في خطوة جديدة تسلط الضوء على تعقيدات الحرب السودانية وأدوار اللاعبين الإقليميين فيها، عرض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الوساطة بين السودان ودولة الإمارات العربية المتحدة، في محاولة لتهدئة التوترات وإيجاد حل للخلافات بين الجانبين.
تأتي هذه المبادرة في وقت تواجه فيه السودان تحديات كبيرة بسبب التدخلات الخارجية التي يرى مراقبون أنها لعبت دورًا مباشرًا في تأجيج الصراع وإطالة أمده.
ويُثير عرض الوساطة التركية تساؤلات حول طبيعة الخلاف بين السودان والإمارات، ودور المجتمع الدولي والإقليمي في إنهاء هذه الحرب المستمرة منذ 15 أبريل/نيسان 2023 التي تصدّر السودان على إثرها قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية الصادرة عن لجنة الإنقاذ الدولية للعام الثاني على التوالي، في ظل استمرار الأزمة الإنسانية غير المسبوقة في البلاد، وسط دعوات لإعادة تعريف أدوار الدول المتورطة في النزاع وتوجيه الجهود نحو إنهاء الحرب وبناء السلام.
وفي سياق متصل قالت وكالة رويترز للأنباء، إنه منذ اندلاع الحرب في السودان العام الماضي، هبطت عشرات طائرات الشحن من الإمارات العربية المتحدة في مهبط طائرات صغير في تشاد يشتبه بعض خبراء الأمم المتحدة والدبلوماسيين أنه يُستخدم لنقل الأسلحة عبر الحدود إلى السودان، وفقًا لبيانات الرحلات الجوية وصور الأقمار الصناعية.
من جانب آخر كشف تقرير لمختبر البحوث الإنسانية بجامعة ييل الأمريكية عن صور الأقمار الصناعية للمدافع الثقيلة التي نصبتها مليشيا الدعم السريع شرق مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور.
وأشار المركز البحثي في منشوره إلى أن المدفع هو مدفع صيني من طراز AH4 عيار 155 ملم ، وهو غير موجود في ترسانة الجيش السوداني، ويُعتبر الجيش الإماراتي المشغل الوحيد لهذا النوع من المدفعية خارج الصين منذ عام 2019.
نحاول في هذا التقرير تحليل تفاصيل الوساطة التركية ومغزاها الإقليمية والدولية، وكيف يمكن للسودان استثماره لإعادة تشكيل السردية الدولية للصراع وتحقيق مكاسب سياسية.
تفاصيل الاتصال
أعلنت الرئاسة التركية من خلال منشور على منصة (إكس) أن اتصالًا هاتفيًا جرى بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، بحثا خلاله العلاقات الثنائية بين تركيا والسودان، والقضايا الإقليمية والعالمية ذات الاهتمام المشترك.
من جهته ذكر الرئيس أردوغان أن تركيا أطلقت عملية أنقرة لحل النزاع بين الصومال وإثيوبيا، وأن الاتفاقية قدمت مساهمة كبيرة في إرساء السلام في المنطقة، وجاء ذلك في بيان عقب مؤتمر صحفي مشترك عقده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الصومالي حسن شيخ محمود، ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، في العاصمة التركية أنقرة.
وأشار إلى أن تركيا يمكنها التدخل لحل الخلافات بين السودان والإمارات العربية المتحدة، وسلط الضوء على المبادئ الرئيسية لتركيا مثل ضمان السلام والاستقرار في السودان، وحماية وحدة وسلامة أراضيه وسيادته، ومنع انجراف البلاد لتصبح ساحة للتدخلات الأجنبية.
وأعلن أردوغان استمرار المساعدات الإنسانية المقدمة من تركيا، مشيراً إلى استئناف عمل الخطوط التركية قريباً، واستعداد بلاده لبذل الجهود لتعزيز العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
من جانبه، أشاد رئيس مجلس السيادة الفريق أول الركن عبدالفتاح البرهان بمواقف تركيا الداعمة للسودان، مثمناً جهودها من أجل السلام والاستقرار في المنطقة والإقليم ومعالجتها للكثير من القضايا على المستويين الإقليمي والدولي، مشيرا إلى نجاحها في معالجة الملف السوري.
بالاضافة إلى تطرقهم للجهود المبذولة لتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين، ولجهود تركيا في إحلال السلام في المنطقة والإقليم وقدم البرهان الشكر لأردوغان على مواقف تركيا الداعمة لحكومة وشعب السودان.
يرى محللون أن الإتصال الهاتفي تم بمبادرة من جانب الرئيس التركى، بعد يوم واحد من آخر زيارة لوزير خارجية أمريكا لأنقرة واجتماعه مع أردوغان، قبل تولى ترامب للحكم في أمريكا بأسابيع قليلة، وجاء الإتصال بعد أسبوع واحد من الإطاحة بنظام الأسد بسوريا، والذى لعبت فيه تركيا دورًا رئيسيًا ومحوريًا.
كما أن الخبر الذي أوردته وكالة الأناضول بناء على تغريدتي البرهان والرئاسة التركية، والتفاصيل الواردة بخبر إعلام مجلس السيادة، تؤكد أن اتفاقا وتفاهما قد حدث فى الإتصال الهاتفي، وأن البرهان أعطى أردوغان ضوء أخضر فيما يتعلق بتعزيز وتطوير العلاقات الثنائية والوساطة بين السودان والامارات.
دلالات الوساطة التركية
يمثل الإتصال نجاحًا باهرًا وتحولًا نوعيًا في الخطاب الدبلوماسي المتعلق بالحرب السودانية، وأن إدخال تركيا كقوة إقليمية مؤثرة لتعريف النزاع كـ”حرب سيادة” بين السودان والإمارات يرفع من مستوى النقاش حول الحرب من مجرد صراع داخلي إلى حرب استتباع إقليمية تستهدف السيادة الوطنية السودانية، وأن هذا التحول يعكس نجاحًا في دبلوماسية السودان، حيث أصبحت القضية تُعرّف في إطار يتجاوز الاختزال المعتاد لـ”حرب الجنرالين” أو “صراع بين الجيش والدعم السريع”.
ويعتقد آخرون، أن مضمون محتوى الإتصال يخلص إلى أن الوساطة التركية هي جزء مكمل متكامل لتهيئة المسرح لاستئناف منبر جدة قريبًا بوجود ومشاركة إماراتية ومصرية بوصفه المنبر المتفق عليه إقليميًا ودوليًا لاستكمال المباحثات بين الطرفين من أجل وقف الحرب.
في هذا الصدد يعتقد الكاتب السوداني عبد الحليم العباس أنه لا يوجد أي نزاع في مصالح مشتركة أو متضاربة ، وأن “الإمارات تشن حرب عدوان على السودان وشعبه بدعم مليشيا الدعم السريع بالمال والسلاح والمرتزقة” على حد وصفه.
وتساءل العباس في حديثه لـ “نون بوست”: “ما الذي فعله السودان للإمارات؟ الإجابة، لا شيء”. مشددًا على أهمية قبول الحكومة السودانية للوساطة التركية للمواجهة المباشرة مع الإمارات.
وأوضح: “على الحكومة السودانية أن توافق فورًا على هذه الوساطة لتواجه الإمارات وجهًا لوجه، ولكي تسألها: لماذا تحارب الشعب السوداني؟ لماذا تدعم مليشيات الجنجويد التي تقتل وتشرد المواطنين وتدمر السودان؟ ما الذي فعلناه لكم؟ وماذا تريدون من السودان؟”.
وأكد العباس أن “مجرد طرح الوساطة بين السودان والإمارات هو تجريم واضح للإمارات وإدانة صريحة لها”، داعيًا السودان إلى “استغلال هذه الفرصة، ليس لمنح الإمارات الفرصة للتملص من جريمتها، بل لجعلها تدفع الثمن، ثمن الدماء والدمار والتخريب وكل ما ارتكبته المليشيا من فظائع وانتهاكات بحق الدولة السودانية وبحق الشعب السوداني” بحسب تعبيره.
وفي سياق تصعيد مطالبه، قال العباس: “يجب أن يقبل السودان بالوساطة ليتجاوز بضربة واحدة المليشيا وحلفاءها في تنسيقية تقدم، ليواجه الرأس مباشرة”.
وأشار إلى أن “الإمارات ليس لها أي حق ننازعها فيه، لم نتدخل في شؤونها الداخلية، ولم نهدد مصالحها في الخارج”.
واختتم العباس حديثه مؤكدًا: “ما نريده من الإمارات ليس فقط وقف دعم المليشيا التي تحارب الشعب السوداني، وإنما تحمل المسؤولية كاملة عن كل ما تسببت فيه للسودان من خراب ودمار وقتل وتشريد وإذلال للسودانيين. ولا عفا الله عما سلف”.
إعادة تعريف دور المجتمع الدولي
في وقت سابق، اتهم مندوب السودان بالأمم المتحدة الحارث إدريس، الإمارات بإشعال الحرب في بلاده عبر دعم مليشيا الدعم السريع فيما نفت الإمارات ذلك وقالت إن “تلك الادعاءات لا أساس لها من الصحة وتفتقر إلى أدلة موثوقة لدعمها”.
في سياق متصل اعتبر محمد الطاهر، عضو المبادرة السودانية لوقف الحرب وبناء السلام، أن عرض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الوساطة بين السودان والإمارات يمثل خطوة إيجابية وبداية صحيحة نحو تحديد دور المجتمع الدولي والإقليمي في حرب السودان.
وقال الطاهر في حديثه لـ”نون بوست” إن المجتمع الدولي منذ اندلاع الحرب في السودان تبنى محاولات عديدة لحل النزاع، مثل الجمع بين قادة الحرب، أو السياسيين السودانيين، أو حتى الدول المؤثرة على أطراف النزاع، لكنه شدد على أن “كل هذه المحاولات فشلت لأسباب عدة، أهمها التعريف الخاطئ لدور المجتمع الدولي والإقليمي في هذه الحرب”.
وأوضح الطاهر أن “الحرب لها أسباب ودوافع كثيرة يجب على السودانيين معالجة المتعلق منها بالداخل عبر الحوار، بينما يقع على عاتق المجتمع الدولي معالجة أهم أسبابها، وهو تدخل الإمارات ومحاولاتها للسيطرة على السودان” حسب وصفه.
وحول دور الإمارات في النزاع، أكد الطاهر: “لا يمكن تعريف الإمارات أو تقديمها كوسيط في هذه الحرب، كما حاولت الولايات المتحدة فعل ذلك في جنيف، الإمارات خصم مباشر يجب ردعه، والوساطة التركية يمكن أن تنجح في تحقيق ذلك”.
ورغم تفاؤله بالوساطة التركية، انتقد الطاهر وصف الرئاسة التركية للأزمة بأنها “اختلافات” معتبرًا أنه وصف “مخفف” للأزمة وأن “الأمر عدوان مباشر، إذ لا يحق لدولة التدخل الحربي في شؤون دولة أخرى مهما كان حجم اختلافها مع النظام السياسي هناك” على حد تعبيره.
وختم الطاهر حديثه قائلاً: “نستبشر خيرًا بأن تكون الخطوة بداية لإعادة تعريف دور المجتمع الدولي والإقليمي تجاه حرب السودان، وبداية تركيزه على ما يوقف الحرب فعلاً”.
دعم مزدوج
من جانب آخر، في تطور جديد يعكس تعقيد الأدوار الإقليمية في الصراع السوداني، كشفت صحيفة نيويورك تايمز أن الإمارات العربية المتحدة تقدم دعماً مزدوجاً لطرفي الحرب في السودان.
بحسب التقرير، تلعب الإمارات العربية المتحدة أيضًا دورًا مزدوجًا في ساحة المعركة، إذ تدعم قوات الدعم السريع من خلال إرسال طائرات بدون طيار وصواريخ قوية في عملية سرية تحت ستار مهمة إنسانية.
وفي الوقت ذاته، تمول الإمارات الجيش السوداني عبر العائدات الضخمة لمنجم “كوش” أكبر منجم صناعي في السودان، والذي تملكه الإمارات ومرتبط بمسؤولين في العائلة المالكة، ويقع في مناطق خاضعة لسيطرة الجيش، مما يزيد من تعقيد شبكة التحالفات المتشابكة التي تغذي الحرب.
وحسب التقديرات فإن هذا المنجم يدر إيرادات سنوية تصل إلى عشرات الملايين من الدولارات، ما يطرح تساؤلات حول طبيعة المصالح الإماراتية في السودان، ودورها في إطالة أمد النزاع.
هذه المعلومات التي كشفها تقرير نيويورك تايمز تسلط الضوء على الأبعاد الاقتصادية للنزاع السوداني، وتفتح الباب أمام مزيد من النقاشات حول تأثير التدخلات الإقليمية على مسار الحرب، وسبل تحقيق الاستقرار في البلاد.
إضافة إلى ذلك، يدفع الذهب أيضًا الحرب لصالح الجيش السوداني. فقد قصف مناجم قوات الدعم السريع، وزاد من إنتاج الذهب في المناطق التي لا تزال تحت سيطرة الحكومة، غالبًا بدعوة قوى أجنبية للتنقيب.
ختامًا، هل ستتمكن الوساطة التركية من كسر الجمود السياسي وإعادة تعريف دور الأطراف الإقليمية في الصراع السوداني؟ أم أنه يمكن قرائتها في إطار لعب تركيا لدور محوري في إعادة ترتيب المشهد في الشرق الأوسط تحت بند الاستقرار أولًا؟
وكيف ستتعامل الحكومة السودانية مع هذه المبادرة في ظل تصاعد الاتهامات للإمارات بدعم مليشيا الجنجويد؟ وهل ستفتح هذه الخطوة الباب أمام المجتمع الدولي لتبني مقاربة جديدة أكثر فعالية لإنهاء الحرب؟ أم أنها ستظل محاولة أخرى تضاف إلى سلسلة المبادرات الفاشلة ؟