حتى الآن يبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يعرف جيدًا كيف يتلاعب بمعارضيه مهما كان ذلك على حساب القيم الديمقراطية الأمريكية والأعراف القانونية الراسخة في البلاد، فكل قرار استدعاء للتحقيق يقدمه النواب الديمقراطيون في الكونجغس ضده، يفسده ويتحدى أثره القانوني، يفعل ذلك مدعومًا بأتباع شعبويين يرغبون دائمًا في رؤيته زعيم لا يقهر ولا تؤثر فيه مثل هذه “الآلاعيب القانونية والسياسية” التي سيستخدمها حتمًا كوقود لحملة إعادة انتخابه رئيسًا لفترة مقبلة، بدعوى تعرضه للتعسف من الديمقراطيين الذي يحتكرون – في نظر أنصاره – الوطنية والديمقراطية، ويستخدمونها أسوأ استخدام، ضد رئيس لا يسعى إلا لخدمة شعبه، ولا يدّخر جهدًا في جلب مصالحهم بكل الطرق.
ما الذي يحدث؟
على مدار أشهر، وصقور الكونغرس من الديمقراطيين يطلقون السهام على الرئيس الجمهوري، عشرات الطلبات تقدم من وقت لآخر، وتهدف إما للحصول على المعلومات أو توثيق ما لديهم من اختلالات في طريقة ترامب بالحكم هو وإدارته والتخديم على هدفهم الأساسي وهو إقصاء الرئيس وحزبه عن واجهة الحياة السياسية.
يحاول الديمقراطيون استدراج كبار المسؤولين الحاليّين والسابقين بالبيت الأبيض، في صورة الإدلاء بشهادات عن هذه المرحلة والسابقة، بجانب السجلات المالية لترامب قبل ترقيه للرئاسة، ويطالبون بالحصول على النسخة غير الموثقة لتقرير روبرت مولر المحقق الخاص السابق الذي كان مكلفًا من وزارة العدل الأمريكية للتحقيق في مزاعم تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية التي أجريت نوفمبر 2016 وأسفرت عن فوز دونالد ترامب بالرئاسة.
قواعد المحكمة العليا وثوابتها في حماية الرئيس تجعل ترامب يمارس عليها ضغوطًا شديدة لمقاومة أي مسعى يحاول من خلاله الديمقراطيون في الكونغرس إيجاد موطئ قدم لمساءلته
يلعب ترامب على سياسة النفس الطويل والثغرات اللامتناهية في نظام الحكم الرئاسي المتبع في الولايات المتحدة التي تجعل العلاقة بين السلطات أشبه بالدراما الشهيرة بين القط والفار، إذ يعقد القانون آليات محاسبة الرئيس ويُمكنّه من تعطيل أي محاولة لمحاكمته أو استدعائه للتحقيق ويوفر له الكثير من الأدوات وهو في سدة الحكم، ما يسد الطريق على أي هجوم سياسي أو قانوني يستهدف اقتلاعه من منصبه، لدرجة أنه يمكنه إقامة دعوى قضائية ضد طلب استدعائه للتحقيق، وهو ما حدث من ترامب ضد رئيس لجنة الرقابة في مجلس النواب إيليا كامينغز، إذ سلك الرئيس طريقًا قانونيًا لمنع طلب استدعائه وتقديم معلومات مالية عن شركاته في السنوات السابقة على وجوده بالحكم.
ويعتمد على تحصين المحكمة العليا الأمريكية لمنصب الرئيس وتتطرف للغاية في حماية الشخصية الاعتبارية لمن يجلس على كرسي الحكم، وتعتبره صاحب حصانة مطلقة من المساءلة القانونية عن أي أعمال يتهم بها خارج محيط مسؤوليته الرسمية خلال وجوده في منصبه، وإن أكدت تمتع مساعدي الرئيس بحصانة محدوة، قياسًا بتلك الممنوحة للرئيس نفسه، ما يجعلهم عرضة لهجمات قانونية وسياسية تستهدف الضغط عليهم لمعرفة ما تحت أيديهم من أسرار.
….Congress has no time to legislate, they only want to continue the Witch Hunt, which I have already won. They should start looking at The Criminals who are already very well known to all. This was a Rigged System – WE WILL DRAIN THE SWAMP!
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) April 24, 2019
قواعد المحكمة العليا وثوابتها في حماية الرئيس تجعل ترامب يمارس عليها ضغوطًا شديدة لمقاومة أي مسعى يحاول من خلاله الديمقراطيون في الكونغرس إيجاد موطئ قدم لمساءلته، ما يمكن ترامب من ممارسة تحرش مضاد بالكونغرس وتقزيم دوره القانوني في كشف المخالفات، واعتبار الصراع معه فراغ وعبث بالمسؤوليات الدستورية الموكلة إليه أكثر منه رغبة في كشف الحقائق.
انقسام لصالح ترامب
يخدم ترامب جيدًا حالة الجدل الدائرة بين الديمقراطيين الذين يسيطرون على مجلس النواب، واختلافهم الكبير بشأن الطريقة الأفضل للمضي قدمًا في عملية مساءلة الرئيس وإدارته، وانصراف كل فريق إلى معركة قانونية منفصلة، ما يسهل لترامب مقاومتها عبر المحكمة العليا، والإفلات من خلال هذه الثغرة، مع أن الدستور يضع سلطة مساءلة وعزل الرئيس بشكل منفرد، في يد مجلسي النواب والشيوخ وليس القضاء، ضمانًا للفصل بين السلطات بأفرع الحكومة الاتحادية الثلاث.
يعتبر ترامب أن المرحلة الحاليّة حرب شاملة يجب أن تمارس ضد جميع مذكرات الاستدعاء التي تأتيه من الكونغرس، وينجح حتى الآن بموجب هذه السياسة في التغلب على خصومه، رغم اعتراف المدعي العام وليام بار أن البيت الأبيض لا يقدم تعاونًا تامًا في القضايا المطروحة، وترامب نفسه كان يرفض إجراء أي مقابلة معه، بدعم مباشر من زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، حتى استطاع المدعي العام الحصول على تحقيق يراه أعداء ترامب أهم أداه في الحرب الساعية لعزله من منصبه.
منع البيت الأبيض مستشار البيت الأبيض السابق دون ماكجان من الامتثال لاستدعاء من الكونغرس تحت بند ما يسمى الامتياز التنفيذي، وهو عرف وسلاح يمكن استخدامه في أي لحظة باعتباره “فيتو” يستخدمه الرؤساء لحماية الاتصالات السرية وشؤون الأمن القومي
يعرف الرئيس الأمريكي عواقب خضوعه للتحقيق، فاتخذ قراره على الفور بعدم التعاون نهائيًا في أي تحقيقات للكونغرس، وأول نفحات هذه السياسة، منع شركة المحاسبة التابعة له من الامتثال للاستدعاءات أمام لجنة الرقابة والإصلاح في مجلس النواب، ومنع وزير الخزانة ستيفن منوشين من تلبية طلب من لجنة الوسائل والطرق التابعة لمجلس النواب لتقديم الإقرارات الضريبية لترامب.
كما منع البيت الأبيض مستشار البيت الأبيض السابق دون ماكجان من الامتثال لاستدعاء من الكونغرس تحت بند ما يسمى الامتياز التنفيذي، وهو عرف وسلاح يمكن استخدامه في أي لحظة باعتباره “فيتو” يستخدمه الرؤساء لحماية الاتصالات السرية وشؤون الأمن القومي، وتملك وزارة العدل تاريخًا في منح الامتياز التنفيذي للمسؤولين في البيت الأبيض والحكومة، خاصة أن معايير الامتياز غير محددة إلى حد كبير.
نفس الحجة جعلت ترامب يتجاهل مطالب لجان مجلس النواب والمذكرات التي أصدرتها لاستدعاء بنوك على علاقات مع الرئيس والشركة التي ساعدته منذ سنوات في ضبط بياناته المالية، ورفض مدها بالوثائق المطلوبة، ولكي يضمن ذلك، أقام دعوى قضائية ضد البنوك وشركة المحاسبة، يطلب من المحاكم إبطال مذكرات الاستدعاء، وأصر أنها ممارسة غير مشروعة لسلطة إشراف الكونغرس.
لم يعد هناك من يشك في أن إستراتيجية ترامب التي ترفض الاستجابة لأي استدعاء، رغم كونها معركة سياسية مثيرة، ستلحق الضرر على المدى البعيد بأهم وأقوى نظام دستوري على وجه الأرض
وتشير هذه القوانين المعقدة إلى سر قوة ترامب وصموده في معاركه القانونية مع الديمقراطيين، فمجلس الشيوخ تحت قيادة الجمهوريين، لن يدينه تحت أي بند، ولكن ما يحدث أنه يفتح الباب لإمطار ترامب بعشرات الدعاوى التي تطالب بالتحقيق معه، وهي مصيدة سياسية، لكي يبني عليها ترامب ارتكازات حملته القادمة، وضخ مشاعر العداء والسخط لدى أنصاره على سياسة الديمقراطيين في مجلس النواب التي تضطهده ظلمًا ولا تقدم له الدعم اللازم، وبالتالي وحتى الفصل فى مذكرات الاستدعاء خلال أشهر أو حتى سنوات، سيكون قد حقق أهدافه واستطاع الجلوس لأطول فترة ممكنة في البيت الأبيض.
تأثير المعركة على مستقبل أمريكا
لم يعد هناك من يشك في أن إستراتيجية ترامب التي ترفض الاستجابة لأي استدعاء، رغم كونها معركة سياسية مثيرة، ستلحق الضرر على المدى البعيد بأهم وأقوى نظام دستوري على وجه الأرض، وخاصة فيما يتعلق بالضوابط والتوازنات التي تمنع إساءة استخدام السلطة، واحترام الرئيس ـ بغض النظر عن خلفيته السياسية والحزبية ـ للقانون، وكذلك أعضاء الكونغرس المدينين وفقًا للدستور بالولاء لبلادهم وليس لحزبهم فقط، والتغلب على الغرائز القبلية التي تحكم تصرفاتهم، لفعل ما هو أفضل دائمًا للولايات المتحدة.
ويزيد الرئيس ترامب كل يوم من الشعر بيتًا في مدرسته بالحكم التي تؤسس لفسلفة جديدة على البلاد، وتعتمد على التشويه والتجاهل والتعسف في استخدام السلطة وعرقلة العدالة، فما يفعله ترامب ـ بغض النظر عن الألعاب والمكائد السياسية ـ التي يمارسها صقور الحزب الديمقراطي المنافس لإسقاطه، يؤكد أنه يرى منصب الرئيس محصنًا من القانون، بل ولا تنطبق عليه أحكامه، وهو ما يدعوه للعناد وعدم تغيير سياسته، رغم التآكل الشديد في الشفافية والمعايير الديمقراطية، الأمر الذي يفتح الطريق لتشجيع رؤساء المستقبل على تحدي الكونغرس والشيوخ بل والإرادة العامة إن أرادوا ذلك!