أسفر الاجتماع الذي احتضنته مدينة العقبة، جنوبي الأردن، السبت 14 ديسمبر/كانون الأول الجاري، لما عٌرف بـ “لجنة الاتصال العربية” بشأن سوريا، والتي تضم الأردن، والسعودية، والعراق، ولبنان، ومصر، والأمين العام لجامعة الدول العربية، بالإضافة إلى حضور وزراء خارجية الإمارات، والبحرين، الرئيس الحالي للقمة العربية، وقطر، عن دعم المشاركين لعملية انتقال سلمية في سوريا الجديدة، ورفض الاحتلال الإسرائيلي لبعض المناطق في الجنوب السوري وخرق اتفاق فك الاشتباك عام 1974.
وأعقب اجتماع اللجنة، الذي غاب عنه ممثلون عن الثورة والمعارضة السورية، لقاءات مع وزراء خارجية تركيا والولايات المتحدة وفرنسا، وممثلين عن بقية أعضاء اللجنة المصغرة بشأن سوريا (بريطانيا وألمانيا) إضافة إلى الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، والمبعوث الأممي لسوريا غير بيدرسون.
وخلص الاجتماع إلى التأكيد على “الوقوف إلى جانب الشعب السوري الشقيق، وتقديم كل العون والإسناد له في هذه المرحلة الدقيقة، واحترام إرادته وخياراته، ودعم عملية انتقالية سلمية سياسية سورية – سورية جامعة، تتمثل فيها كل القوى السياسية والاجتماعية السورية، بما فيها المرأة والشباب والمجتمع المدني بعدالة، وترعاها الأمم المتحدة والجامعة العربية، وفق مبادئ قرار مجلس الأمن رقم 2254 وأهدافه وآلياته، بما في ذلك تشكيل هيئة حكم انتقالية جامعة بتوافق سوري، والبدء بتنفيذ الخطوات التي حددها القرار للانتقال من المرحلة الانتقالية إلى نظام سياسي جديد، يلبي طموحات الشعب السوري بكل مكوناته، عبر انتخابات حرة ونزيهة، تشرف عليها الأمم المتحدة، استناداً إلى دستور جديد يقره السوريون، وضمن تواقيت محددة وفق الآليات التي اعتمدها القرار”.
كما أكدت اللجنة دعم دور المبعوث الأممي إلى سوريا والطلب من الأمين العام للأمم المتحدة تزويده كل الإمكانات اللازمة، وبدء العمل على إنشاء بعثة أممية لمساعدة سوريا لدعم العملية الانتقالية فيها، ورعايتها، ومساعدة الشعب السوري الشقيق في إنجاز عملية سياسية يقودها السوريون وفق القرار 2254.
وأثار الاجتماع بداية من الدعوة له مرورًا بالمشاركين فيه وصولا إلى مخرجاته التي تضمنها بيانه الختامي حالة من الجدل داخل الشارع السوري والعربي، فبينما يعتبره البعض خطوة في مسار الانتقال السلمي للسلطة في سوريا يراه أخرون محاولة للانقلاب على الثورة وإجهاض مكتسباتها والقفز على إرادة السوريين وفرض الوصاية عليهم وفخ يستهدف إعادة عقارب الساعة السورية إلى الخلف، وهو المخطط الذي يرفضه السوريون الذين دفعوا ثمن ديمقراطيتهم وثورتهم باهظا جدًا.
خطوة في الطريق الصحيح
يعد الاجتماع التحرك العربي الإقليمي الأول من شأنه لمناقشة مستقبل سوريا الجديدة بعد هروب بشار الأسد وانهيار نظامه وسيطرة المعارضة على المشهد بشكل شبه كامل، وهو ما يعده البعض خطوة جيدة في طريق الهدوء والاستقرار ووحدة الدولة السورية والحفاظ على مقدراتها بعد الهزة العنيفة والفراغ الذي أحدثه سقوط النظام البائد بهذه الطريقة الفاضحة.
البعض رأي أن تأكيد لجنة الاتصال العربية على “احترام إرادة الشعب السوري وخياراته، ودعم عملية انتقالية سلمية سياسية سورية – سورية جامعة” رسالة واضحة للجميع بالدعم العربي لسوريا الجديدة التي لم تتضح معالمها بعد، وهو ما يعني ضمنيًا الاعتراف بسقوط نظام الأسد إلى غير رجعة.
أنصار هذا الرأي يميلون إلى أن الأطراف المشاركة في هذا الاجتماع وما لها من نفوذ إقليمي معتبر سيكون لها دورها في حماية سوريا من الانزلاق نحو الفوضى في ظل ضبابية المشهد وتعدد الأطراف الفاعلة على الساحة من الجماعات والفصائل المسلحة، الأمر الذي يتطلب تحركًا إقليميًا وتنسيقًا مشتركًا لتجنيب البلاد الولوج في فخاخ الانهيار المبكر بما يقوض عمليات البناء ويعرض الأمن السوري والإقليمي للخطر.
ومن ثم، وبحسب هذا الفريق، فإن وجود كيانات إقليمية ودولية كالجامعة العربية والأمم المتحدة كجهات ضامنة وراعية لهذا التحول والانتقال السلس والسلمي للسلطة من شأنها أن يوفر الحماية الكاملة لهذه الخطوة التي تتطلب تضافر كافة الجهود وتنسيق سوري عربي إقليمي دولي لإنجاحها وعبور البلاد تلك المرحة الحرجة حيث مقومات الدولة في مهب الريح، على رأسها المؤسسة العسكرية والتوغل الإسرائيلي في الجنوب والتحرش بأطراف دمشق.
رفض الوصاية الدولية
وفي المقابل هناك من اعتبر البيان محاولة لفرض الوصاية على سوريا، وتدويل قضيتها، وهو الأمر المفروض بالنسبة للكثيرين ممن يرون أن سوريا للسوريين، وأن أبنائها وحدهم من يحق لهم مناقشة مصيرها ومستقبلها، فهم وحدهم من دفعوا الثمن سنوات من حياتهم وحياة أجيال بأكملها تعرضت للتنكيل من النظام البائد الذي لم يتورع عن إيلام شعبه بكل أشكال التعذيب والطغيان، فزج بمئات الالاف في المعتقلات الوحشية وأجبر عشرات الملايين على النزوح والهجرة داخليًا وخارجيًا.
ويتساءل الرافضون لهذا الاجتماع ومخرجاته عن الدور المنوط بالأمم المتحدة والجامعة العربية للقيام به من أجل سوريا، فماذا فعلت تلك المنظمات حين كان نظام الأسد يقتل السوريين بالبراميل المتفجرة؟ أين كانت وقتما زُج بالآلاف في سجن صيدنايا وغيره؟ أين كانوا حين خرج الشعب السوري للتعبير عن إرادته فتم سحقه على مرأى ومسمع من الجميع؟ لماذا اختفوا بالأمس واليوم يأتون لفرض الوصاية وكأن الشعب السوري غير مؤهل بعد لإدارة بلاده؟
وفي هذا السياق أعلن رئيس الائتلاف الوطني السابق أحمد معاذ الخطيب، في تغريدة له عبر منصة “إكس” أن بيان العقبة لا يمثله، مضيفة أنه وبعد استشارة شخصيات دولية متخصصة في السياسة أو النزاعات الدولية، فإن “وضع الأمور تحت يد الأمم المتحدة (التي تنجح في برنامج وتفشل في عشرة) وإخراج التفاهم من سورية، كفيل بأن تأخذ النقاط المطروحة سنوات طويلة على حساب حياة شعبنا”، وأضاف “واجبنا كسوريين التفاهم الداخلي، فالدول لا تهتم إلا بمصالحها، وسورية كعكة شهية اقتصادياً وجغرافياً، والكل يسيل لعابه لافتراسها”.
بيان العقبة محاولة خبيثة جدا للالتفاف على انتصار الشعب .. نحن امام مشروع خبيث اوضع سوريا تحت وصاية الامم المتحدة ليصبح مبعوثها الذي عمل لسنوات لتعويم النظام مندوبا ساميا على قرار السوريين .. الثورة انتصرت بارادة شعبها وابناؤها قادرون لوحدهم على قيادتها
— Omar Alhariri (@omar_alharir) December 14, 2024
فيما أشار المفكر، عزمي بشارة، أن سوريا غنية بالمؤسسات والكفاءات والتجارب، وأنها دولة مستقبلة منذ ثمانية عقود، ولا تحتاج إلى وصاية دولية، لافتا أنها ليست “تيمور الشرقية” التي احتاجت إلى إشراف دولي بعدما استقلت عن اندونيسيا فأدارها عمليا مكتب الامم المتحدة.
وأضاف في تغريدة على حسابه على “إكس” أن الشعب السوري دفع ثمن حريته ثمنًا باهظا جدًا، وأنه نجح في النهاية في تحرير نفسه بنفسه دون تدخلات خارجية، وتابع “يفضل أن يعود السياسيون السوريون المعارضون في المنافي إلى سوريا للمشاركة في بناء سوريا الجديدة والتعبير عن آرائهم خلال ذلك إذا سمحت ظروف كل منهم الشخصية وهو/هي الأقدر على تقييمها، يفضل أن يكون النصح من خلال التعاون”.
صباح الخير يا دمشق مرة أخرى
1. سوريا دولة مستقلة منذ ثمانية عقود. وهي غنية بالمؤسسات والكفاءات والتجارب، ولا تحتاج إلى وصاية دولية. ليست سوريا تيمور الشرقية التي احتاجت إلى اشراف دولي بعدما استقلت عن أندونيسيا فأدارها عمليا مكتب الامم المتحدة.
2. دفع الشعب السوري ثمنًا باهظا…— عزمي بشارة (@AzmiBishara) December 15, 2024
الرأي ذاته شاركه فيه الفنان التشكيلي الحلبي والناشط السياسي عمار آغا القلعة، الذي اعتبر بيان العقبة محاولة يائسة لإبعاد الهزات الارتدادية المتوقعة لنجاح الثورة السورية عن زملاء نظام الأسد في الجامعة العربية، لافتا أن تدويل قيادة سوريا خطوة يائسة لا قيمة لها عن الشعب السوري، وأن القرار( 2254) انتهى إلى غير رجعه ، “وكذلك كل الكيانات الطفيلية ، وكائنات العلق السياسي التي نمت حول مستنقعه الضحل “.
ودعا القلعة إلى ضرورة أن يعلن الشعب السوري بأكمله عن رفض هذا البيان ومخرجات الاجتماع، مقترحًا أن تكون الجمعة القادمة فرصة هامة للغاية لخروج الملايين من السوريين للتعبير عن رفض البيان، وأنه لابد من أن تبدأ التحضيرات من الآن والإسراع بالتقدم بطلبات ترخيص مسيرات في كافة المحافظات السورية، مؤكدًا على أن” الشعب السوري لا يكترث باي شيء غير رغبته في الحرية فقط .. ولكن على ما يبدو أن ذنبه هذا لا يغتفر”.
فخ للقضاء على سوريا الجديدة
حزمة من المؤشرات التي خيمت على الاجتماع قبل انعقاده أثارت الشكوك في نواياه وجدية مزاعمه بشأن احترام خيارات السوريين ودعم سوريا الجديدة، على رأسها غياب تمثيل المعارضة السورية التي أطاحت بنظام الأسد، واستبعادها من الاجتماع بشكل مثير للتساؤل، هذا بخلاف انعقاد الاجتماع ذاته في العقبة الأردنية، بعيدًا عن دمشق العاصمة، خاصة بعد تحريرها وقدرتها على احتضان مثل تلك الاجتماعات التي تناقش الشأن السوري.
الدول التي شاركت في الاجتماع كانت هي الأخرى جزءًا من الجدل المثار حول مخرجاته، إذ إن معظمها كان داعمًا لنظام الأسد ومحتضنًا له ومناهضًا للثورة والثوار منذ البداية، وهو ما شكك في نوايا المشاركين، التي تكشفت نسبيًا مع صدور البيان الذي اعتبره البعض يحتوي على قنابل موقوتة وملغمًا بالكثير من المتفجرات التي تستهدف الثورة وسوريا الجديدة.
الجمعة القادمة هامة للغاية ، في التعبير عن رفض السوريين لبيان العقبة ..
يجب أن تبدأ التحضيرات من الآن ، والإسراع بالتقدم بطلبات ترخيص مسيرات في كافة المحافظات السورية .— عمار آغا القلعة | Ammar (@Ammaraghaalkala) December 15, 2024
فالإمارات التي شاركت في الاجتماع كان رئيسها محمد بن زايد أول من تواصل مع بشار الأسد بعد تحرير المعارضة لمدينة حلب، وأعلن دعمه للنظام في مواجهة الثوار، الموقف ذاته اتخذته القاهرة من خلال الاتصال الذي أجراه وزير خارجيتها بنظيره لدى النظام، هذا بخلاف السعودية التي كان لولي عهدها الدور الأكبر في إعادة رئيس النظام السوري للجامعة العربية بعد سنوات من العزلة والتجميد، كذلك الأردن التي لم يتوقف دعمها الاستخباراتي للنظام البائد رغم الخلاف بينهما بسبب تجارة المخدرات.
في هذا السياق يرى الإعلامي المصري، أسامة جاويش، أن الدولتين الوحيدتين اللتين تملكان حق الحديث عن الشأن السوري في هذا الاجتماع، هما تركيا التي دعمت الثورة منذ بدايتها وناهضت نظام الأسد حتى وإن غازلته مؤخرًا، وقطر التي كان لها موقفها الواضح والثابت إزاء المشهد السوري منذ 2011، لافتا أنهما لهما حق الحديث فقط دون التدخل ولا إملاء الشروط على السوريين، فهم وحدهم دون غيرهم الأحق بتحديد مصير بلادهم.
ويصف جاويش في مقطع مصور له أن الهدف الأساسي لهذا الاجتماع يتمثل في القضاء على الثورة السورية وتمهيد الطريق نحو عودة النظام السوري، سواء بوجود الأسد أو بغيره، بالمال الخليجي والمؤامرات الإقليمية، وهو ما حدث سابقا في بعض العواصم العربية، منوها أن رفض ما جاء بالاجتماع شكلا ومضمونا هو الخيار الوحيد أمام السوريين للتصدي لتلك المؤامرة الواضحة.
وكانت صحيفة “وول ستريت جورنال” قد كشفت عن قيادة الإمارات لتحركات إقليمية بمشاركة الأردن ولبنان لضمان عدم هيمنة الإسلاميين على الحكومة الانتقالية في سوريا، خوفاً من عودة التطرف وتأثيره على استقرار المنطقة، وهو ما عبر عنه بشكل واضح المستشار الدبلوماسي للرئيس الإماراتي، أنور قرقاش، حين أشار إلى قلق أبو ظبي إزاء الانتماء الدينى للفصائل السورية المسلحة التي أسقطت نظام بشار الأسد، وذلك خلال كلمة له في “مؤتمر السياسات العالمية” الذي عقد في أبو ظبي الأحد 14 سبتمبر/كانون الأول الجاري.
في الأخير.. ربما يكون من المبكر تقييم ما حدث في العقبة بشكل دقيق ونهائي، في ظل حالة الانقسام بشأنه، خاصة بعد محاولة كل الأطراف التعامل مع سوريا وفق معادلتها الجديدة وخارطة قواها التي تغيرت شكلا ومضمونا، لكن ما يجب أن يضعه الجميع في الاعتبار أنه لا وصاية لأحد أيا كان على الشعب السوري وثورته، فهو الوحيد الأجدر والأحق بالتحدث عن مستقبل بلاده، وأي حراك أو تجمع أو تنسيق، عربي أو إقليمي أو دولي، يجب أن يكون من خلاله وأن يكون على رأسه وقاعدته في نفس الوقت.