ترجمة وتحرير: نون بوست
أدت الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، بقيادة هيئة تحرير الشام، إلى إفراغ سجون البلاد من السجناء.
العديد من أولئك الذين غادروا المعتقلات بعد أن قضوا فيها سنواتٍ أو عقودًا، ظهروا شاحبين وجائعين، وغالبًا ما تحمل أجسادهم آثار التعذيب على يد جلادي الأسد.
أحد أسوأ تلك المعتقلات، سجن صيدنايا المترامي الأطراف، على بعد حوالي 30 كيلومترا شمالي دمشق؛ حيث يُعتقد أن الآلاف قد أُعدموا في هذا السجن المعروف باسم “المسلخ البشري”.
كانت الأساليب التي استخدمها بشار امتدادا لأساليب والده حافظ الأسد، الذي حكم سوريا بين عامي 1970 و2000.
أخذ النظام جزءا من تلك الممارسات من مجرم الحرب النازي ألويس برونر، الذي عاش في سوريا أكثر من نصف حياته، وعمل مستشارًا للدولة في قمع المعارضة وإرساء منظومة التعذيب.
ألويس برونر والهولوكوست
وُلد برونر في أبريل/ نيسان 1912 في مدينة فاس المجرية، والتي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية النمساوية المجرية، وبحلول نهاية العشرينيات من القرن العشرين كان عضوًا في الحزب النازي، قبل أن ينضم إلى قوات الأمن الخاصة عام 1938 بعد ضم ألمانيا للنمسا.
كان برونر الساعد الأيمن لأدولف أيخمان، مهندس الهولوكوست والمسؤول عن تنفيذ عمليات القتل الجماعي لليهود في جميع أنحاء أوروبا، وكان من ضمن المناصب التي شغلها برونر منصب قائد في معسكر الاعتقال والعبور في درانسي شمال غرب باريس؛ وفي معسكر الاعتقال في بريندونك بين أنتويرب وبروكسل في بلجيكا.
ووفقًا لما ذكره إفرايم زوروف من مركز سيمون فيزنتال، فإن برونر “كان مسؤولاً عن ترحيل 128,500 يهودي إلى معسكرات الموت”، كان من بينهم 47,000 من النمسا، و44,000 من اليونان، و23,500 من فرنسا، و14,000 من سلوفاكيا، وأكد زوزوف: “لقد كان معاديًا متعصبًا للسامية وساديًا وشخصًا كرس حياته للقتل الجماعي ليهود أوروبا”.
أظهرت العديد من المقابلات التي نُشرت خلال ثمانينيات القرن الماضي عدم ندم برونر على دوره في الهولوكوست؛ حيث قال لصحيفة شيكاغو صن تايمز عام 1987: “لقد كان جميع [اليهود] يستحقون الموت لأنهم كانوا عملاء الشيطان وقمامة بشرية. لا أشعر بأي ندم، وإن استطعت سأفعل ذلك مرة أخرى”.
نُقل عنه قبل ذلك في مقابلة مع إحدى المجلات الألمانية عام 1985 أنه قال: “الشيء الوحيد الذي ندمت عليه هو أنني لم أقتل المزيد من اليهود”.
وصول برونر إلى الشرق الأوسط
بعد هزيمة ألمانيا النازية عام 1945، فرّ برونر مستخدمًا جواز سفر مزور للصليب الأحمر، وتوجه أولاً إلى مصر ثم إلى سوريا عام 1954، وبقي هناك بقية حياته.
كانت سوريا في ذلك الوقت أرضًا خصبة لبرونر، فبعد إنشاء دولة إسرائيل عام 1948 والنكبة التي طُرد على إثرها أكثر من 700,000 فلسطيني من منازلهم وأراضيهم، واجه اليهود في الدول المجاورة الكثير من المضايقات والاضطهاد.
واجه اليهود السوريون، الذين كان عددهم حوالي 25,000 نسمة، بعضًا من أقسى الممارسات مقارنة ببقية دول المنطقة؛ فقد مُنعوا من العمل لدى الحكومة والشركات المملوكة للدولة والبنوك، وعند وفاة رب الأسرة اليهودية كانت أملاكه تُصادر لصالح الدولة، وكان بقية أفراد الأسرة مضطرين لدفع إيجار للدولة من أجل البقاء، وتم تسليم بعض الممتلكات اليهودية المصادرة إلى اللاجئين الفلسطينيين.
لم يُسمح لليهود السوريين بمغادرة البلاد باستثناء حالات قليلة، وسط مخاوف من أن يدعموا إسرائيل، وكانوا الأقلية الوحيدة التي ذُكرت ديانتها على جوازات السفر والأوراق الثبوتية.
بالإضافة إلى ذلك، كانت سوريا ما بعد الحرب كيانًا غير مستقر إلى حد كبير، حيث شهدت عدة انقلابات، بما في ذلك أربعة تغييرات عنيفة في أعلى هرم السلطة بين عامي 1949 و1954، كان أولها من تدبير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
أقام برونر في البداية في شارع جورج حداد بدمشق كمستأجر من الباطن لدى كورت فيتزكه، وهو ضابط ألماني سابق ومستشار للحكومة السورية حينذاك، لكن الوافد الجديد قام لاحقًا بالإبلاغ عن مالك العقار، مما أدى إلى اعتقال فيتزكه وتعذيبه وأصبح برونر الساكن الوحيد.
خلال خمسينيات القرن العشرين، عمل برونر مع زملائه النازيين الهاربين إلى دمشق في مجال تهريب الأسلحة، بما في ذلك بين الاتحاد السوفيتي وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، خلال حرب الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي.
في نهاية المطاف، لاحظت المخابرات السورية نشاط برونر فاعتقلته وحققت معه، ويقال إنه اعترف لمحققيه: “لقد كنت مساعدًا لأيخمان، وأنا مطارد لأنني عدو لليهود”، فتم استقطابه على الفور.
كانت علاقة برونر بالدولة السورية متقلبة في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، وفي نهاية المطاف حصل على منصب رسمي مع وصول حزب البعث العربي الاشتراكي الذي استولى على السلطة في مارس/ آذار 1963، ولاحقا عائلة الأسد التي ستحكم سوريا حتى ديسمبر/ كانون الأول 2024.
برونر وعائلة الأسد
حسب ما أورده الأستاذ المشارك في الجامعة العبرية بالقدس، داني أورباخ، فقد كان برونر “مدللًا” لدى قادة البعث الذين نفذوا الانقلاب؛ وقد شملت امتيازاته راتبًا سخيًا وسائقًا واتصالًا منتظمًا مع كبار المسؤولين في النظام.
وقد ضمت القيادة الجديدة آنذاك وزير الدفاع حافظ الأسد، الذي قدمه العقيد عبد الحميد السراج إلى برونر.
ووفقًا لزوروف، علّم برونر حافظ الأسد “أساليب التعذيب” أثناء إقامته في سوريا باسم مستعار “الدكتور جورج فيشر”، وقال زوروف: “لقد كان متورطًا في المعاملة القاسية للجالية اليهودية في سوريا وكان خبيرًا في الإرهاب والتعذيب”.
لا يزال من الصعب التحقق من المكانة التي بلغها برونر والتفاصيل الدقيقة لتأثيره على الأسد بسبب السرية التي تحيط به (قد تظهر معلومات جديدة مع الإطاحة بعائلة الأسد).
أحد أساليب التعذيب المنسوبة إلى برونر هو الأسلوب المعروف باسم “الكرسي الألماني“؛ حيث يتم تقييد يدي المعتقل وقدميه تحت كرسي معدني مرن يمكن ثنيه بعد ذلك للضغط على الرقبة والعمود الفقري، مما يؤدي إلى الشلل أو الموت.
وقد أوضح محامي الدفاع أندرياس شولتس هذه الطريقة خلال محاكمة مجرمي الحرب السوريين في كوبلنز بألمانيا في ديسمبر/ كانون الأول 2021، وقال إنه من المرجح أن يكون برونر هو المسؤول عن انتشار هذا الأسلوب، رغم أن الحكومة الشيوعية في ألمانيا الشرقية كانت لها أيضًا صلات بالنظام السوري.
وفي تقرير للمركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، قال شولتس إن برونر “أنشأ جهاز قمع لضمان مستقبل حزب البعث والعلويين”، مضيفا أنه تمكن من تحقيق ذلك عبر الحديث عن علاقته السابقة بالزعيم النازي أدولف هتلر، وبالتالي أمّن لنفسه منصب مستشار رئاسي للأسد، ودرّب قيادات المخابرات واختبر أساليب التعذيب.
كان أول عمل لبرونر في قاعدة استخباراتية متخصصة في التعذيب في منطقة وادي بردى جنوب غربي سوريا، حسبما نقل المركز السوري للحريات المدنية والسياسية عن شولتس، لكن العلاقة توترت في نهاية المطاف واختلف مع الأسد.
وفي عام 2017، نقلت مجلة “ريفو21” الفرنسية عن ثلاثة مصادر أمنية سورية قولها إن برونر “درّب جميع قادة” نظام الأسد في وادي بردى.
وكتب هادي عويدج وماتيو بالان: “بمساعدة ألويس برونر، أنشأ الرئيس السوري الجديد جهازًا قمعيًا ذا كفاءة نادرة. كان هذا الجهاز معقدًا، وقُسّم إلى فروع عديدة تراقب وتتجسس على بعضها البعض، وعمل على أساس التقسيم المطلق، وكان هذا الجهاز مبنيًا على مبدأ: الإمساك بالبلاد باستخدام رعب لا حدود له”.
مطاردة برونر
لم تكن الحكومة السورية هي الحكومة الوحيدة في الشرق الأوسط التي كانت مهتمة ببرونر: فقد جذب برونر انتباه إسرائيل أيضًا، وقد قامت في مايو/ أيار 1960 بتخدير واختطاف رئيسه السابق أيخمان قبل محاكمته وإعدامه في إسرائيل في يونيو/ يونيو 1962.
وقد نجا برونر من محاولتي اغتيال على الأقل نفذتها المخابرات الإسرائيلية أثناء وجوده في سوريا بين عامي 1961 و1980، وقيل إنها كلفته ثلاثة أصابع وعينا. وخلال المقابلة التي أُجريت معه عام 1985، ذُكر أنه أخرج حبة دواء مسمومة من جيبه، وأقسم أنه لن يسمح للإسرائيليين بأن يقبضوا عليه حيًا كما فعلوا مع أيخمان.
لطالما كان مجرمو الحرب النازيون على رادار الجهات التي أرادت تقديمهم للعدالة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية: خلال خمسينيات القرن الماضي، أُدين برونر في فرنسا غيابيًا وحُكم عليه بالإعدام.
ولكن مع نهاية القرن العشرين، تضافرت الجهود الدولية لتعقب مجرمي الحرب النازيين قبل أن يموتوا ويفلتوا من العدالة.
كان برونر واحدًا من الموجودين على القائمة، وعندما تم إطلاق لجنة جرائم الحرب النازية التابعة للأمم المتحدة في نيويورك في نوفمبر/ تشرين الثاني 1987، حمل بنيامين نتنياهو، سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة آنذاك، ملفًا عن أنشطة برونر.
وفي مارس/ آذار 2001، أدانته محكمة فرنسية مرة أخرى غيابيًا، وهذه المرة بتهمة اعتقال وترحيل 345 يتيمًا من باريس.
وفي يوليو/ تموز 2007، رصدت النمسا مبلغ 50,000 يورو مقابل أي معلومات تؤدي إلى اعتقاله وتسليمه، وبعد مرور ست سنوات، ذكر التقرير السنوي لمركز سيمون فيزنتال حول وضع مجرمي الحرب النازيين أن برونر كان “أهم مجرم حرب نازي لم يعاقب، وربما لا يزال على قيد الحياة” مع الاعتراف بأن “احتمالات أن يكون على قيد الحياة ضئيلة نسبيًا”.
ولكن سوريا رفضت مرارا محاولات فرنسا ودول أخرى للتحقيق مع برونر أو حتى الاعتراف بوجوده في البلاد.
لغز وفاة برونر
بحلول تسعينيات القرن الماضي، كانت المقابلات الإعلامية التي أجراها برونر قد جعلت منه عبئًا على مضيفيه في دمشق.
وأشارت مجلة “ريفو21” إلى أن برونر توفي عام 2001 في دمشق عن عمر يناهز 89 عامًا، وكان يعيش في قبو قذر تحت مركز للشرطة وضعته فيه السلطات عام 1996، ونقل التقرير عن أحد حراس برونر قوله إنه “عانى وبكى كثيرًا في سنواته الأخيرة، وسمعه الجميع”.
شهد أحد الحراس أن باب زنزانته أُغلق “ولم يُفتح مرة أخرى”، على غرار المصير الذي لقيه العديد من السجناء في صيدنايا. وقال المتخصص في ملاحقة أخبار النازيين سيرج كلارسفيلد لوكالة الأنباء الفرنسية في ذلك الوقت: “نحن سعداء بمعرفة أنه عاش حياة بائسة”، وأشار تقرير آخر لمسؤول استخباراتي ألماني لمركز سيمون فيزنتال في عام 2010 إلى أنه مات.
إن الطبيعة الغامضة للدولة السورية، بالإضافة إلى فوضى الحرب الأهلية الأخيرة، تعني أن معرفة مدى تأثير برونر وغيره من مجرمي الحرب النازيين على عائلة الأسد ليس ممكنا.
شهدت السنوات التي أعقبت سقوط ألمانيا النازية محاكمات في قضايا جرائم الحرب لضمان مثول المسؤولين عنها أمام العدالة، وقد دعت الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان في بيان لها يوم الاثنين إلى محاكمات مماثلة في العنف الذي تعرض له الشعب السوري منذ عام 2011.
جاء في البيان: “لقد أدى القمع الوحشي الذي تعرض له الشعب السوري منذ مارس/ آذار 2011 إلى مقتل ما يقرب من 500,000 شخص، وتشريد أكثر من 6 ملايين لاجئ، وتسبب في اختفاء أكثر من 150,000 شخص. لا يمكن أن تمر هذه الفظائع دون عقاب، ويجب محاسبة المسؤولين عنها”.
تثبت قضية ألويس برونر أن الإرث القمعي في سوريا نشأ قبل عام 2011، ويمكن أن تعود جذوره في كثير من النواحي إلى الحرب العالمية الثانية وما قبلها.
المصدر: ميدل إيست آي