أيام قليلة تفصل الأوروبيين عن انتخاب برلمانهم، انتخابات مصيرية لها أن تحدد مستقبل الاتحاد الأوروبي خاصة في ظل تنامي تيارات اليمين المتطرف والشعبويين في القارة العجوز، وهو ما يفسّر الخشية الأوروبية الكبيرة من “تلاعب روسي” محتمل في هذه الانتخابات، يصب في صالح اليمين المتطرف والشعبويين كما حصل في دول أخرى سابقًا.
خشية كبرى
يخشى الأوروبيون من محاولات روسية للتلاعب الرقمي بانتخاباتهم كما تدور الشبهات حول وقوعه بالانتخابات الأمريكية والفرنسية وفي استفتاء بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي أيضًا، وقد عبّر الأوروبيون عن ذلك مرات عديدة، نظرًا لخطورته الكبيرة على اتحادهم.
خشية الأوروبيين من التدخل الروسي في انتخاباتهم جاءت هذه المرة على لسان المفوضة الأوروبية لشؤون العدالة فيرا جوروفا، حيث حذّرت جوروفا من حملات التضليل الإستراتيجية. قالت جوروفا في تصريح صحفي لصحيفة ألمانية: “يجب ألا نسمح بالتلاعب بنتائج الانتخابات في أي دولة عضو بالاتحاد، ليس هذا فقط وإنما أيضًا لأن هذه الانتخابات مصيرية لأوروبا”.
يؤكد الأوروبيون أن موسكو ضالعة في إستراتيجية حرب معلومات وتضليل غامضة ومتعمدة في محاولة لشق صف الغرب
تهدف حملات التضليل التي أشارت إليها جوروفا إلى التقاط وتكثيف الاستقطاب في المجتمع، وهذا يجعل من الصعب التعرف عليهم، وفق قولها، فالاستقطاب المجتمعي أمر موجود من قبل في الاتحاد. وعليه أكدت المفوضة الأوروبية وجود وحدة عمل في خدمة العمل الخارجي الأوروبي، تكتشف التضليل من روسيا لكن ميزانيتها محدودة مقارنة بالميزانية المستخدمة في الجانب الروسي.
وسبق أن قدمت المفوضية الأوروبية خطة عمل ضد الحملات الدعائية في الإنترنت، كما ضاعفت الميزانية التي خصصتها عام 2015 لفريق العمل المخصص لمواجهة التأثير الروسي على الانتخابات، وطرحت فكرة إنشاء نظام للتحذير السريع الذي يساعد على تسجيل أي محاولات ممكنة للتلاعب بالانتخابات.
وبخصوص مواقع التواصل الاجتماعي، أصبح موقع فيسبوك يحظر الإعلانات السياسية التي يتم تمويلها من الخارج، وبذلك لا يمكن على سبيل المثال الترويج لمرشح سياسي من الدنمارك من خلال إعلانات انتخابية في إيطاليا أو روسيا أو الولايات المتحدة.
يحرص الشعبويون على الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان الأوروبي
سبق أن قال رئيس فيسبوك في أوروبا مارتن أوت، خلال مناقشة في البرلمان الألماني: “أصبح لموضوع الانتخابات بالطبع، وخاصة قبل الانتخابات الأوروبية، أولوية مطلقة”، وأشار أوت إلى أن عدد الموظفين الذين أوكلت إليهم مهمة السلامة والأمان في الموقع ارتفع من 10 آلاف لأكثر من 30 ألف موظف.
بدوره، أضاف موقع تويتر خدمة جديدة، يستطيع مستخدموه من خلالها الإبلاغ عن أي معلومات مضللة ذات صلة بالانتخابات، وذلك بعدما وصلت مثل هذه المحاولات للإنترنت بشكل متكرر في الماضي.
أساليب خفية للتضليل
في محاولاتها السابقة للتأثير على الانتخابات الأمريكية والفرنسية فضلاً عن البريطانية، اتخذ الروس أشكالاً عديدة لكنها تكاد تكون متشابهة، إلا أنهم هذه المرة اختاروا أسلوبًا جديدًا، خوفًا من ردة الفعل الأوروبية.
هذا التكتيك الجديد كشفته جهات استخباراتية أوروبية، ولئن تدخلت روسيا سابقًا بشكل مكشوف وواضح، فإنها تعمل هذه المرة بطريقة أقل وضوحًا مما سبق.
وأوضحت تصريحات لمسؤولي استخبارات رفيعي المستوى أن التدخل الروسي هذه المرة بدا أقل وضوحًا حتى الآن مقارنة بما كان عليه قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي جرت عام 2016 أو الانتخابات الفرنسية عام 2017، وتمثل التدخل الروسي بالانتخابات الرئاسية في أمريكا، في قرصنة رسائل إلكترونية للديمقراطيين بغرض إلحاق الضرر بمرشحتهم هيلاري كلينتون، أما في الانتخابات الفرنسية، فجرى دعم مارين لوبان، مرشحة اليمين المتطرف والصديقة لروسيا.
أما في خصوص التصويت الخاص بانفصال بريطانيا، فقد أشار تقرير لجنة الشؤون الدستورية البريطانية باحتمال أن هناك هجومًا تم شنه على موقع الاستفتاء الرئيسي للاتحاد الأوروبي في الفترة التي سبقت التصويت، وأشارت أجهزة الاستخبارات الأوروبية إلى وجود جهود من شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام مثل قناة “روسيا اليوم” الناطقة بأكثر من لغة، لدعم الأحزاب المعارضة للاتحاد الأوروبي أو الصديقة لروسيا.
وأضافت الاستخبارات الأوروبية أن هذه المحاولات تركز على الشباب بوجه خاص، وقد تمثلت في التشكيك بأهمية البرلمان الأوروبي والتصويت في الانتخابات الخاصة به.
ترغب الأحزاب الشعبوية في إجبار بروكسل على إعادة السلطات إلى الدول الأعضاء
يؤكد الأوروبيون أن موسكو ضالعة في إستراتيجية حرب معلومات وتضليل غامضة ومتعمدة في محاولة لشق صف الغرب وكسر وحدته، بسبب العقوبات الاقتصادية التي فرضت على روسيا بعد ضمها شبه جزيرة القرم في 2014.
المسؤولون الأوروبيون، أكدوا أيضًا أن السلطات الروسية جعلت الإعلام التقليدي والإلكتروني سلاحًا لضرب الدول الأوروبية وخلق إزعاج كبير لدول الاتحاد، فضلًا عن استغلال الأزمات التي تمر بها دول الاتحاد.
وتستعمل روسيا قنواتها الإعلامية القوية ومواقعها الإلكترونية وتحليلات الأكاديميين والخبراء والكتاب الدائرين في الفلك الروسي، وحتى الحسابات المجهولة والموجهة على تويتر للتأثير في محطات سياسية مهمة في دول الاتحاد الأوروبي ومناطق أخرى من العالم.
وتعتمد روسيا على هيئات عديدة لتنفيذ أجنداتها الخارجية، يأتي في طليعتها وكالة أبحاث الإنترنت في سان بطرسبرغ إلى جانب جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (إف إس بي) أو الاستخبارات الداخلية والاستخبارات العسكرية (جي آر يو).
وتتوقع أجهزة الاستخبارات الأوروبية أن تبث وسائل إعلام إلكترونية موجهة من روسيا تفسيرات خاطئة ومعلومات كاذبة عن الانتخابات والوضع في دول الاتحاد، ومن المنتظر أن يدلي 400 مليون أوروبي بأصواتهم بالانتخابات المقبلة، المقرر إجراؤها من 23 إلى 26 من مايو/آيار الحاليّ.
دعم اليمين المتطرف لتفكيك الاتحاد
تهدف روسيا من خلال تدخلها في انتخابات البرلمان الأوروبي إلى زعزعة الاستقرار النسبي في الاتحاد وتقوية شوكة الأحزاب الشعبوية وأحزاب اليمين المتطرف التي تمثل تهديدًا جادًا لاتحاد القارة العجوز.
ويرى الروس أن دعم الشعبويين سيؤدي حتمًا إلى إضعاف دول الاتحاد الأوروبي، وإفساح الطريق أمامها لغزو الغرب اقتصاديًا وفكريًا، خاصة أن الشعبويين في أوروبا يعرفون بإعجابهم بالسياسة الروسية، وقد عبّروا عن ذلك في مناسبات عدة.
وينظر الشعبيون واليمين المتطرف في أوروبا إلى الانتخابات القادمة كفرصة ذهبية لا تعوّض لتقوية حضورهم داخل البرلمان الأوروبي، ومن المتوقع أن يتعاملوا بجدية بالغة مع عملية التصويت، على عكس أحزاب الوسط واليسار التقليدي التي تواجه هزات كبرى في الفترة الأخيرة، أدت إلى تراجعها.
تنامي قوة الأحزاب الشعبوية في أوروبا تتيجة الخطاب الذي تعتمده
ترغب الأحزاب الشعبوية في إجبار بروكسل على إعادة السلطات إلى الدول الأعضاء وهو ما يقول عنه أنصار الاتحاد الأوروبي إنه يؤذن بانتهاء الوحدة السياسية والنقدية لأوروبا.
يذكر أن الاتحاد الأوروبي قد تشكل بعد توقيع معاهدة “ماسترخت” عام 1992، ولكن العديد من أفكاره موجودة منذ خمسينيات القرن الماضي، وهو جمعية دولية للدول الأوروبية يضم 28 دولة وآخرهم كانت كرواتيا التي انضمت في أول يوليو 2013.
هذه التغييرات التي تطمح لها روسيا في أوروبا من شأنها إن تمت أن تعيد للروس نفوذهم وتعزز دورهم كقوة إقليمية كبرى لا يستهان بها، الأمر الذي يخشاه الغرب ويعملون على تجنبه مهما كلفهم الأمر.