في صباح السبت، أعلنت أجهزة أمن السلطة الفلسطينية عن إطلاق المرحلة ما قبل الأخيرة من عملية “حماية وطن”، كما أطلقت عليها، في مخيم جنين، وتزامن الإعلان مع وجود مكثف لقوات السلطة على الأرض، بالإضافة إلى تحليق طائرة مسيرة من نوع “زنانة”، مشابهة لتلك التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي في عملياته العسكرية، وفقًا لما ذكرته مجموعات محلية في جنين.
وتوجه رئيس الحكومة الفلسطينية الجديد محمد مصطفى (وهو الذي عيّنه الرئيس محمود عباس خلال طوفان الأقصى) إلى جنين، للإشراف مع وزير الداخلية ورئيس جهاز المخابرات وقائد الأمن الوطني وعدد من قيادات الأجهزة على العملية ضد مجموعات المقاومة في مخيم جنين.
تأتي العملية الأمنية في جنين على خلفية تصعيد بدأ قبل أكثر من أسبوع عندما اعتقلت أجهزة أمن السلطة إبراهيم الطوباسي، أحد المقاومين من كتيبة جنين، وصادرت أموالًا مخصصة لأسر الشهداء والأسرى، بحسب بيان أصدرته الكتيبة، وردًا على ذلك، تمكن مقاومون من الكتيبة من مصادرة مركبتين تابعتين للأجهزة الأمنية.
على إثر ذلك، استغلت السلطة الفلسطينية السياق لتبدأ بعمليتها الواسعة لإنهاء المقاومة في جنين، حتى قال أحد مسؤولي السلطة خلال لقاء مع وجهاء المدينة الذين حاولوا الإصلاح: “القصة ليست متعلقة بالمركبات، بل هو قرار سياسي لإنهاء الحالة في جنين”، في إشارة إلى حالة المقاومة.
وخلال العملية، استشهد المطارد للاحتلال وأحد قادة كتيبة جنين يزيد جعايصة برصاص أجهزة أمن السلطة في مخيم جنين، والطفل محمد العامر، والشاب ربحي الشلبي، الذي سحلته في مشهد مماثل لتنكيل جنود الاحتلال للشهداء الفلسطينيين، وبذلك يرتفع عدد الشهداء الذين قتلتهم السلطة الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر 2023، إلى 13 شهيدًا بين مقاومين، ومشاركين في مسيرات مساندة لقطاع غزة.
وبينما سمّتها أجهزة أمن السلطة عملية ضد الخارجين عن القانون في جنين، قال مسؤولون في السلطة الفلسطينية لصحيفة “يديعوت أحرنوت”: “يجب علينا أن ننزع من بيننا خلايا حماس والجهاد الإسلامي التي تدمر مخيماتنا ونسيج حياتنا”.
العملية بالتنسيق مع الاحتلال الإسرائيلي
التقارير الإسرائيلية تؤكد أن العملية في جنين ليست منفصلة عن التنسيق الأمني مع الاحتلال، وأوضحت “يديعوت أحرنوت” أن هناك قرارًا إسرائيليًا رسميًا بالحفاظ على استقرار السلطة الفلسطينية من منطلق المصلحة الأمنية الإسرائيلية.
وأضافت القناة 12 العبرية وصحيفة “معاريف” أن الرئيس محمود عباس أصدر تعليمات واضحة لقادة الأجهزة الأمنية بإنهاء الوضع في جنين بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك تعزيز القوات، استخدام المدرعات، ونشر القناصة على أسطح المنازل.
من جانبه، أمر وزير الحرب الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، بتعزيز قوات جيش الاحتلال بخمس سرايا إضافية في الضفة الغربية، خاصة مع تزامن العملية الأمنية مع ذكرى تأسيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، التي حذر جيش الاحتلال من احتمال تصاعد عملياتها في هذه المناسبة.
ووفقًا للقناة 12 العبرية، أبلغ قادة الاحتلال السلطة الفلسطينية: “إذا أظهرت جدية في تنفيذ العملية، يمكننا منحكم مزيدًا من الوقت. وإذا لم يحدث ذلك، سنتدخل بأنفسنا”.
وكانت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، قالت في مقابلة مع رئيس الإدارة المدنية في جيش الاحتلال إن الأجهزة الأمنية تعمل بـ”نموذج نابلس”، ويقصد به دخول أجهزة أمن السلطة للمناطق التي كان جيش الاحتلال قد اقتحمها وأضعف فيها البنية التحتية للمقاومة.
مخطط لها مسبقًا قبل الطوفان
بدأت تشكيلات كتائب المقاومة في الضفة الغربية وعودتها إلى الساحة بعد معركة سيف القدس في مايو/أيار 2021، ومنذ أبريل/ نيسان 2022، بدأ المقاومون في شمال الضفة المحتلة تطوير سلاحهم البسيط الذي بدأ بأكواع صغيرة استخدمها مقاومو مخيم جنين أثناء تصديهم لقوات المشاة المتقدمة إلى زقاق المخيم، وقد كانت العبوات تُحدث آنذاك انفجارات صوتية، وتشعل نيرانًا بسيطة، وانتقلوا إلى سلاح هذه المرحلة هو العبوات محلية الصنع
وتشكّل العبوات الناسفة التحدي الأبرز لجيش الاحتلال في الضفة الغربية، بعد تحقيقها خسائر جسيمة في آليات الاحتلال المدرعة، والتي يستخدمها أثناء الاقتحامات، إضافة إلى وقوع قتلى وجرحى من جنود الاحتلال جرّاء وقوعهم بكمائن العبوات الناسفة، التي يعدّها المقاومون في المناطق التي تمرّ منها آليات الاحتلال.
على سياق ذلك، أكدت تقارير إسرائيلية، في سبتمبر/أيلول 2023، إدخال شحنة جديدة من الأسلحة والمعدات العسكرية للسلطة الفلسطينية عبر قاعدة أمريكية في الأردن وبموافقة إسرائيلية.
وتضمنت الشحنة ناقلات مدرعة وأسلحة متطورة، من بينها بنادق M-16 موجهة بالليزر وكلاشينكوف، بالإضافة إلى مدرعات حديثة. وعلى الرغم من نفي السلطة هذه التقارير، أكد الاحتلال صحة المعلومات، مشيرًا إلى أن الهدف من هذه المعدات هو تعزيز قدرة السلطة على مواجهة المقاومة في مناطق مثل جنين.
وفقًا لتقارير أخرى، تضمنت الشحنة دعمًا تقنيًا يشمل تدريب وحدة متخصصة في مجال السايبر لتحسين القدرات الاستخبارية. وأشارت صحيفة “إسرائيل اليوم” إلى أن هذه الجهود تأتي ضمن تفاهمات سياسية وأمنية تم التوصل إليها خلال قمتي العقبة وشرم الشيخ.
تعزيزات السلطة لنفسها خلال الطوفان
في شهر سبتمبر\ أيلول 2024، نقلت القناة 14 العبرية، أن الاحتلال اتفق مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية على نشر 500 من عناصرها في مناطق شمال الضفة الغربية وبعض مناطق الأغوار، لمحاربة المقاومة، بعد انتهاء عملية “المخيمات الصيفية” أو بالتزامن معها.
وكان الاحتلال أعلن فجر 28 أغسطس/ آب 2024، إطلاق عملية عسكرية واسعة ومتزامنة تستهدف مخيمات في شمال الغربية، وبشكل أساسي في جنين وطولكرم وطوباس، بعد أسابيع من تحذيرات تضخ بها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن الضفة على حافة الانفجار، وأن قدرات المقاومة في تصاعد، وأن العمليات الاستشهادية التي أعلنت كتائب القسام عن عودتها لن تكون مجازًا، بل حقيقة تعيد الرعب إلى الأراضي المحتلة.
وخلال طوفان الأقصى، أشارت بيانات الموازنة الفلسطينية إلى أن قطاع الأمن يستحوذ على نسبة كبيرة من الإنفاق الحكومي للسلطة الفلسطينية، ففي النصف الأول من عام 2024، بلغ الإنفاق على الأجهزة الأمنية 23% من إجمالي النفقات، وبلغ إجمالي ما تم إنفاقه على إعادة تأهيل الأجهزة الأمنية حوالي 24.2 مليون شيكل في الربع الأول من العام.
وفي شهر أغسطس/آب 2024، أوضح الفريق الأهلي لدعم شفافية الموازنة، أن تخصيص الإنفاق الأكبر من موازنة السلطة الفلسطينية على قطاع الأمن، يأتي في الوقت الذي لم تحول سوى دفعة واحدة من مخصصات الأسر الفقيرة خلال الفترة ذاتها.
ويتجاوز عدد الموظفين العسكريين 50 ألف موظف من إجمالي نحو 144 ألفا عدد الموظفين العموميين في السلطة الفلسطينية.
وكانت لجنة أهالي المعتقلين السياسيين في الضفة الغربية كشفت في وقت سابق خلال ديسمبر/ كانون الأول 2024، عن توثيقها 144 حالة استدعاء و484 حالة اعتقال سياسي نفذتها أجهزة أمن السلطة منذ بدء الحرب على قطاع غزة.
وأكدت اللجنة أن هذه الأرقام تمثل جزءاً فقط من الانتهاكات الحاصلة على أرض الواقع، حيث أن العديد من الحالات لم يتم توثيقها بسبب تحفظ الأهالي وامتناعهم عن الإعلان عن الانتهاكات التي طالت أبناءهم خشية تعرضهم لمزيد من التهديدات أو المضايقات.
وبحسب مصدرٌ قيادي في سرايا القدس في كتيبة جنين، فإن السلطة قدمت عروضًا للمقاومين من أجل تسليم سلاحهم، فيما تخوض الأجهزة الأمنية حملة تشويه للمقاومين، على غرار ما حدث مع الشهيد عدي الشحروري الذي اغتاله في طوباس مطلع ديسمبر\كانون الأول 2024، والشهيد محمد جابر “أبو شجاع” من طولكرم.
أوراق الاعتماد لترامب
لا يمكن عزل ما يحدث في جنين، عن تقديم السلطة أوراقها قبل مجيء ترامب، لاعتمادها في أي خطط إسرائيلية أمريكية قادمة، وهو ما أكدته مصادر رفيعة المستوى في مكتب الرئيس محمود عباس لصحيفة “هآرتس” الذي ذكرت أن: “مسؤولين عرب وغربيين يطالبون السلطة بتوضيحات: إذا فشل أبو مازن والسلطة الفلسطينية في السيطرة على مدينة مثل جنين، فكيف يمكن نضمن قدرته على ذلك في قطاع غزة وفي جميع أنحاء الضفة الغربية بشكل عام؟”
في سياق متصل، قدّمت نعومي نيومان، التي شغلت سابقًا رئاسة وحدة الأبحاث في “الشاباك”، تحليلًا للوضع الحالي في مقالٍ عبر معهد واشنطن للدراسات، أشارت فيه نيومان إلى أن “الوضع أكثر تعقيدًا مما يدركه الرئيس الفلسطيني محمود عباس تمامًا، وينبغي أن يثير قلقه”.
وأضافت أن عباس غالبًا قد بالغ في تقدير ما يمكن للسعوديين فعله لدعمه، مشيرة إلى أن المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط شهد تغييرات كبيرة منذ ولاية دونالد ترامب الأولى.
تطرقت نيومان إلى احتمال أن تشمل ولاية ترامب المقبلة إعادة طرح “صفقة القرن” بنسخة ثانية تتضمن شروطًا أكثر صرامة للفلسطينيين، وقالت إن عباس والسلطة الفلسطينية تعلما دروسًا من الولاية الأولى لترامب، ويحاولان الآن التعامل بحذر، مع إدراكهما أن المصالح الفلسطينية ليست أولوية للرئيس الأمريكي المنتخب.
النهج الأمني لم يكن مجرد خيار سياسي للسلطة الفلسطينية، بل أصبح ركيزة أساسية في بنية السلطة ووظائفها، وانعكس ذلك بشكل واضح في طريقة تعامل الأجهزة الأمنية الفلسطينية مع المقاومة الشعبية والمسلحة، حيث لعبت دورًا كبيرًا في قمع التحركات الشعبية والمقاومة ضد الاحتلال، بدلاً من أن تكون جزءًا منها. كما أن هذه العقيدة أثارت اتهامات واسعة للسلطة بأنها تعمل على تنفيذ أجندة إسرائيلية بدلاً من حماية حقوق الشعب الفلسطيني ومقاومة الاحتلال.