ترجمة وتحرير: نون بوست
على إثر الثورات العربية التي اندلعت في سنة 2011، بدأت المؤسسات متعددة الأطراف في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في إبداء اهتمام أكبر بالترويج للمشاريع الصغيرة ومتوسطة الحجم كوسيلة للتنمية الشاملة، التي تسبّب ضعفها بشكل كبير في تأجيج الانتفاضات. وفي هذا الإطار، ساهم كل من المتبرّعون ومؤسسات التنمية والبنوك إما في إنشاء برامج جديدة للشركات الصغيرة والمتوسطة أو تطوير البرامج الموجودة بالفعل، إذ عادة ما يكون ذلك عن طريق تقديم القروض أو المساعدة التقنية.
في الواقع، تكافح الشركات الصغيرة والمتوسطة في المنطقة منذ فترة طويلة للحصول على رأس المال بمختلف أشكاله: المالية والمادية والبشرية. فضلا عن ذلك، كشفت العديد من الدراسات والتقارير عن النمو الضعيف لهذه الشركات وحصتها الضئيلة من مجموع الصادرات والاستثمار الأجنبي. كما مثّل تحسين الشركات الصغيرة والمتوسطة بداية جيّدة للشروع في إنشاء نموذج شامل للتنمية، قادر على الدمج بين توفير فرص العمل والنمو المرتفع، خاصة وأن كلاهما مطلوب بكثرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
قبل أن تتمكن المنطقة من تطوير قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى أقصى إمكاناته، يجدر بها أن تساعد مؤسساتها الصغيرة على النمو
ونظرًا للأهميّة التي تحظى بها الشركات الصغيرة والمتوسطة فيما يتعلق بقصص النجاح الاقتصادي في مناطق أخرى، على غرار شرق آسيا، فمن المنطقي أن الترويج لها سيكون له التأثير ذاته في العالم العربي. ومن المؤسف أن هذا المنطق لا يتناسب كثيرًا مع الواقع الاقتصادي في بعض البلدان الأكثر اكتظاظًا بالسكان في المنطقة، على غرار مصر وتونس والمغرب (وسوريا قبل الحرب الأهلية). وإلى جانب ذلك، لا تعدّ أغلب هذه الشركات المملوكة للقطاع الخاص، في هذه المناطق، صغيرة أو متوسطة، بل متناهية الصغر، وعادة ما توظف أقل من خمسة أو ستة أشخاص، كما أنها غالبا ما تعمل بشكل غير رسمي.
علاوة على ذلك، تضمّ هذه الاقتصادات عددا قليلا للغاية من الشركات الصغيرة والمتوسطة، كما أن حصصها في الإنتاج والتوظيف والاستثمار، ضئيلة للغاية. ولكن قبل أن تتمكن المنطقة من تطوير قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى أقصى إمكاناته، يجدر بها أن تساعد مؤسساتها الصغيرة على النمو. وعوضا عن الترويج لعدد قليل للغاية من المشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم الموجودة بالفعل، ينبغي أن يكون إنشاء المزيد من هذه المشاريع، محور اهتمام الجهات المتبرّعة والتدخلات الإنمائية.
في إطار دراسة أجرتها الشبكة الأورو-متوسطية للدراسات الاقتصادية سنة 2017، تشكل المشاريع المتناهية الصغر التي يقل عدد موظفيها عن أربعة أو 10 موظفين، وفقًا للتعريف المعتمد في كل دولة، حوالي 91 بالمئة من مجموع الشركات المملوكة للقطاع الخاص في مصر، و89 بالمئة في الأردن، و98 بالمئة في تونس والمغرب. وغالبا ما تعمل هذه المؤسسات بشكل غير رسمي، دون الحصول على أي تصاريح أو تراخيص، ودون أن تكون مسجّلة لدى الدولة، كما أنها تجري معظم معاملاتها نقدًا، مما يجعل من المستحيل تقريبا كشفها.
، تتمثّل العقبات الرئيسية التي تقف أمام تطوير المشاريع متناهية الصغر في الطبيعة غير الرسمية التي تحملها، حيث أن الأجهزة البيروقراطية في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ليست على علم بمجموعات المشاريع متناهية الصغر التي تعمل داخلها
بالإضافة إلى ذلك، يتركّز عدد كبير من هذه المؤسسات في مجال التجارة والخدمات الوضيعة في المناطق الحضرية والريفية، مما يؤكد محدوديّة وصولها إلى أي نوع من أنواع رؤوس الأموال. وتجدر الإشارة إلى أن جميع الدول الأربعة مكتظة بالسكان، ولا تعتمد اقتصاداتها على الهيدروكربونات.
لقد خاضت جميع هذه البلدان العديد من المراحل المتعلّقة بالتحرير الاقتصادي والخصخصة تحت إشراف المؤسسات المالية الدولية والمفوضية الأوروبية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ما ساهم في جعل الأنشطة الخاصة، التي توفر الحصة الأوفر من إجمالي الناتج المحلي وفرص العمل، تهيمن على اقتصاداتها.
لكن، في العموم، تعاني هذه القطاعات الخاصة من “متلازمة الوسيط المفقود”، حيث يطغى عدد قليل للغاية من المؤسسات الخاصة الكبيرة المتمركزة في القمة (عادة ما تكون موجودة في قطاعات تتطلّب رأس مال وتكنولوجيا ومهارات كبيرة) على عدد هائل من الشركات الصغيرة، التي تنشط في قطاعات تتطلّب جهدا بشريا كبيرا وإنتاجية منخفضة. وفي الواقع، فشلت تجارب التحول التي خاضتها هذه البلدان منذ التسعينيات في خلق طبقة متوسطة من المؤسسات الصغيرة ومتوسطة الحجم.
والجدير بالذكر أن أبرز مثال على ذلك، مصر، التي تُعتبر أكبر الدول العربية من حيث التعداد السكاني، حيث يصل عدد سكانها إلى 100 مليون نسمة. وقد شكّلت الشركات الصغيرة والمتوسطة حوالي 4 بالمئة من مجمل الشركات الموجودة فيها سنة 2006، مقارنة بماليزيا التي بلغت نسبة هذه الفئة من الشركات فيها 51.7 بالمئة. (كما هو الحال في الدول الأخرى التي تقع شرقيّ آسيا، يعدّ نجاح ماليزيا في تنمية الشركات الصغيرة والمتوسطة نتاجا لتضافر الجهود التي تبذلها الدولة في العديد من المجالات، على غرار إمكانية الحصول على التمويل والأراضي والمساعدة التقنية).
لا تعدّ عملية إنشاء مثل هذه الروابط المؤسسية بين مؤسسات الدولة والقاعدة الواسعة للمشاريع متناهية الصغر مهمة سهلة
في الواقع، تتمثّل العقبات الرئيسية التي تقف أمام تطوير المشاريع متناهية الصغر في الطبيعة غير الرسمية التي تحملها، حيث أن الأجهزة البيروقراطية في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ليست على علم بمجموعات المشاريع متناهية الصغر التي تعمل داخلها. فضلا عن ذلك، هناك علاقة عدم ثقة بين الطرفين، خاصة من قبل المشاريع متناهية الصغر، التي تشتبه في أن أي عملية تقديم للمعلومات من جانبها ستؤدي إلى فرض ضرائب عليها، أو تجعلها عرضة لشبهات الفساد والابتزاز من مسؤولي الدولة، الأمر الذي يجعل من الصعب تنمية هذه المؤسسات.
لتجاوز هذه المشكلة، ينبغي على الحكومات والجهات المانحة الدولية إيلاء أهمية بالغة لخلق روابط مؤسسية بين المشاريع متناهية الصغر والهيئات الحكومية والبنوك والصناديق الخاصة، وهو ما يتطلّب من الهيئات الحكومية الاعتماد على الممارسات الاجتماعية والاقتصادية الحالية للمشاريع متناهية الصغر. من جهتها، نجحت هذه الشركات في تطوير رأس مال اجتماعي قائم على شبكات الأسرة والأحياء، والتي استطاعت من خلالها حشد الموارد المالية والبشرية، بالإضافة إلى النفاذ إلى أسواق السلع والخدمات.
في حال وجود احتمال بأن يعترف ممثّلو الدولة بهذه المشاريع وإضفاء طابع رسمي عليها في جمعيات التنمية المحلية والاجتماعية المدمجة، فسيساهم ذلك في جمع ومعالجة المعلومات. ومن المحتمل أن تعمل هذه الجمعيات كوسيط من شأنه أن يحصل على ثقة الأعضاء المحليين أثناء قيامهم بدور المحاورين مع الوكالات الحكومية والجهات المانحة في مجالات توفير الاعتمادات والمساعدة التقنية.
في الواقع، لا تعدّ عملية إنشاء مثل هذه الروابط المؤسسية بين مؤسسات الدولة والقاعدة الواسعة للمشاريع متناهية الصغر مهمة سهلة، إذ أنها تتطلّب تضافر جهود سياسية وإدارية كبيرة. في المقابل، تُعتبر مثل هذه الجهود أمرا في غاية الأهمية لبناء قطاع قوي من الشركات الصغيرة والمتوسطة، وتحقيق تنمية شاملة.
المصدر: بلومبيرغ