بعد 13 عامًا من قرار أنقرة سحب سفيرها من سوريا وإغلاق سفارتها في دمشق في مارس/آذار 2012، أبلغ وزير الخارجية هاكان فيدان السفير التركي في موريتانيا برهان كور أوغلو، بتعيينه قائمًا بأعمال السفارة في دمشق لفترة مؤقتة، عقب زيارة رئيس الاستخبارات التركية إبراهيم كالن لدمشق مع وفد استشاري، ولقائه القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع.
تُعتبر تركيا أول دولة تُعيد تمثيلها الدبلوماسي في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، ما يعكس تحولًا مهمًا في المشهد، بداية مرحلة جديدة من العلاقات بين دمشق وأنقرة بعد أكثر من عقد على القطيعة السياسية.
من هو كور أوغلو؟
وُلد السفير برهان كور أوغلو في إسطنبول عام 1962، وبعد تخرجه من قسم الفلسفة في جامعة إسطنبول، أكمل درجة الماجستير في الجامعة الأردنية والدكتوراه في الفلسفة الإسلامية في جامعة مرمرة.
عمل كور أوغلو عضوًا في هيئة التدريس في جامعة مرمرة، وكلية ميدلبري (الولايات المتحدة الأمريكية)، والجامعة الأردنية، وجامعة باهتشه شهير، وجامعة ابن خلدون، قبل أن يعمل أخيرًا كأستاذ في معهد أبحاث الشرق الأوسط والدول الإسلامية في جامعة مرمرة.
كما شغل في فترات مختلفة منصب مدير مركز جامعة باهتشه شهير لأبحاث الحضارة، ومدير معهد العلوم الاجتماعية بجامعة ابن خلدون، ورئيس قسم الفلسفة بجامعة ابن خلدون، وباحث متخصص في مركز أبحاث الجزيرة في دولة قطر.
ولفترة من الوقت كان برهان كور أوغلو رئيس مجلس إدارة تلفزيون “الجزيرة” التركي، ولديه مؤلفات وترجمات باللغات التركية والعربية والإنجليزية في مجالات الفلسفة الإسلامية والفكر السياسي والعلاقات التركية العربية، وتم تعيينه سفيرًا لتركيا في موريتانيا نهاية العام 2023.
علاقة مضطربة
خلال العقد الأول من حكم بشار الأسد وقبل انطلاق ثورة 2011، شهدت العلاقات السورية التركية تحسُّنًا ملحوظًا بعد سنوات من التوترات والعداء، وذلك ضمن سياسة أنقرة الجديدة بالانفتاح على دول الشرق الأوسط والعالم العربي، وتنفيذًا لما عُرف بسياسة “صفر مشاكل”.
هذه العلاقات جاءت بعدما مر البَلدان بعدة أزمات من بينها الخلافات الحدودية، خاصة فيما يتعلق بلواء اسكندرون (محافظة هاتاي)، الذي ضمّته تركيا عام 1939 فيما اعتبرته سوريا أرضًا محتلة، كما اتهمت تركيا نظام حافظ الأسد بإيواء وتقديم الدعم لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، والمصنَّف في تركيا كحزب إرهابي.
وفي ظل تصاعد الخلاف بين الطرفَين وقّعا في نهاية عهد الأسد الأب اتفاق أضنة عام 1998، والذي شكّل نقطة تحول كبيرة، حيث تعهّدت سوريا بوقف دعمها لحزب العمال الكردستاني، وطرد عبد الله أوجلان.
هذه الاتفاقية واستلام بشار الحكم في عام 2000، أدى إلى علاقات جديدة بين البلدين، حيث وُقّعت اتفاقيات اقتصادية وتجارية لتسهيل الاستثمارات والتعاون الاقتصادي، وفي عام 2009 ألغت تركيا وسوريا تأشيرات الدخول بين البلدَين، ما سهّل حركة المواطنين وعزز السياحة والتجارة.
كما تعاون البلدان في عدة قضايا إقليمية، مثل دعم القضية الفلسطينية، والعمل على تعزيز استقرار الشرق الأوسط، كما لعبت تركيا دور الوسيط بين سوريا و”إسرائيل” في محادثات غير مباشرة عام 2008.
وُصفت الفترة التي سبقت عام 2011 بالعصر الذهبي للعلاقات التركية-السورية، وتميزت بعلاقات عائلية وشخصية بين رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان، والرئيس المخلوع بشار الأسد، وكانت سوريا بوابة لوصول تركيا إلى العالم العربي ثقافيًا واقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا.
وكانت اتفاقية التعاون الاقتصادية بين تركيا وسوريا في عهد النظام السابق كارثة على الاقتصاد السوري والمصنّعين السوريين، وأدّت إلى توقف كثير من المعامل والمصانع، وتضرُّر المصالح الصغيرة والمتوسطة للمواطنين السوريين، إذ أُغرقت الأسواق السورية بالبضائع تركية المنشأ على حساب المنتج المحلي.
لكن اليوم وبعد أكثر من 10 سنوات من اقتصاد الحرب، و20 عامًا من إطلاق بشار الأسد عملية التحديث الاقتصادي في سوريا، والتي تسبّبت في آثار مدمّرة على الاقتصاد السوري والطبقة المتوسطة تحديدًا، يبدو أن سوريا بحاجة لتوطيد العلاقة السياسية مع تركيا، نظرًا إلى أهميتها في مساعدة الدولة الناشئة على بناء اقتصادها من جديد.
تحولات الموقف التركي
لكن مع انطلاقة شرارة الثورة السورية، تعرضت العلاقات بين تركيا ونظام الأسد لتحولات جذرية، متأثرة بالتطورات السياسية والأمنية في سوريا، إذ دعت أنقرة النظام السوري إلى ضرورة إجراء إصلاحات سياسية.
وزار وزير الخارجية التركي آنذاك أحمد داود أوغلو، دمشق عدة مرات حمل في آخرها “رسالة حازمة” للأسد، محذرًا إياه من مصير مشابه لصدام حسين أو معمر القذافي إذا لم يستجب للمطالب الشعبية، حتى أغلقت تركيا سفارتها في دمشق عام 2012، وسحبت طاقمها الدبلوماسي احتجاجًا على ممارسات النظام.
ومع تفاقم الأزمة السورية، صعّدت أنقرة من لهجتها ضد الأسد، وقدمت دعمًا سياسيًا ولوجستيًا للمعارضة السورية، ووافق البرلمان التركي على مذكرة تسمح للجيش بدخول الأراضي السورية.
لكن مع تعقيد المشهد السوري وظهور تنظيمات متطرفة، إضافة إلى المشاكل الداخلية الناشئة عن وجود مئات الآلاف من اللاجئين على أراضيها، بدأت تركيا في إعادة تقييم سياساتها تجاه النظام السابق في سوريا.
كانت آخرها تصريحات الرئيس أردوغان قُبيل أيام قليلة من انطلاق عملية “ردع العدوان”، تعبّر عن رغبة في تطبيع العلاقات مع دمشق والوصول إلى حل سياسي للقضية السورية، إلا أن دمشق تمسّكت بشروطها المسبقة، وأبرزها انسحاب القوات التركية من شمال غربي سوريا، وقِيل إن هذا كان أحد أسباب تخلي روسيا عن الانخراط في حماية نظام الأسد مرة أخرى من زحف الثوار نحو دمشق.
سوريا الجديدة ودور تركيا المحوري
يحمل مستقبل العلاقات بين تركيا والإدارة السورية الجديدة في طياته فرصًا وتحديات عديدة، تنبع من السياقات الإقليمية والدولية الراهنة، والتاريخ الطويل من الروابط المعقدة بين البلدَين، وسيلعب السوريون في تركيا دورًا محوريًا في صياغة العلاقات الثنائية، حيث سيسهم وجود ملايين اللاجئين السوريين في تركيا في تعزيز الروابط الاجتماعية والاقتصادية بين الشعبين في مرحلة ما بعد نظام الأسد، ومن من المتوقع أن يصبح هؤلاء اللاجئون قاعدة حيوية للتواصل السياسي والدبلوماسي بين تركيا وسوريا.
أما بالنسبة إلى تركيا، فإن سوريا تشكّل جسرًا مهمًّا للعودة إلى العالم العربي، بعد فترة من الانكفاء بسبب التحديات الاقتصادية الداخلية وتصاعد خطاب العنصرية ضد اللاجئين والأجانب، وفرصة لتعزيز نفوذها الإقليمي ودورها كشريك رئيسي في إعادة بناء نظام مستقر في البلاد.
حافظت أنقرة طوال 14 عامًا على موقفها الداعم لحقوق الشعب السوري، وحتى خلال فترة التقارب التي سبقت سقوط نظام الأسد، شدّد الدبلوماسيون الأتراك على ضرورة تحقيق انتقال سياسي في البلاد.
وخلال سنوات من الصراع الطويل في سوريا، اعتمدت الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الشمال السوري المحرر على تركيا، وأصبحت العملة التركية هي العملة المتداولة بين الناس، إضافة إلى افتتاح فرع لمؤسسة البريد التركية، وفروع لجامعات تركية مثل جامعة غازي عنتاب.
إن زيارة إبراهيم قالن، رئيس جهاز الاستخبارات التركي، لسوريا وصلاته في الجامع الأموي ولقائه بأحمد الشرع، رئيس الإدارة السورية الانتقالية، بعد أقل من أسبوع من نصر الثورة، كانت إشارة واضحة إلى رغبة تركيا في أن تكون شريكًا رئيسيًا في إعادة تشكيل سوريا الجديدة، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الأمني، خاصة بعد الدعم السياسي الذي قدمته تركيا لعملية “ردع العدوان”، وما أُثير عن دور أنقرة في دعم الثوار السوريين في تعزيز قدراتهم السياسية والعسكرية.
سيكون دور القائم الجديد بأعمال السفارة التركية في دمشق، برهان كور أوغلو، محوريًا في هذه المرحلة الانتقالية، إذ يمكن أن يلعب دورًا رائدًا في دعم النظام الجديد على تعزيز الحوار الوطني بين السوريين من ناحية، وبين سوريا وتركيا من ناحية أخرى، وذلك لخلفيته الأكاديمية والفكرية في الفلسفة الإسلامية والعلاقات الثقافية.
وهذه الخلفية هي ما يجمعه برئيس الاستخبارات التركية الحالي، والمعروف بإنتاجاته الفكرية والفلسفية، إضافة إلى دوره في تعزيز دور أنقرة الإقليمي، والمحافظة على إقامة دولة سورية موحدة، والتعاون مع مقاتلي الجيش الوطني في إنهاء تهديد الميليشيات الانفصالية على حدودها الجنوبية.