“لم يكن ليخطر ببالي أنني سأشهد في حياتي مثل هذه العلاقات الودية وهذا التعاون بين “إسرائيل” والدول العربية. وهنا الشيء الذي يبشر بكل خير: بدأ هذا الأمر يؤثر في الرأي العام بالبلدان العربية، فقد بدأوا يفكرون بـ”إسرائيل” بشكل مختلف وهذا هو ما كان يتطلع إليه الإسرائيليون. ولقد تعمدت انتهاج هذه السياسة من التعاون مع العالم العربي ليس فقط لأن ذلك في حد ذاته أمر جيد بل أيضًا لأنني أعتقد بأن ذلك سيمهد الطريق نحو السلام.” لم تكن هذه الكلمات التي تفوه بها رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، سوى تجسيد لمنعطف جديد في العلاقات بين العرب ودولة الاحتلال.
عكست تلك التصريحات التي أدلى بها نتنياهو في لقاء له مع برنامج “نيوزنايت” على قناة “بي بي سي” البريطانية في أثناء زيارته إلى لندن منتصف 2018 حجم ما وصلت إليه العلاقات الدافئة مع العواصم العربية والإسلامية على حد سواء، متجاوزًا خريطة الدول التي تقيم علاقات دبلوماسية مع تل أبيب إلى آفاق أخرى أكثر اتساعًا.
قبل يومين كشفت البيانات الصادرة عن دائرة السكان والهجرة الإسرائيلية قفزة كبيرة في أعداد السائحين الوافدين من الدول العربية والإسلامية لدولة الاحتلال خلال عام 2018، إذا ما قورنت بالأعوام السابقة، وهو ما فسّره البعض أنه ترجمة عملية لمخطط الكيان الصهيوني للتقارب مع دول المنطقة.
تشير دائرة السكان والهجرة إلى أن ما يقرب من 37555 إندونيسيًا زاروا الأراضي المحتلة خلال العام الماضي وهو رقم غير مسبوق على الإطلاق
زيادة غير مسبوقة
الملاحظة الأبرز في البيانات الواردة هي زيادة عدد السائحين من الدول الإسلامية التي لا تربطها علاقات دبلوماسية مع الاحتلال، إذ بلغ عددهم قرابة 55 ألف سائح، فيما تصدرت الأردن ومصر قائمة الدول العربية، إذ إن هناك 12363 أردنيًا و4947 مصريًا زاروا دولة الاحتلال العام الماضي، من إجمالي 72109 شخصًا في 2018 قادمين من دول عربية وإسلامية.
ربما يكون الأمر مقبولاً لدى البعض بالنسبة للأردنيين والمصريين على اعتبار أنهما الدولتين العربيتين الوحيدتين اللتين ترتبطان بعلاقات دبلوماسية كاملة مع تل أبيب، إلا أن اللافت كذلك هو زيادة أعداد الزائرين من الدول التي لا ترتبط بعلاقات رسمية، ويأتي على رأسها المملكة المغربية، إذ زار قرابة 2108 مغربيين “إسرائيل” خلال العام الماضي، يليهم التونسيون بـ949، والقطريون بـ81، ثم العمانيون بـ56، يليهم الجزائريون بـ36، والكويتيون بـ34، والإماراتيون بـ25، والسعوديون بـ6.
وتشير دائرة السكان والهجرة إلى أن ما يقرب من 37555 إندونيسيًا زاروا الأراضي المحتلة خلال العام الماضي وهو رقم غير مسبوق على الإطلاق في تاريخ التبادل السياحي بين الدولتين، في ظل موجات المد والجزر التي شهدتها العلاقات المشتركة على مدار السنوات الأخيرة، وهو ما دفع للتساؤل حول دلالات هذا الرقم.
قفزة كبيرة في أعداد الزائرين لدولة الاحتلال
إندونيسيا.. كلمة السر
عام 2013 بلغ عدد السائحين الإندونيسيين لـ”إسرائيل” أقصى عدد من الممكن أن يصل إليه، كان تقريبًا 30 ألف سائح، وهو 3 أضعاف ما كان عليه في 2009، حينها اعتقد البعض أن سقف هذا الرواج المتبادل لن يرى صعودًا أكثر من ذلك، خاصة في ظل تأرجح العلاقات بين البلدين بسبب القضية الفلسطينية، إلا أن ما تم كشفه وفق بيانات الدائرة الإسرائيلية ربما أثار الكثير من علامات الاستفهام.
العلاقات الإسرائيلية الإندونيسية تعود بشكل واضح إلى العام 1993 بالتزامن مع اتفاق أوسلو، حين نشأت اتصالات سرية بين البلدين، أخذت في التنامي في كثير من الأبعاد على رأسها البعد الاقتصادي خاصة في السنوات الأخيرة، ولعل زيارة وزير الاقتصاد والتجارة الإسرائيلي نفتالي بينيت إلى إندونيسيا في الـ10 من نوفمبر/تشرين الثاني 2013، لحضور مؤتمر دولي تابع لمنظمة التجارة العالمية كانت رأس سنام تلك العلاقات.
سجّلت هذه الزيارة وقتها على أنها أول زيارة رسمية لمسؤول إسرائيلي لإندويسيا بعد زيارة رئيس الحكومة إسحق رابين إليها في العام 1993، لتدخل العلاقات بين البلدين منعطفًا جديدًا من التعاون الخفي غير المعلن، في ظل تباين وجهات النظر بين الطرفين بشأن تعاطي “إسرائيل” مع عملية السلام في الشرق الأوسط.
جهود حثيثة تبذلها دولة الاحتلال لتعزيز التقارب مع البلدان العربية غير التي تربطها علاقات دبلوماسية رسمية معها، على رأسها في القارة الإفريقية المملكة المغربية
ونتاجًا لحزمة من المحادثات بين البلدين عبر قنوات وسيطة ألغى الجانب الإسرائيلي التقييدات المفروضة على دخول السياح الإندونيسيين إلى الأراضي المحتلة، ليرد عليه الجانب الإندونيسي بالمثل، بإلغاء القيود على زيارة السياح الإسرائيليين إلى البلاد، وهو التطور الذي قوبل بحفاوة إسرائيلية بالغة.
وفي مايو 2018 تبدلت الأمور إثر التنديد الإندونيسي بممارسات الاحتلال الإسرائيلي بحق سكان قطاع غزة، وقتل عشرات المدنيين في مسيرات العودة، وعليه قررت جاكرتا منع دخول الإسرائيليين إلى أراضيها، ما دفع الجانب المحتل إلى اتخاذ ذات القرار حتى إشعار آخر.
لم يستمر الأمر كثيرًا، إذ سعت تل أبيب إلى محاولة كسر حالة الجمود في العلاقات مع السلطات الإندونيسية، خاصة وأن علاقات تجارية وأمنية تربطها معها. وعليه حاولت تل أبيب استعادة العلاقات عبر وساطة سنغافورة، هذا بخلاف محاولات استقطاب الرأي العام الإندونيسي عبر تقديم العديد من المغريات له كتفعيل مواقع الإنترنت واستقبال بعثات من الصحافيين وقادة الرأي العام الإندونيسيين، ودعوة رجال الأعمال في إندونيسيا للاحتفال بعيد الاستقلال الذي تقيمه السفارة الإسرائيليّة في سنغافورة.
ما يقرب من 37555 إندونيسيًا زاروا الأراضي المحتلة خلال العام الماضي
تنامي عدد السياح المغاربة
في 2014 أشارت إحصائية رسمية إسرائيلية إلى أن عدد السائحين المغاربة الذين زاروا “إسرائيل” تزايد بصورة ملفتة للنظر، إذ سجل ارتفاعًا قياسيًا بنسبة 36%، لتحتل المملكة المرتبة الثالثة في لائحة أهم الأسواق الإفريقية لقطاع السياحة الإسرائيلي، بعد جنوب إفريقيا ونيجيريا.
جهود حثيثة تبذلها دولة الاحتلال لتعزيز التقارب مع البلدان العربية غير التي تربطها علاقات دبلوماسية رسمية معها، على رأسها في القارة الإفريقية، المملكة المغربية، حيث ذكرت العديد من وسائل الإعلام العبرية رغبة صناع القرار في دولة الاحتلال بدعم العلاقات مع المغاربة.
زيارة قرابة 2108 مغربي للأراضي المحتلة خلال العام الماضي، تحتل بها المملكة المرتبة الأولى على قائمة أعداد الزائرين من الدول التي لا ترتبط بعلاقات رسمية مع تل أبيب، يعكس وبشكل كبير حجم ما وصلت إليه العلاقات، لا سيما في ظل الأعداد الكبيرة لليهود المغاربة الذين يشكلون حلقة الوصل الرئيسية بين البلدين.
عزف الإعلام العبري خلال الأشهر الماضية على زيارة قريبة من المقرر أن يجريها نتيناهو للمغرب، ﻗﺒﻴﻞ ﺇﺟﺮﺍﺀ ﺍﻧﺘﺨﺎﺑﺎﺕ ﺍﻟﻜﻨﻴﺴﺖ ﺍﻹﺳﺮﺍﺋﻴﻠﻲ الماضية، حيث كشفت صحيفة “يديعوت أحرونوت” رغبة نتنياهو في ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺍﻹﻧﺠﺎﺯﺍﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﻘﻘﺖ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﻦ، ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﻭﺍﻹﺳﻼﻣﻲ، ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﺴﻌﻲ ﻟﺰﻳﺎﺭﺓ الرباط وفتح صفحة جديدة في العلاقات.
وتعود العلاقات بين البلدين إلى 1993 عقب اتفاقية أوسلو لكنها لم تدم طويلاً، حيث تم قطعها ﺑﻌﺪ ﺍﻧﺪﻻﻉ ﺍﻻﻧﺘﻔﺎﺿﺔ ﺍﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻴﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺑﺪﺃﺕ ﻓﻲ ﻋﺎﻡ 2000، إلا أنه ومنذ ذلك الحين لا يتوقف الجانب الإسرائيلي عن البحث عن مداخل لعودة تلك العلاقات وتعزيزها مرة أخرى.
وزيرة الثقافة الإسرائيلية خلال زيارتها للإمارات
قطار التطبيع
رغم الرفض الشعبي الواضح لكل مساعي الدفع نحو التخلي عن الثوابت الوطنية والعروبية، فإن قطار التطبيع خلال السنوات الأخيرة تجاوز العديد من المحطات التي كان من الصعب العبور منها قبل ذلك، في ظل هرولة غير مبررة من العديد من العواصم العربية على رأسها الخليجية وفي مقدمتها السعودية والإمارات وعُمان للتقارب مع دولة الاحتلال.
فبينما يعزف المحمدان، ابن سلمان وابن زايد، على أوتار التطبيع مع الكيان الصهيوني بزعم تدشين جبهة موحدة في مواجهة إيران، إلى الحد الذي بات فيه افتتاح سفارة إسرائيلية في الرياض وأبو ظبي أو العكس مسألة وقت وفق ما ذهب البعض، تفتح مسقط ذراعيها لنتنياهو على أنغام النشيد الوطني الإسرائيلي الذي عزف في الإمارات كذلك لأول مرة، هذا بخلاف العلاقات الدافئة التي وصلت إليها العلاقات مع القاهرة.
البيانات الصادرة عن دائرة السكان والهجرة الإسرائيلية بشأن زيادة عدد الزوار العرب والمسلمين للأراضي المحتلة، وإن عكست استجابة نسبية لجهود تل أبيب في التقارب مع العواصم العربية والإسلامية إلا أنها استجابة مؤقتة
الأمر لم يقتصر على الحكومات والأنظمة فحسب، بل عزفت العديد من الأذرع الإعلامية هنا وهناك على ذات الوتر، فها هي الإعلامية الكويتية فجر السعيد تجاهر بالدعوة إلى التطبيع مطلع العام الحاليّ، تلك الدعوة التي لقيت ترحيبًا إسرائيليًا في حين هاجمها الكثير من العرب.
الواقعة ذاتها تكررت مع الإعلامي السعودي دحام العنزي، الذي كتب مقالاً أيّد فيه دعوة عضو الكنيست الإسرائيلي يوسي يونا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لقبول مبادرة السلام العربية ودعوة محمد بن سلمان لزيارة “إسرائيل” وإلقاء خطاب في الكنيست على غرار ما فعل الرئيس المصري الأسبق أنور السادات.
العنزي أعلنها صراحة في مقاله “بعيدًا عن العواطف الساذجة والمزايدات الرخيصة والاتهامات الجوفاء والعنتريات البائسة، وفِي ظل ممارسات إرهابية لطغمة شيطانية حاكمة في طهران، أقول إن المشهد الملتهب في الشرق الأوسط والقضاء على الإرهاب وصناعة السلام العادل والشامل لن يتم أبدًا إلا بوجود علاقات طبيعية بين المملكة العربية السعودية ودولة إسرائيل”.
وفي المجمل فإن البيانات الصادرة عن دائرة السكان والهجرة الإسرائيلية بشأن زيادة عدد الزوار العرب والمسلمين للأراضي المحتلة، وإن عكست استجابة نسبية لجهود تل أبيب في التقارب مع العواصم العربية والإسلامية إلا أنها استجابة مؤقتة في ظل سيطرة حالة الرفض على الشارع وهو ما يتضح بين الحين والآخر رغم تضييق الخناق والمستجدات الإقليمية والدولية الراهنة التي أعادت وبشكل كبير ملامح خريطة التحالفات والتوجهات السياسية.