لا يمكننا أنْ ننكرَ أبدًا أنّ تطبيقات الأجهزة المحمولة قد غيّرت الكثير من جوانب حياتنا وأثّرت عليها بطرقٍ مختلفة، سواء في مجالات التواصل أو التسوّق أو السفر أو طلب الطعام أو إجراء معاملاتك المصرفية أو طلب سيارة أجرة وغيرها الكثير الكثير. بكلماتٍ أخرى، أصبح بإمكاننا اليوم القول أنّ هناك تطبيقٌ لكلّ شيء.
ولو عدنا بالزمن إلى ما قبل عشر سنوات تقريبًا، لربّما كنّا نرى أنّ ثمة راحةً تامّة تكمن برفعنا لسمّاعة الهاتف وطلب وجبة الغداء أو العشاء من مطعمٍ قريبٍ يقدّم خدمات التوصيل السريع الذي يُعفينا من عناء إعداد وجبة الطعام في المنزل أو من الخروج لتناولها خارجًا. أمّا اليوم، فنحن لا نستطيع طلب وجبات الطعام وحسب، بل أصبح بإمكاننا التسوّق وشراء حاجياتنا اليومية جميعها من خلال تطبيقات مختلفة ومتنوّعة.
قد يختلف الأمر من منطقةٍ لأخرى بكلّ تأكيد. لكنْ على سبيل المثال، أستخدم منذ قدومي إلى تركيّا تطبيقًا مختصًا بتوصيل المياه للمنزل، وآخر لتوصيل عبوات غاز الطبخ، وآخر لتوصيل ما قد تجد نفسك فجأة بحاجةٍ إليه دون أنْ تملك الدافعية للخروج من المنزل وشرائه من أقرب متجرٍ لك. عدا عن تلك التطبيقات المختصة فقط بالطعام وتوفّر كمًّا هائلًا من الخيارات التي قد تحيّر أكثر ممّا قد تقدّم إجابةً واضحة وصريحة لسؤال ماذا سنأكل اليوم.
ومع كلّ التقدّم الحاصل حولنا، فقد أعادت هذه التطبيقات تشكيل وتحديد العديد من المعايير الاجتماعية والاقتصادية للأفراد، سواء على مستوى كثرة الخيارات أو تسهيل الحصول على الطعام أو إمكانية تجربة الجديد منه بين الفينة والأخرى. إلّا أنّ هذا لا يمنع من أنّ أبعادًا أخرى اكثر عمقًا ترتبط بالمشهد والتغيّرات التي تحدث داخله.
هل ستقتل تطبيقات الطعام المطابخَ؟
واحدة من التغييرات المهمّة لهذا التغيّر الحاصل ستكون بلا شكّ في شكل المطابخ والمطاعم وصناعة الطعام. ونحن هنا لا نتحدّث عن تغيّر بسيط أو بالكاد نلاحظه، وإنّما نتحدّث عن زيادة في مبيعات التوصيل بمعدّل سنوي يزيد عن 365 مليار دولار في عام 2030 في جميع أنحاء العالم، بعد أنْ كان فقط 35 مليار دولار في العام الماضي. مع العلم أنّ جيل الألفية يميل إلى استخدام هذه التطبيقات والطلب من خلالها أكثر بثلاث مرات من الأجيال التي تسبقه، حتى أن استخدامه لتطبيقات الطعام والمطاعم قد زاد بنسبة 70٪ منذ عام 2014 ليومنا هذا.
يرى البعض أنّ تطبيقات توصيل الطعام قد تغير من مكانة المطبخ في المنزل، لدرجة أنّ خبرة الطهي لن تعودَ كما كانت عليه في السابق، فقد تصبح غير مهمّة أو تتقلّص إلى إعداد وجبة إفطارٍ خفيفة أو فنجانٍ من القهوة أو الشاي
يُشير تقريرٌ نُشر العام الماضي بعنوان “هل مات المطبخ؟” إلى أنّ هذا التحوّل قد يغيّر من مكانة المطبخ في المنزل، لدرجة أنّ خبرة الطهي لن تعودَ كما كانت عليه في السابق، فقد تصبح غير مهمّة أو تتقلّص إلى إعداد وجبة إفطارٍ خفيفة أو فنجانٍ من القهوة أو الشاي، تمامًا كما تقلّصت العديد من المهارات والأعمال اليدوية التي كانت الأجيال السابقة تقوم بها من قبل، مثل خياطة وإصلاح الملابس أو كيّها على سبيل المثال. يمكن أنْ نصل لمرحلةٍ يصبح فيها تصميم المنازل دون مطابخ أو منازل بمطابخ صغيرة جدًا غير مخصصة للطبخ وإعداد الواجبات العائلية الكبيرة.
مطاعم افتراضية للتوصيل فقط
على مستوى المطاعم، فقد أدّت الزيادة الهائلة في استخدام تطبيقات التوصيل إلى الحاجة لإعادة ترتيب أولويّاتها لتنسجم مع التغيّر الحاصل. فمن جهة، الكثير من تلك المطاعم أصبحت تكرّس المزيد من الوقت والمساحة لتلبية طلبات المنازل، ومن جهةٍ ثانية ساعد الأمر على ظهور أماكن مخصّصة للطبخ فقط دون وجود مساحةٍ للجلوس أو لخدمة الزبائن، فهي تقوم بإعداد الطعام خصّيصًا للتسليم المنزلي فقط لا غير، وهو ما يخرج الكثيرين من روّاد المشاريع الصغيرة أو الجديدة من مأزق العثور على مكانٍ ودفع أجاره والتكاليف الأخرى المرتبطة به.
تقوم المطاعم الافتراضية على خدمة التوصيل المنزلي فقط لتخفيف أعباء التكاليف المادية للعمالة والإيجارات والضرائب
يُعرف هذا النوع من المطاعم باسم المطاعم الافتراضية أو مطابخ الأشباح أو المطابخ السحابية، حيث لا تمتلك مكانًا واقعيًا وإنما يقتصر وجودها فقط على التطبيقات والمواقع الإلكترونية المخصصة لخدمات التسليم والتوصيل المنزلي. وبالفعل، أثبتت العديد من التقارير أنّ هذا النوع من المطاعم يساعد روّاد الأعمال على خفض تكاليف العمالة واستئجار العقارات ودفع الضرائب. كما لا تحتاج مطابخ الأشباح إلى القلق بشأن موقعها المادي أو تصميمها الداخليّ مثل المطاعم التقليدية، إذ يمكنها الاعتماد على أماكن متواضعة ومساحاتٍ أصغر لأهداف التوفير.
ونحن هنا لا نتحدث فقط عن توصيل البيتزا أو الوجبات السريعة وحسب، بل هناك اتجاه أو ميل عام نحو مختلف أنماط المطابخ المتنوعة سواء العالمية أو الطبخ التقليدي المنزلي أو حتى قد يصل الأمر لطلب وجبة الإفطار أو طبقٍ من الحلوى أو المثلّجات للبيت عندك. فيما تخبرنا الأرقام والإحصائيات التي ذكرناها في بداية التقرير أنّ مجال آخذٌ بالنموّ أكثر وأكثر مع الوقت، لذلك ربّما يكون بالفعل فرصةً جيّدة لروّاد الأعمال أو المستثمرين الجدد لينطلقوا في عالم الطعام والتوصيل المنزلي.
الميل لطلب الطعام عن طريق تطبيقات الهواتف الذكية لن يقتل المطابخ البيتية أو فكرة المطاعم التقليدية أبدًا، فنحن لا نزال نرى في الطعام طقسًا اجتماعيًا يخلق نمطَ حياةٍ صحّي لا يمكن الاستغناء عنه لصالح تطبيقٍ أو غيره
كما تدفعنا كلّ هذه التطوّرات إلى التفكير في كيفية الاعتماد على الذكاء الاصطناعي مستقبلًا ليخدم هذا الجانب من التكنولوجيا، كأنْ تصبح التطبيقات قادرة على التنبؤ بأنماط الطلبات وتتعامل مع مشاكل العملاء بشكلٍ أكثر تطورًا، أو حتى في كيفية توصيل الوجبة من المطعم أو المطبخ للبيت. هناك محاولات فعلية لاستخدام طائرات بدون طيار لخدمة توصيل الطعام إلى باب المنزل تقوم بها عدد من الشركات من ضمنها أوبر.
ومع ذلك، على الرغم من الراحة التي تقدّمها هذه التطبيقات، إلا أنّ العملاء ومستخدمي التطبيقات لا يكتفون بسهولة حصولهم على وجبة الطعام وحسب، وإنّما يبحثون عن نوعٍ من الاعتراف أو التفاعل الاجتماعيّ والتواصل الشخصي مع المطعم الذي يطلبون منه. في واحدٍ من الاستطلاعات، صرّح 70% من المشاركين أنّهم يبحثون عن التطبيقات التي تقدم عروضًا مخصصة وتعبّر عن اهتمامها بزبونها وبمعرفتها له، عوضًا عن تلك التي تقدّم الخصومات والصفقات الخاصة.
وهو ما يؤكّد لنا أنّنا مهما اعتمدنا على التطبيقات الذكية لتسهيل حياتنا أو لتعزيز انسحابنا من المجتمع وتقليل الاحتكاك به إلّا أنّنا سنبقى في حاجةٍ دائمة إلى نوعٍ من التفاعل البشري والاجتماعي اللازم لاستمرارية حياتنا. لهذا ربمّا يمكننا القول أنّ الميل لطلب الطعام عن طريق تطبيقات الهواتف الذكية لن يقتل المطابخ البيتية أو فكرة المطاعم التقليدية أبدًا، فنحن لا نزال نرى في الطعام طقسًا اجتماعيًا يخلق نمطَ حياةٍ صحّي لا يمكن الاستغناء عنه لصالح تطبيقٍ أو غيره.