” واحد، واحد، واحد… الشعب السوري واحد”.. بهذا الهتاف صدحت حناجر ألاف السوريين القادمين من عشرات المدن والمناطق باتجاه ساحة الأمويين في العاصمة دمشق، احتفالًا بـ”جمعة النصر”، أول جمعة بعد السقوط المدويّ لنظام بشار الأسد، في مشهد لم يألفه السوريون منذ سنوات طويلة، ولم يكن يتوقعه حتى الثقات من المحللين والمفسرين وقارئي الفنجان وحركات النجوم والأفلاك.
البداية كانت بأداء صلاة الجمعة في الجامع الأموي، حيث الاحتشاد غير المتوقع، من كافة الأجناس والعرقيات والمذاهب، يجمعهم علم واحد وهتاف واحد وفرحة واحدة، ثم التوجه أفواجًا أفواجًا صوب ساحة الأمويين، التي استعادت رمزية الثورة والمشاهد الأولى للاحتجاجات السلمية التي شهدتها البلاد في مارس/أذار 2011 قبل أن يحولها الأسد ونظامه إلى بحار من الدماء قسمت سوريا وشتتت أبنائها بين شهيد ومعتقل ونازح ولاجئ.
التقى القادمون من القنيطرة ودرعا، مع إخوانهم من ريف دمشق والسويداء، بسكان العاصمة الدمشقية، ليرسموا جميعًا لوحة ثورية غابت عن الأذهان والمخيلات سنوات طوال، يجمعهم حلم واحد كما تشاركوا في ذات الألم والوجع، دموعهم أبلغ المتحدثين عنهم، ونظرات الأمل التي تداعب جفونهم خارطة طريق تحدد ملامح سوريا الجديدة، الأبية المُطهرة من الطاغية، العفية على الخنوع.
كان يوماً مكللاً بفرحة ونصر انتظرناهم 13 عاماً.. #سوريا_حرة #جمعة_النصر pic.twitter.com/ON3MpU0VC1
— نون بوست (@NoonPost) December 13, 2024
فرحة عارمة وانتصار مستحق
قبل أسبوعين من الآن ما كان يتوقع أحد أن ينجح السوريون في الإطاحة بنظام الأسد الذي جثم على صدورهم قرابة خمسة عقود كاملة، أذاقهم فيها ويلات التنكيل والاستعباد، فقتل أكثر من نصف مليون منهم، وشرد الملايين ما بين نزوح داخلي وهجرة خارجية، وحوًل البلد الضارب بجذوره في عمق التاريخ والحضارة إلى “وسية” يتلاعب بمقدراتها حسب الأهواء والمزاج.
وما أن فكر السوريون في التحرر من ربقة الاستعباد الأسدي، وتنسم عبير الحرية، والمطالبة سلميًا بالتغيير كـ “سنّة” حياتية، إذ بلغة الانتقام تهيمن على المشهد، فزج بعشرات الالاف في المعتقلات والسجون الأشبه بالقبور الجماعية، وفرق بين الأسر، وشتت الشمل، وزرع الحزن في كل بيت بلا استثناء بعدما كان له نصيب من المأساة، إما شهيد أو معتقل أو فار بحياته من شبيحة النظام، ليقضي السوريون عشريتهم السوداء الأكثر قسوة في تاريخهم الحديث.
فرحة عمّت جميع أنحاء #سوريا بعد أعوام من الظلم.. مدن #سوريا تحتفل بالنصر #جمعة_النصر pic.twitter.com/TuxYVjFv0d
— نون بوست (@NoonPost) December 13, 2024
وعلى قدر المشقة يكون الجزاء، تلك السنّة العادلة التي تحققت حرفيًا في المشهد السوري، غير القابل للاستيعاب من قبل البعض حتى الساعة، الأمر الذي انعكس على حالة الاحتفاء والفرحة العارمة التي كست شوارع البلاد، فأزاحت عنها لباس اليأس والإحباط والقنوط وألبستها مجددًا عباءة الأمل والتفاؤل واستعادة الأمجاد، في مشهد اعتدنا على قراءته في القصص والروايات الأسطورية دون الاقتراب من احتمالات تحقيقه ولو على حواف الخيال.
ومن رحم الظلماء يولد النور، ليزلزل المشاركون في تلك الاحتفالات الأرض بأقدامهم والسماء بهتافاتهم، مسيرات بعشرات الالاف ليست في دمشق وحدها، بل عمت معظم الأرجاء السورية، في حلب وحماة وحمص وإدلب ودرعا واللاذقية والسويداء ودير الزور، وغيرها من المناطق التي خرجت لتقول كلمتها بحرية بعد عقود من الصمت القهري.
يد تفرح وأخرى تبني
جاء هذا الاحتفال الأسطوري بسقوط النظام استجابة لدعوة القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع الذي قد دعا السوريين للنزول إلى الميادين للاحتفال بطريقة سلمية، حيث خاطب السوريين في كلمة مسجلة له قال فيها “أود أن أبارك للشعب السوري العظيم انتصار الثورة المباركة، وأدعوهم للنزول إلى الميادين للتعبير عن فرحتهم بذلك دون إطلاق الرصاص أو ترويع الناس”، وأضاف “ثم بعد ذلك لنتجه إلى بناء هذا البلد، وكما قلناها منذ البداية منصورة بعون الله”.
ركز الشرع في كلمته على ثنائية الاحتفاء والبناء، يد ترفع علم النصر وأخرى تعمل لبناء البلد بعدما جرفها النظام البائد من كافة مقدراتها، وفي ظل التحديات الجسام المتوقع أن تواجهها لاسيما في بداية عملها، واضعًا سلامة المشاركين في تلك الاحتفالات نصب عين الإدارة الجديدة حيث انتشار عناصر الأمن التابعة لها في كافة المناطق الاحتفالية ومحيطها بهدف تأمينها وضمان سلامة المحتفلين، مؤكدًا على التعامل بكل حزم مع أي خروج عن النص، حيث سيتعرض كل من يثبت تورطه في إطلاق النار للمحاسبة والاعتقال فورًا.
وفي ذات السياق أعلنت وزارة الإدارة المحلية والبيئة في الحكومة السورية المؤقتة تسلمها الملفات المتعلقة بالإدارة المحلية والخدمات من الوزير السابق في حكومة النظام المخلوع والبدء في مباشرة العمل بها، داعية جميع العاملين في القطاعات الخدمية إلى استئناف عملهم، لافتة أنها بصدد وضع الخطط لتلبية احتياجات المواطنين وتخفيف الأعباء التي تثقل كاهلهم، فيما أكد وزير الاقتصاد في الحكومة المؤقتة باسل عبد العزيز عبد الحنّان أن هدف الحكومة هو النهوض بالواقع الاقتصادي لسوريا الحرة وتحسين الواقع المعيشي للمواطنين.
مشاهد ستحفر في ذاكرة السوريين.. آلاف السوريين أدّوا صلاة الجمعة الأولى في المسجد الأموي بعد التحرير #جمعة_النصر pic.twitter.com/2p3rDsFO6r
— نون بوست (@NoonPost) December 13, 2024
علم ونسيج واحد
حملت الاحتفالات بشكلها العفوي الكثير من الرمزيات والرسائل التي تفند تلك الاتهامات المضللة التي حاول أعداء الثورة وأرباب الانبطاح تمريرها منذ هروب الأسد إلى موسكو فجر الأحد الثامن من ديسمبر/كانون الأول الجاري، لتشويه الحراك وإفساد فرحة السوريين بانتصارهم الأسطوري على واحد من أقذر الأنظمة القمعية في المنطقة.
وعلى رأس تلك الرمزيات الانضواء تحت علم واحد، علم الثورة ذو النجوم الثلاثة، دون أي تواجد لأعلام أخرى، رغم تباين وتعدد الأطياف والعرقيات والأيديولوجيات القادم منها المشاركون في تلك الاحتفالات، وهي الرسالة الأهم والأبرز الباعثة للاطمئنان حول وحدة سوريا، شعبًا وثورة، هوية وسياسة، بما يُفرغ ذاك السرديات التي تحاول تشويه المشهد بمزاعم الانقسام وتعدد الرايات من مضمونها.
الرمزية ذاتها جسدها هذا الثراء العرقي والمذهبي للمشاركين في الاحتفالات، فكما استظل الجميع بعلم واحد، استظلوا كذلك بهدف واحد وكيان واحد وغاية واحدة، فلا فرق بين فرقة وفرقة، ولا بين عرق وأخر، ولا بين أيديولوجية وأيديولوجية، فالكل في سوريا الجديدة وأمام القانون والدستور متساوون في الحقوق والواجبات.
استفتاء شعبي على رفض النظام البائد
الجموع الغفيرة التي شاركت في تلك الاحتفالات، والتي رسمت صورة مبهرة كست أجواء سوريا من شمالها لجنوبها، ومن شرقها لغربها، ناهيك عن تلك التي عمت العديد من المدن الأوروبية والعربية، كانت في مضمونها بمثابة استفتاء شعبي واضح لا لبس فيه لمدى جماهيرية النظام البائد وشعبيته المزعومة التي دوما ماكان يعزف على أوتارها بين الحين والأخر، مستندًا إلى حفنة الفنانين والرياضيين وأصحاب المنافع والمصالح من حملة المباخر وصبيان الانبطاح.
وحمل المشاركون في جمعة النصر رسالة واضحة، للداخل السوري وخارجه، رسالة رفض لنظام الأسد، والتطهر من دنسه، والتعبير لأول مرة بحرية تامة، شكلا ومضمونا، عن الرغبة في سقوطه، والإيذان ببدء صفحة جديدة من تاريخ سوريا، لا جود فيها للأسد وعائلته، صفحة تتخذ من الماضي العبرة ومن الواقع الدرس لتجنيب البلاد والعباد مستقبلا سيناريو مُكرر.
وفندت تلك الأمواج الثائرة فرحا وتهليلا بسقوط نظام الأسد تلك المزاعم التي يرددها المرجفون بشأن افتقاد الثورة السورية لحاضنتها الشعبية، واعتماد معارضتها المسلحة على الدعم الخارجي الذي لولاه لما سقط النظام، وهي الأكاذيب التي يحاول أنصار الأسد من القوميين والمنتفعين وأعداء الثورات و ساحقي إرادة الشعوب، تمريرها للتغطية على المشهد الفاضح الذي بدا عليه النظام من هشاشة وانتكاسة حين رفع داعموه أيديهم عنه، لكنها الأضاليل التي سرعان ما أسقطتها جمعة النصر بكل ما فيها من تفاصيل وما تحمله من رسائل.
خلص الدور يا دكتور..#جمعة_النصر pic.twitter.com/tZp8H8UMfC
— نون بوست (@NoonPost) December 13, 2024
ملامح سوريا الجديدة
لم يدر بخلد أكثر المتفائلين من الثوار السوريين، ولا أنصار حقوق الإنسان من الحالمين، أن يأت اليوم الذي تحتضن فيه ساحة الأمويين الدمشقية كل تلك الأعداد الغفيرة التي تعبر عن رأيها بحرية تامة، ناهيك على أن يكون الهتاف ضد نظام كنظام الأسد، فهذا أمر إن طُرح قبل أسبوعين تقريبًا لاتهم صاحبة بالشطط والجنون ولكان مصيره صيدنايا.
اليوم يعلن المشهد الأسطوري لجمعة النصر عن ملامح سوريا الجديدة، والتي من أبرزها:
– الحرية التامة في التعبير عن الرأي دون أي قلق أو خوف من السلطة وذراعها الأمني، فلأول مرة يتجمع كل هذا العدد ويهتف ضد النظام دون إطلاق رصاصة واحدة صوبهم.
– التشاركية والالتحام بين ألوان الطيف السياسي في المجتمع السوري، والانضواء تحت لواء الوطن فهو المظلة التي يحتمي الجميع بها من حر الفرقة والانقسام والفتن.
– الالتزام بالقانون والحفاظ على مقدرات الوطن، إذ لم تشهد تلك الاحتفالات رغم الأعداد الغفيرة المشاركة بها وكثرة المتربصين من هنا وهناك، أي خروج عن النص، احتفالات نقية بامتياز في رسالة تحمل الكثير من الدلالات.
– تخلي السلطة والإدارة الحاكمة عن الفكر القهري في قمع المتظاهرين والمشاركين في الاحتفالات، طالما كانت في سياقها القانوني، إذ كانت حمايتهم هي الغاية الأهم وتحذير كل من يفكر أن يخرج عن النص بالعقوبات المستندة إلى القانون.
– القطيعة التامة مع كل أطلال النظام البائد، وإحلالها بما يليق بسوريا التي يجب أن تكون لكل السوريين، فالكرامة بديلًا للذل، والحرية بديلًا للقمع، والأمن بديلًا للخوف، والتشاركية بديلًا للإقصاء، والوحدة بديلًا للفرقة والشتيت، والقانون بديلًا للطائفية والمحاصصة.
حملت جمعة النصر وأجوائها الاحتفالية بتفاصيلها، المعلنة والمبهمة، رغم المخاوف التي تنتاب البعض، أحلام لا حدود لها تغازل السوريين بعد الإطاحة بنظام الأسد، طموحات تتناسب وحجم سوريا الحضارة والتاريخ وما يستحقه شعبها الذي تجرع مرارة الظلم والطغيان أكوابًا وكؤوسَا، أماني تطرق أبواب الحالمين بوطن يليق بهم، يسطرون به عهدًا جديدًا، أول خطواته طي صفحة الماضي بكل إرثها وركامها، لكن الطريق أبدًا لن يكون مفروشًا بالورود في ظل المخططات التي تُحاك بالتجربة والتي تستهدف إفشالها قبل اكتمال بدرها، وهو ما يجعل من القادم تحديًا صعبًا، يحتاج لتضافر كافة الجهود والوقوف على قلب رجل واحد لإفساد كل تلك المؤامرات والعبور بتلك التجربة الفريدة إقليميًا إلى بر الأمان.