نجح المصريون على مرّ الزمان في الحفاظ على طقوسهم المتوارثة في شهر رمضان رغم ما مرّت به مجتمعاتهم من موجات مدّ وجزر تسببت في إعادة هيكلة وتشكيل خارطة العادات والتقاليد، حتى تحوّلت إلى سمات وعلامات بارزة في تكوين الشخصية المصرية، بات من الصعب الفصل بينهما.
ورغم ثراء منظومة الطقوس الرمضانية لدى المصريين إلى أن بعضها يتبوأ مكانة عالية وحضورًا طاغٍ طيلة ليال الشهر الثلاثين، على رأسها “الخيم الرمضانية” التي فرضت نفسها في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص كونها أحد أعلام رمضان في أرض المحروسة وقبلة الزائرين من الخارج قبل الداخل.
وفي الوقت الذي تعرضت فيه منظومة العادات المصرية في هذا الشهر الكريم لرياح التغيير في ظل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي ألقت بظلالها على المجتمع بكافة أطيافه، إلا أن الخيم الرمضانية نجحت في الحفاظ على هويتها إلى حد ما، عبر ما أبدته من مرونة كبيرة وقدرة على التعاطي مع الظروف بتنويع أشكالها بما يتلاءم مع كافة الأوضاع.
أجواء تراثية وطقوس مميزة
في شوارع القاهرة القديمة، وبالتحديد في مناطق الحسين والأزهر والسيدة عائشة والإمام الشافعي، بجانب وسط البلد، تأسرك الخيم الرمضانية التي تغطي سماء العاصمة، بألوانها الزاهية وحكاياتها المبهجة، فلا يكاد يخلو ممر هناك إلا وبه خيمة، وسواء كبرت أم صغرت يفوح من بين ثناياها أجواء تراثية تخطف القلوب قبل الأبصار.
أصوات الأواني النحاسية التي تداعب بعضها البعض على أنغام الألحان الصوفية والمقطوعات التراثية كفيلة وحدها أن تأخذك إلى عالم آخر، تسمو فيه الروح فوق كل آلام الحياة، وتسبح في روحانيات الشهر الفضيل فتنسلخ من عباءة الواقع المؤلم إلى مآلات أخرى، ممتطية جواد الخيال.
عدد من المصريين يلجأون في هذا الشهر الكريم إلى توظيف ما لديهم من إمكانيات لأجل التربح والكسب، ومن بينها إقامة خيام رمضانية، سواء في أعلى أسطح العمارات أو بداخل الفيلات
تنتشر الخيم الرمضانية على وجه الخصوص في الأماكن التراثية القديمة، لا سيما في الكافيهات والشوارع ذات المكانة التاريخية، إذ يحيط بالمقيمين داخل الخيمة جدران وأعمدة ومبانٍ تعود إلى مئات السنين، ما يستدعي المتأمل معها التاريخ بين يديه ويتنسم عبقه في أجواء “ترد الروح” كما يصفها المصريون الحريصون على حضور تلك الخيم.
بعض الخيام المنصوبة تقدم وجبات الإفطار والسحور، وتستعين ببعض الفرق الموسيقية التراثية، وعدد من الفنانيين، إضافة إلى التطعيم بالعروض الفنية المبهجة، وأخرى تكتفي بتقديم المشروبات الساخنة والباردة والشيشة “الأرجيلة”، وفي بعض الأحيان تستعين الأسر بملحن معين (ينتشرون على المقاهي) يقضي معها الساعات حتى السحور يعزف أعذب الألحان ويشجي بأطرب الأغنيات مقابل نظير مادي يحصل عليه أخر اليوم.
رقص وأغاني تراثية في الخيم الرمضانية
ضوابط وشروط
في ضوء الانتشار الكثيف للخيم الرمضانية حدّدت السلطات المحلية في مصر عددًا من الشروط والضوابط لإقامتها حفاظًا على حياة المواطنين والممتلكات العامة والخاصة، كذلك محاولة لتنظيمها وضمان عدم خروجها عن القواعد المعمول بها والتي يحدّدها القانون واللوائح الداخلية.
ما يقرب من عشرة شروط وضعتها كل من محافظتي الجيزة والقاهرة هذا العام لإقامة الخيام الرمضانية منها أنّ يكون السرادق بعيدًا عن المنشآت البنائية، وأنّ تتوافر فيه اشتراطات الدفاع المدني والحريق والصحة العامة ووسائل الإطفاء الكافية داخل الخيمة، وفقًا لما تقرره الحماية المدنية والأمن الصناعي.
رغم التأثر الواضح بفعل الأحوال الاقتصادية إلا أن خارطة الخيام الرمضانية حافظت بشكل كبير على معظم ملامحها وإن شابها بعض التغيرات الطفيفة
هذا بجانب ضرورة الحصول على تصريح من الحيّ أو الوحدة المحلية المختصة، وأن يكون للخيمة منفذًا للدخول والخروج للطوارئ، وعلى مساحات خالية وطرق مفتوحة، لعدم التسبب في إعاقة حركة المرور وسيولة الخروج منها، كما يجب أنّ يكون الهيكل الإنشائي لها من المعدن، وأنّ تكون الأقمشة والفرش مقاومة للحريق، وأنّ تترك مسافة أمامية بين الخيمة والمبنى لا تقل عن 15 مترًا.
علاوة على وجوب مراعاة الأصول الفنية في توصيلات الكهرباء، ووجود مصدر احتياطي، والتأكد من وجود مصدر المياه قرب الخيمة للطوارئ، وفتحة علوية لخروج أي أبخرة أو أدخنة، كما وجّه المحافظون رؤساء الأحياء والمراكز والمدن، بعدم السماح بإقامة أي سرادقات قبل التأكد من توافر العناصر التي تم تحديدها.
تنتشر الخيم بكثافة في وسط القاهرة وعلى جنبات كورنيش النيل
3 أنواع من الخيام
كغيرها من العادات المجتمعية المصرية، تأثرت الخيم الرمضانية في مصر بالأوضاع المعيشية المتردية التي يعاني منها المصريون طيلة السنوات الماضية، تلك الأوضاع التي زادت من عزوف شريحة كبيرة من المواطنين متوسطي الدخل عن المشاركة في مثل هذه الطقوس الترفيهية.
ورغم التأثر الواضح بفعل الأحوال الاقتصادية إلا أن خارطة الخيام الرمضانية حافظت بشكل كبير على معظم ملامحها وإن شابها بعض التغيرات الطفيفة التي لم تحدث تأثيرات جوهرية، ومن ثم انقسمت تلك السرادقات إلى 3 أقسام، وفق الشرائح المجتمعية والقدرات المادية للمصريين.
الأول: الخيم الفندقية. هذه النوعية تعد الأعلى مستوى، حيث تقيمها الفنادق الكبرى والمنتجعات والقرى السياحية، وتكون إما في الدور الأسفل للفندق أو في الأعلى، وفي الغالب تكون مصحوبة بفرق موسيقية كاملة ومطربين ذوي شهرة عالية، وفي بعض الأحيان يتم الاستعانة ببعض الراقصات.
تتميز هذه الخيم بالأسعار العالية بالنسبة لغير المقيمين في الفندق، أما النزلاء فتعد أحد وسائل الجذب لهم، وبالفعل تحقق شهرة كبيرة وتكون مصدرًا قويًا لتحقيق إشغالات عالية خلال هذا الشهر، ومن ثم يلاحظ نسب إشغال ربما تصل إلى 100% في فنادق القاهرة والمدن الشاطئية كالإسكندرية وشرم الشيخ والبحر الأحمر.
خيمة فندقية
الثاني: الكافيهات والمطاعم. تلجأ بعض الكافيهات الشهيرة والمطاعم إلى بناء سرادقات رمضانية تجذب بها الزوار خلال ليال الشهر الكريم، ربما لا تختلف كثيرًا عن نظيراتها في الفنادق والمنتجعات من حيث المستوى، وفي بعض الأحيان قد تتجاوز أسعارها أضعاف الفنادق لما تتضمنه من بعض الخصوصية.
وفيها تقدم كافة أنواع الطعام على موائد الإفطار والسحور، وإن كانت تتميز بالأخير على وجه التحديد، حيث الألحان المعزوفة وبعض الاسكتشات المضحكة التي تضفي البهجة والسرور على الحضور، وفي الغالب تكون قبلة للشباب المصري الذي يفضل المناطق المفتوحة عن الفنادق المغلقة.
خيمة رمضانية داخل فيلا
الثالث: خيام موسمية. عدد من المصريين يلجأون في هذا الشهر الكريم إلى توظيف ما لديهم من إمكانيات لأجل التربح والكسب، ومن بينها إقامة خيام رمضانية، سواء في أعلى أسطح العمارات أو بداخل الفيلات، وفيها يقوم صاحب الفيلا أو مستأجرها بإقامة سرادق يروج له على منصات السوشيال ميديا يدعوا الناس للإفطار والسحور نظير مقابل مادي.
هذا النوع من الخيام يلقى قبولًا جماهيريًا كبيرًا نظرًا لقلة أسعاره بجانب البساطة التي تخيم عليه، إذ أن الخيمة ليست بالمساحة التي تستوعب عددًا كبيرًا ، ومن ثم تنحصر المسألة في بضع عشرات يجتمعون على موائد متقاربة ويتبادلون التهاني ويستمتعون معًا بأنغام الموسيقى والأغاني التراثية التي في الغالب تكون على جنبات حمامات السباحة في مشاهد تبعث على الفرح لا سيما من قبل الأطفال وصغار السن.
خيمة فوق أحد الأسطح
ومن ثم ورغم الضغوط الاقتصادية التي يتعرض لها المصريون إلا أن الخيام الرمضانية ظلت واحدة من أكثر الطقوس التي حافظت على بقائها في مصر على مدار عقود طويلة مضت، فهي المتنفس الوحيد لكثير من الصائمين وشاطئهم الذي يغتسلون فيه من غبار ضيق الحياة وضغوطها.