ترجمة وتحرير: نون بوست
جاءت خطة إعادة تطوير حي بابا عمرو مصحوبة بمجموعة من الانطباعات الفنية: شقق حديثة تطل على شوارع أنيقة، تحت سماء زرقاء هادئة.
ولكن ما لم تأتِ به هو الجرافات والأموال، وسواء كان النظام ينوي الوفاء بوعده بإعادة بناء أول حي من الأحياء السورية التي دمرتها دباباته وطائراته أم لا، فإنه بالتأكيد لم يفعل ذلك.
فقبل ثلاثة عشر عامًا، سُحقت بابا عمرو في ضواحي حمص، عندما تحولت احتجاجات المعارضة إلى مقاومة مسلحة، وأزهقت مئات الأرواح، سواء من المسلحين أو المدنيين، إلى أن استسلم المتمردون في أول صفقة من صفقات عديدة من هذا النوع، مقابل الحصول على ممر آمن.
وبعد مرور أكثر من عقد من الزمن، لا تزال المنطقة مدمرة، ويقول ناصر النهار، الذي كانت عائلته تدير تجارة أغنام قبل الحرب: “أما وعود النظام، فمتى رأينا منها شيئًا؟”، أصبح النهار ناشطًا معارضًا ثم أصبح قائدًا للواء أحرار بابا عمرو في الجيش السوري الحر، وقاد رجاله إلى خارج المدينة في نهاية الحصار.
وقد عاد الآن بعد كل هذه السنوات، وهو الآن جزء من جيش أحمد الشرع الذي يحكم البلاد الآن، وفي يوم الخميس الماضي، كان يتفقد حطام المكان الذي كان يسميه منزله ذات يوم.
لم يكن هناك أي إعادة تطوير أو إعادة بناء باستثناء ما حشده السكان لأنفسهم، وتلك المنازل التي تعرضت لقصف مباشر لا تزال أكوامًا من الخرسانة.
إن أسباب الانهيار المفاجئ للنظام في هذا الشهر كثيرة، لكن السبب الرئيسي هو أنه رغم استعادة النظام لأراضيه، إلا أنه لم يفعل أي شيء بها، وأصيب الاقتصاد بالركود، وما تبقى من أموال استولت عليه عائلة الأسد والمقربين منه، وكان العمل الوحيد هو تجارة المخدرات، التي كانت تشرف عليها العائلة أيضًا.
غادر الآلاف من أفضل المتعلمين في البلاد للعمل في الخارج، بينما عاش الملايين غيرهم، بما في ذلك معظم القوى العاملة، في مخيمات اللاجئين في تركيا ولبنان والأردن.
وكانت سوريا تواجه ضغوطًا بسبب العقوبات الأمريكية، كما أنها لم تحصل على التمويل الذي كانت تتوقعه من حلفائها، روسيا وإيران، وعندما انهار النظام المصرفي في لبنان في عام 2019، خسر رجال الأعمال الذين احتفظوا بأموالهم في بيروت كل شيء أيضًا.
ويؤكد العديد من السوريين أيضًا أنه لم تكن هناك رغبة لدى النظام لإعادة إعمار الأحياء التي انتفضت ضده، بل كان الهدف من ذلك هو معاقبتها.
هذه القصة، التي كانت تُروى في الخارج أو عبر خطوط الهاتف أثناء وجود الأسد في السلطة، كانت واضحة للعيان على الطريق من دمشق إلى حمص، والآن انفتحت البلاد من جديد، يمرّ الطريق السريع ببعض أشهر الأسماء التي عايشت الحصار الطويل في الحرب: القابون إلى اليسار، وحرستا ودوما إلى اليمين، وكانت الأطلال الخرسانية المحطمة للمباني السكنية التي تعرضت للقصف شاهدة على المعاناة التي ملأت شاشات التلفزيون قبل عقد من الزمن.
حتى المباني التي كانت تحيط بساحة برج الساعة، المركز التجاري لمدينة حمص، لا تزال محطمة، وكانت الاحتجاجات التي اندلعت هنا في مارس/آذار 2011 من بين أولى وأكبر الاحتجاجات في الانتفاضة.
وفي بابا عمرو، كانت العمارات السكنية؛ بيوت دمى بلا واجهات، تحكي جزءًا من تاريخ صعود النظام وسقوطه، ولكن جزءًا فقط.
صحيح أن الحرب صُوِّرت منذ البداية على أنها أيديولوجية وطائفية، وقد كانت إلى حد ما كذلك، إلا أنها كانت نابعة من صراع اجتماعي يعود إلى عقود مضت، فالحماسة الاشتراكية والتحديثية التي رافقت وحشية حزب البعث بزعامة حافظ الأسد خلقت ضواحي “جديدة” مثل بابا عمرو في جميع أنحاء المدن السورية الكبرى في الستينيات والسبعينيات، وتم إنشاء كتل سكنية مبنية حول ضواحي المدن، وتم تشجيع سكان البلدات والقرى الفقيرة في الريف على الانتقال إليها مع وعود بالوظائف والمال.
لكن ذلك لم يتحقق، وبدلاً من ذلك، واجهت الطبقة العاملة الحضرية الجديدة خيار البطالة أو العمل بأجور منخفضة لدى أصدقاء النظام الأثرياء، ونشأ الشباب العاطلون عن العمل ناقمين وأصبحوا فريسة سهلة للأيديولوجيات المعادية للأسد، سواءً الليبرالية بالنسبة للمتعلمين الجامعيين، أو الإسلامية بالنسبة لأبناء عمومتهم وإخوانهم.
كان والد ناصر النهار – وتجارته في تجارة الأغنام – من بين أولئك الذين انتقلوا إلى الداخل، والذين أصبحوا ناقمين بشكل متزايد على فساد النظام وقمعه، قال: “لقد دفعونا إلى هذه الحرب، لقد فعلوا ذلك حقًا”، وفي نهاية الحصار، غادر إلى جبهات قتال جديدة، في القصير، ثم مدن حمص الأخرى، وأخيرًا إلى إدلب، وكان يعتبر نفسه منحازًا عسكريًا إلى هيئة تحرير الشام، تحالف الجولاني مع الجماعات الإسلامية، لكنه مقتنع بأن سوريا الجديدة ستتسامح بالفعل مع جميع الأطياف من الناحية الأيديولوجية.
وقال إنه زار القرى العلوية في ريف حمص بنفسه لطمأنتهم. بالنسبة للكثيرين في الغرب – والعديد من الصحفيين – كان استهداف المنزل الذي كان يقيم فيه الصحفيون في بابا عمرو أكثر اللحظات الشخصية والدرامية في السنة الأولى للحرب، والتي تحولت منذ ذلك الحين إلى كتب وأفلام، فقد أصيبت ماري كولفين ومصور صحيفة صنداي تايمز بول كونروي، إلى جانب الصحفيين الفرنسيين ريمي أوشليك وإديث بوفييه، بصاروخ أطلق في وقت مبكر من صباح أحد الأيام بعد أن بدأت التقارير الواردة من بابا عمرو في تحفيز الرأي العام العالمي ضد النظام.
ويقول بشار موسى، أحد “الناشطين الإعلاميين” في بابا عمرو، والذي عاد حديثًا من إدلب: “كنت في المستشفى عندما أحضروا المصابين، بول وإديث”، ورافقنا إلى المنزل الذي تسكنه الآن عائلة راوية السيد مع أطفالها السبعة، وقد انتقلوا إليه قبل أربع سنوات، بعد بعض الترميمات السطحية؛ ولكن لا تزال آثار الرصاص والقصف باقية في كل جدران بابا عمرو.
وقالت راوية السيد، 35 عامًا، إنهم كانوا على علم بمقتل الصحفيين هنا، لكن العائلة كانت في حاجة ماسة إلى مكان تعيش فيه بعد سنوات من التنقل من منزل إلى آخر في حمص مع تعرض الأحياء السكنية للقصف، وقالت إن شقيقها قُتل برصاصة عشوائية من قناص تابع للنظام، وقد كانوا يعيشون على المساعدات التي تقدمها الوكالات الدولية إلى أن وجد زوجها، الذي قاتل مع الجيش السوري الحر لكنه نجا من قبضة النظام، عملاً كسائق سيارة أجرة.
في مختلف أنحاء بابا عمرو، انضم الناجون الذين بقوا بالأمس إلى أولئك الذين غادروها سواء طوعًا مثل النهار، أو كرهًا مثل علاء رسلان البالغ من العمر 29 عامًا، والذي أطلق سراحه يوم الأحد من سجن صيدنايا بعد أكثر من 12 عامًا، وكان قد حُكم عليه بالإعدام في البداية بتهمة “الإرهاب”، وهذا لمجرد أنه كان شابًا في بابا عمرو عندما غادر الثوار، ولم يشارك في أي مظاهرة من قبل، على حد قوله.
عندما غادر رجال النهار في نهاية الحصار، كان الجنود يجوبون الحي وهم يطلقون نيران بنادقهم بعنف، ويعتقلون الشباب عشوائيًا مثل رسلان، وكانت هذه لمحة للوحشية القادمة مع وصول الحرب إلى أعماق لا يمكن تصورها في ذلك الوقت، وقال النهار إنه سيبقى في الجيش السوري الجديد حتى يؤمّن البلاد، وعلى عكس النظام، لم يقدم أي وعود بالنسبة للمستقبل.
وقال: ”من الصعب تخيل أي طموحات كبيرة لهذا المكان”، وأضاف: “كان من الصعب تخيل أي شيء في المستقبل قبل هذا الشهر، باستثناء سقوط النظام”.
المصدر: ذا تايمز