافس على الوظائف
هناك بعض الخلاف على الوظائف الشحيحة في طرابلس والأجور المنخفضة، وهي القضية التي استغلها بعض السياسيين للاستفادة منها، فهناك توترات وهمهمات وإحباطات بسبب المشاكل الواسعة التي تواجه الشعب اللبناني مثل عدم كفاية التعليم والرعاية الطبية الباهظة والكهرباء المتقطعة، ويشعر الكثيرون بأن مشكلات البنية التحتية تتفاقم بسبب الوجود السوري طويل الأجل.
لقد حاول بعض السوريين بالفعل العودة إلى بلادهم وغادر بضعة مئات منهم طرابلس أملاً في الهرب من الحياة إلى الأبد في المنفى رغم المخاطر الأمنية المستمرة، وما زال مئات اللاجئين يصطفون يوميًا أمام مكتب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين “UNHCR” الذي يقع في حاوية مؤقتة على بعد عدة أمتار من معرض رشيد كرامي الدولي وهو التحفة المعمارية التي بناها البرازيلي أوسكار نيمار في الستينيات.
وجود المكانين بجوار بعضهما البعض يشير إلى الآمال المحطمة في المدينة ومطارها غير المستغل ومعارضها المتهالكة. لقد تحوّلت أحلام طرابلس إلى واقع من آلاف اللاجئين البائسين المصطفين أمام مكتب الأمم المتحدة للحصول على خدماتها.
قصة مألوفة
تعد الرعاية الطبية في لبنان باهظة الثمن ورغم أن الأمم المتحدة تغطي النفقات في بعض الحالات الطارئة، فإن الكثير من العائلات ما زالت لا تملك نفقات العلاج. وقد أكد عمدة المدينة نفسه قصص احتجاز المستشفيات للأطفال وحجبهم عن عائلاتهم التي لا تستطيع دفع الفواتير الطبية، أما هؤلاء الذين يعانون من أمراض خطيرة وغير مميتة فلا يمكنهم الحصول على علاج.
ولا يقتصر وضع اللاجئين السوريين على تجربة فردية واحدة، فالانقسامات الطبقية تعد حادة للغاية بين العائلات الغنية ذات الصلات المحلية والعائلات الفقيرة الريفية التي وصلت لبنان دون أي شيء، مع وجود تشابه بين أحلام الشباب سواء كانوا سوريين أم لبنانين الذين يدركون جيدًا أن الحدود ستضع حدًا لتطلعاتهم.
التقينا بمجموعة من الشباب الذين يحلمون بتأسيس فرقة موسيقية تسمى “تروبادور” تتجوّل في أنحاء العالم وتنشر الحب والسلام، لكن موهبتهم وطموحاتهم أكبر بكثير من الفرص المتاحة أمامهم، هذا الانفصال هو القصة المألوفة للشباب المتحمسين في المنطقة الممتلئين بالأمل والمثل العليا والمحبطين من واقع يبدو أنه لن يتغير قريبًا.
المصدر: ميدل إيست آي