لم تعد نكبة فلسطين وحدها الحدث الصادم الذي تتحدّث عنه الأجيال العربية وتتناقل قصصه وتسرد تاريخه وتحفظ رواياته. فقد سجّل العقد الأخير وحده عددًا من الأحداث الجَماعية الصادمة وما يرتبط بها من تجارب شخصية وفردية تترك آثارها في الفرد بشكلٍ أكثر تعقيدًا ممّا نتخيل.
في أدبيات وموروثات علم النفس، غالبًا ما ترتبط الحروب والكوارث باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) والذي إنْ أمكننا تعريفه باختصار لقلنا إنّه عبارة عن مجموعة من الأعراض العنيفة التي تُطيح بتوازن الأفراد وتصوّرهم عن ذواتهم والعالم من حولهم. إذ يحتلّ الحدث الصادم جزءًا كبيرًا من ذاكرتهم ويعشّش في وعيهم ويشوّه النافذة التي يرون العالم من خلالها، ما يُنتج ضغطًا نفسيًا وعصبيًا كبيرًا لا يمكن احتماله.
تنشأ الصدمة نتيجةَ عجز عقولنا عن استيعاب الأحداث التي تهدّد وجودها الشخصي وتصنع الفوضى في عالمها الخارجي؛ فتنفصل الذات عن نفسها وعن المحيط بها انفصالًا يتحوّل إلى صراعٍ مرير مع الذكريات والأحلام واستعادة تفاصيل الحدث والخوف من تكراره أو من الاقتراب من كلّ ما يتعلّق ويرتبط به.
يحمل الأفراد بعض الآثار النفسية لآلام أجدادهم وأسلافهم ويختبرون ذلك مع المشاعر والقصص والحكايات المرتبطة بهم
لكن ما يُخبرنا به تاريخ الصدمات، الجماعية منها والفردية، أنّ كلّ تلك العلامات والأعراض لا تتوقّف عند مَنْ يختبرها فقط، بل تنتقل إلى الأجيال اللاحقة. ومن هنا، تحمل فكرة أنّنا نحمل بعض الآثار النفسية لآلام أجدادنا وأسلافنا جاذبية عاطفية قوية؛ فنحن نختبر ذلك مع المشاعر التي تعترينا عندما ننظر إلى صورهم القديمة أو نستمع لقصصهم وحكاياتهم.
صدمة جماعية ومتوارثة
لا تعدّ هذه المصطلحات جديدة البتة، فقد نشأت في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية والهولوكوست. فقد لاحظ العديد من علماء وخبراء النفس أنّ أطفال وأحفاد الناجين من الهولوكوست قد أظهروا بعض أعراض الصدمة، مثل الكوابيس وبعض المشاكل العاطفية والسلوكية على الرغم من أنّ الصدمة الرئيسية قد واجهت الجدّ أو الأب أو الأمّ لا الطفل نفسه.
ومنذ ذلك الوقت، نشأت الحاجة لوضع مصطلحاتٍ مختلفة للتعامل مع هذه الظاهرة. تُعرف الصدمة الثانوية (Secondary Traumatic Stress) بأنها الأعراض التي تظهر في الجيل الثاني الذي تأثر بشكلٍ مباشر أو غير مباشر بما حدث مع الجيل الذي قبله. أمّا حين حديثنا عن الجيل الثالث وما بعده فهناك الصدمة المنتقلة عبر الأجيال (Transgenerational Trauma).
هناك الكثير من أعراض كلٍّ من الصدمة الثانوية والصدمة المنتقلة عبر الأجيال، مثل الاكتئاب والقلق العام والسلوكيات المدمّرة للذات وتدنّي تقدير الذات والشعور باليأس وانعدام القيمة واضطراب الهوية والأفكار الانتحارية. وبشكلٍ عام، تظهر هذه الأعراض لأنّ المصاب بها يواجه صعوبةً في التعامل مع آلام الماضي التي حمّل إياها، وفي محاولة الاستمرار بالحياة بعيدًا عن تلك الآلام وما يرتبط بها من سرديات.
تُعرف الصدمة الثانوية بأنها الأعراض التي تظهر في الجيل الثاني الذي تأثر بشكلٍ مباشر أو غير مباشر بما حدث مع الجيل الذي قبله. أمّا حين حديثنا عن الجيل الثالث وما بعده فهناك الصدمة المنتقلة عبر الأجيال
ونظرًا لأنّنا لا نعيش بمعزلٍ عن الآخرين من حولنا، فنحن نتأثر بهم ويتأثرون بنا، يصبح من السهل علينا الإصابة بما يُعرف بالصدمة النفسية بالإنابة (Vicarious Trauma). ومن اسمها، يحدث هذا النوع من الصدمة نيابة عن شخصٍ ما أو عدة أشخاص نتيجة معايشة قصصهم الصادمة والاستجابة لها والتفاعل معها شعوريًا وإدراكيًا.
يمكن أنْ يحدث ذلك من خلال متابعة الأخبار على سبيل المثال، أو سماع قصص الناجين من الحرب أو ضحايا المجزرة. وبوصفنا بشرًا فإنّنا غالبًا ما نقوم بالتعاطف مع تلك الحالات ومعايشة معاناتهم حتى تصبح جزءًا لا يتجزأ منّا ومن تجاربنا وذواتنا. ولربّما يحمل لنا هذا التعاطف، سواء مع أشخاص نعرفهم أو لا نعرفهم العديد من الآثار العميقة التي قد تستمرّ معنا بقية حياتنا إنْ لم نعالجها ونتعامل معها.
كيف نورث صدماتنا؟
ربّما ألحّ هذا السؤال للمرّة الأولى بعد عودة الجنود الناجين من الحرب الأهلية الأمريكية عام 1864 من معسكرات الأسرى التي شهدوا فيها ظروفًا صعبة لم تنتهِ بمجرّد انتهاء الحرب وامتدّت معهم مدى الحياة؛ معظمهم عادوا إلى مجتمعاتهم إما بصحة جسدية متدهورة أو بإعاقة جسدية عنيفة، عوضًا عن الحالة النفسية الصعبة التي وجدوا أنهم عليها.
المثير للاهتمام هنا أنّ الآثار النفسية التي عانى منها الناجون لم تتوقّف عندهم وحسب، بل امتدّت إلى أطفالهم ومن ثمّ إلى أحفادهم، الذين لم يشهدوا الحرب ولم يعانوا من تجارب معسكرات الاعتقال، وإنّما توفّرت لهم ظروفًا حياتية أفضل وعاشوا طفولةً مستقرة وآمنة.
تحدث الصدمة المنتقلة عبر الأجيال نظرًا لأنّ العوامل الخارجية والبيئية قادرة على تعديل عمل الجينات أو كيفية قراءتها والتعبير عنها. ما يعني أننا نرث بعض الآثار النفسية الناتجة من تجارب آبائنا وأجدادنا، خاصة معاناتهم، من خلال الجينات التي نرثها عنهم
في منتصف شهر أكتوبر الماضي، نشر مجموعة من الباحثين في جامعة كاليفورنيا نتائج دراستهم التي تتبّعت حوالي 4600 طفلٍ كان آباؤهم من أسرى الحرب، وقارنوهم بأكثر من 15 ألف طفلٍ شارك آبائهم بالحرب دون أنْ يخوضوا تجربة معسكرات الاعتقال. أمّا فيما يتعلّق بالنتجية فيمكننا القول بأنّ الفئة الأولى كانت أكثر عرضةً لخطر الموت من الفئة الثانية بنسبة 10% في أيّ عامٍ بعد منتصف العمر.
لكنّ الأكثر غرابةً من هذه النتيجة أنّ الأطفال الذكور كانوا أكثر تأثّرًا من الإناث، ما جعل الباحثين يفترضون أنّ الآباء قد نقلوا بعض عناصر الصدمة إلى أبنائهم الذكور. ولكن على عكس معظم الحالات الموروثة، لم يكن سبب ذلك حدوث طفرات في الشفرة الوراثية نفسها للآباء. هنا ظهر سؤالٌ آخر أكثر غموضًا: كيف يمكن لحدثٍ ما في حياة شخصٍ أن يغيّر في الحمض النووي الخاص به، وكيف يمكن نقل هذا التغيير إلى الجيل التالي؟
ولنختصر الإجابة المعقّدة، يمكننا اللجوء إلى علم التخلّق (epigenetics) أو علم ما وراء الجينات الذي يخبرنا أنّ العوامل الخارجية والبيئية قادرة على تعديل عمل الجينات أو كيفية قراءتها والتعبير عنها دون تغيير كود الحمض النووي نفسه. يحدث ذلك من خلال إضافة علامات كيميائية صغيرة إلى الحمض النووي أو إزالتها استجابةً للتغيرات في البيئة التي نعيش فيها. ومن ثمّ تعمل تلك العلامات على إحداث تغيير في الجينات لتوفير طريقة تكيّف مع الظروف المحيطة والمتغيّرة دون إلحاق تحول دائم في مكوّناتنا الوراثية.
يعدّ رحم الأمّ واحدًا من الطرق الرئيسية التي تنتقل بها الصدمات عبر الأجيال
تفترض الدراسة إذن وجود تأثير جيني على كروموسوم Y ساهم في نقل علامات الصدمة إلى الأبناء الذكور الذين وُلدوا بعد الحرب وليس قبلها. وبعبارةٍ أخرى فإنّها تشير إلى أنّنا نرث بعض الآثار النفسية الناتجة من تجارب آبائنا وأجدادنا، خاصة معاناتهم، والتي بدورها يمكن أنْ تؤثّر على صحتنا اليومية وربما تنتقل إلى أطفالنا أيضًا. فيما وجدت دراسة أجريت عام 2015 أنّ أطفال الناجين من الهولوكوست لديهم تغيرات جينية في جينٍ مرتبط بمستويات الكورتيزول، وهو الهرمون المسؤول عن الاستجابة للإجهاد والتوتر.
من جهةٍ ثانية، يعدّ رحم الأمّ أيضًا واحدًا من الطرق الرئيسية التي تنتقل بها الصدمات عبر الأجيال. تتعرّض الأمّ للصدمة والإجهاد النفسي فتنقل الأحماض الأمينية وما تفرزه من منبّهات ضارة من سائل الرحم إلى الجنين. لاحقًا قد تغيّر تلك المنبّهات من التعبير الجيني للجنين ما يمكن أن يكون له آثار ضارة طويلة الأمد.
أبعد من البيولوجيا
لا تقدّم لنا الأبحاث البيولوجية الإجابة الشافية في كثيرٍ من الأحيان. ثمّة ما هو أعقد وأوسع من ذلك، فهناك الكثير من العوامل النفسية والاجتماعية، خاصة تلك المرتبطة بالمراحل المبكّرة من عمر الطفل، يمكن لها أنْ تؤثّر على تطوّر الأفراد وذريّتهم.
غالبًا ما تنتقل علامات الصدمة عبر إشارات اللاوعي أو الرسائل العاطفية التي يتمّ تداولها بين الكبار والأطفال وأساليب الذاكرة الواعية أو اللاوعية والسرديات الديناميكية للعائلة ومن حولها
يرتبط اضطراب ما بعد الصدمة بالإجهاد والتوتّر اللذين يتحوّلان إلى نمطٍ ظاهريّ يتمّ التعبير عنه بالسلوكيات والمشاعر والعواطف المختلفة للأفراد، ما يمكن أنْ ينعكس على أبنائهم وأطفالهم. وبالتالي، يلعب الوسط الاجتماعي وأسلوب التربية والتعليم الذي يتعرّض له الطفل دورًا كبيرًا في تأثره بأعراض الصدمة التي عانى منها أجداده أو آبائه.
وغالبًا ما تنتقل علامات الصدمة عبر إشارات اللاوعي أو الرسائل العاطفية التي يتمّ تداولها بين الكبار والأطفال وأساليب الذاكرة الواعية أو اللاوعية والسرديات الديناميكية للعائلة ومن حولها. وبكلماتٍ أخرى، يستمرّ الماضي بتقديم نفسه بطرقٍ مختلفة في المجتمعات وتبقى المظالم والصدمات التاريخية دائمة الحضور.
في حالات الحروب والاستعمار والممارسات العنصرية والأحداث السياسية العنيفة، تصبح الصدمة النفسية جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة الجمعية للأفراد والشعوب وامتدادًا متجذّرًا لهويّتهم القومية أو الدينية أو العرقية والإثنية في ظلّ محاولات الطمس والاستعباد وتغيير الحقائق والتلاعب بالتاريخ للتحكّم بالواقع والسيطرة على المستقبل.
خذ على سبيل المثال النكبة الفلسطينية. فعلى الرغم من أنّ الأجيال الحالية لم تعش ذلك الحدث ولم تتأثر به بشكلٍ مباشر، إلا أنّ الذاكرة الجمعية المرتبطة بالصدمة التي حدثت قبل 71 عامًا ستبقى تشكّل شرطًا أساسيًا لوجود الفلسطينيّين وهويّتهم وتاريخهم وأحقّيتهم بأرضهم وتاريخًا مفصليًا لا يجب نسيانه.
وبالمثل، ستبقى الصدمات النفسية الجماعية التي مرّت بالشعوب العربية في العقد الأخير من الزمن جزءًا أساسيًا من ذاكرتهم الجمعية تنتقل عبر الأجيال ويتوارثها الأبناء من آبائهم وأمّهاتهم. ولربّما تكون مشاعر الصدمة والعواطف المرتبطة بها من قهرٍ وغضبٍ وقلقٍ هي المحرّك والدافع للتغيير وإعادة رسم الواقع والتاريخ من جديد.